الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء العاشر “

بقلم: محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء العاشر مع وداع رمضان، ولقد رحل رمضان ورحيله مر على الجميع، الفائزين والخاسرين، الرحيل مر على الفائزين لأنهم فقدوا أياما ممتعة، وليالي جميلة، نهارها صدقة وصيام، وليلها قراءة وقيام، نسيمها الذكر والدعاء، وطيبها الدموع والبكاء، شعروا بمرارة الفراق فأرسلوا العبرات والآهات، كيف لا وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟ كيف لا والدعاء فيه مسموع، والضر مدفوع، والخير مجموع؟ كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين؟ كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود؟ فإن الفائزون من خشية ربهم مشفقون نعم، هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون، على رغم أنهم في نهاره في صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان، وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع، وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار، فإن الفائزون شمروا عن سواعد الجد، فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا.

ما تركوا بابا من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكن مع ذلك كله، قلوبهم وجلة خائفة بعد رمضان، أقبلت أعمالهم أم لا؟ أكانت خالصةً لله أم لا؟ أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا؟ كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون همّ قبول العمل أكثر من همّ القيام بالعمل نفسه، فقال عبد العزيز بن أبي رواد أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوا وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟ لا يغفلون عن رمضان، فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟ وقال علي رضي الله تعالى عنه “كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل ” إنما يتقبل الله من المتقين” وقال مالك بن دينار “الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل” وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان ينادى في آخر رمضان فيقول “يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟” وعن ابن مسعود أنه قال “من هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟”

وبعد هذه الأيام مَن منا أشغله هذا الهاجس وقد مضى رمضان؟ فمن منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا؟ من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان؟ إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان، ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا؟ أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملا ثقيلا كان جاثما على صدورنا؟ رحل رمضان، لكن ماذا استفدنا من رمضان؟ وأين آثاره على نفوسنا وسلوكنا وأقوالنا وأفعالنا؟ هكذا حال الصالحين العاملين، فهم في رمضان صيام وقيام، وتقلب في أعمال البر والإحسان، وبعد رمضان محاسبة للنفس، وتقدير للربح والخسران، وخوف من عدم قبول الأعمال، لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان، أما المفرطون نعوذ بالله من حالهم، فهم نوعان، أناس قصروا فلم يعملوا إلا القليل، صلوا التراويح والقيام سراعا، فهم لم يقوموا إلا القليل، ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل.

ولم يقدموا من الصلوات إلا القليل، الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها، والصيام يئن من تجريحه وتضييعه، والقرآن يشكو من هجره ونثره، والصدقة ربما يتبعها مَنّ وأذى، الألسن يابسة من ذكر الله، غافلة عن الدعاء والاستغفار، فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان، لكن فطرة الخير تجذبهم، فتغلبهم تارة ويغلبونها تارات، فهم يصلون التراويح، لكن قلوبهم معلقة بأشياء أخرى، وكانوا هم يقرءون القرآن في النهار، لكنهم يصارعون النوم بعد ليالي من السهر والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية، أما الصلاة، فصلاة الظهر عليها السلام، وربما العصر بل وربما الفجر، كل ذلك بسبب التعب والإرهاق كما يقولون فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم فتجرعوا مرارة الرحيل، بكاء وندما، حزنوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الأوان، بعد أن انقضت أفضل الأيام، أما النوع الثاني من المفرطين فهم الخاسرون نعوذ بالله من الخسران فهناك من لم يقم رمضان، ولم يقرأ القرآن.

وربما لم يصم في رمضان، فنهاره ليل وليله ويل، لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها، فمتى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مرضان؟ متى يزرع من فرط في وقت البذار، فلم يحصد غير الندم والخسار؟ مساكين هؤلاء فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان، فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، لا صيام ينفع ولا قيام يشفع، قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، حالها في رمضان كحال أهل الشقوة، لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر فيلحق بالصفوة، فيا أيها الخاسر، رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران، فأصبح لك خصما يوم القيامة، رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن، فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، فيا من فرط في عمره وأضاعه، كيف ترجو الشفاعة؟ أتعتذر برحمة الله؟ أتقول لنا إن الله غفور رحيم؟ لكن ” إن رحمة الله قريب من المحسنين” العاملين بالأسباب الخائفين المشفقين.

فقد سئل ابن عباس رضى الله عنهما عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات، فقال رضي الله تعالى عنه “هو في النار” وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال “آمين آمين آمين، قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين، قال إن جبريل أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين” إلى آخر الحديث، فيا أيها الخاسر، رحل رمضان وربما خسرت خسارة عظيمة، ولكن الحمد لله، فما زال الباب مفتوحا والخير مفسوحا، وقبل غرغرة الروح، ابكى على نفسك وأكثر النوح، فإن هذه بعض الثوابت الإيمانية التي رأيناها في رمضان، ولا ينبغي لمسلم صادق أن يتخلى عن هذه الثوابت بعد رمضان، ونحن في أمس الحاجة إلى وصية سيد ولد عدنان إلى وصية الحبيب المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، حينما جاءه سفيان بن عبد الله وحديثه في صحيح مسلم.

وقال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم” قل آمنت بالله ثم استقم” وهاهو شهر رمضان قد انتهى، انتهى شهر الصيام والقيام والقرآن والبر والجود والإحسان، فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليالى ذات أنوار على ليالى لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقي إخوتي من فضل أعمار إنا لله وإنا إليه راجعون وهكذا أسرعت أيام الخير والبر والفضل والطاعة، ولا شك أن ربنا جل وتعالى قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، فأنت ترى الناس تقبل على طاعة الله في رمضان بأريحية عجيبة، وبيسر وسهولة غريبة لأن الله قد هيأ الناس في رمضان للطاعة، وقد سهل الطاعة للصادقين من المؤمنين في رمضان، ولكن ليس معنى ذلك أن نعرض عن كثير من الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فأنت ترى المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *