حكمة سومر أم فلسفة اليونان
حكمة سومر أم فلسفة اليونان
بقلم / حسين عجيل الساعدي/العراق
(ثمة هزيمة داخلية في الفكر
العربي تجعل من الغرب المرجعية
الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد)
عبد الوهاب المسيري
“رحلتي الفكرية
في البذور والجذور والثمر”
من نافلة القول وأنا أتناول هذا المبحث، لابد أن أذكر نصاً توراتياً ورد في (التوراة/ سفر إيرميا أصحاح 51 : 7)، يقول:(بَابِلُ كَأْسُ ذَهَبٍ بِيَدِ الرَّبِّ تُسْكِرُ كُلَّ الأَرْض. مِنْ خَمْرِهَا شَرِبَتِ الشُّعُوب)، يقول “القديس جيروم” في معرض تفسيره لهذا النص التوراتي:(بإختصار يلزمك أن تعرف أن الذهب غالبًا ما يكون تشبيهًا للبلاغة العالمية، والكأس الذهبي حقًا هو تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء، بكأسهم الذهبي، وسمو بلاغتهم، تتذوقون عذوبة بلاغتهم). أما العلامة “أوريجينوس” يقول:(هو النظرة إلى جمال بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهب).
الفلسفة من المصطلحات المتداولة في اللغات الحية، وتأتي بمعان عدة فهي كمصطلح لغوي يوناني الأصل، لأنه مركب من (يلو – سوفيا)، هناك من يرى أن “فيثاغورس” (497 ق.م) أول من أستعمل اللفظ وأستخدمه، الذي قال:(أن صفة الحكمة لا تصدق على أي مخلوق بشري وأن الحكمة للاله وحده وبهذا فهو محب للحكمة)، “مشكلة الفلسفة، زكريا ابراهيم” . أما أول من ثبتها في التاريخ اليوناني “هيرودوت” (425 ق.م)، حين أستعمل الفعل يتفلسف، في القرن الخامس ق.م، والذي روى عن “كرسوس”: إنه قال لصولون الحكيم:(لقد سمعت إنك جبت كثيراً من البلدان متفلسفاً بغية ملاحظتها وإكتشاف معالمها)، “الفلسفة ومباحثها، د. محمد علي ابو ريان”. يقول “شيشرون” (43 ق.م) عن نفسه:(لست حكيماً لإن الحكمة لاتضاف لغير الالهة وما أنا إلا فيلسوفاً، أي “محب الحكمة”).
(الحكمة) في اللغة السومرية مشتقة من (أبكلو) وتعني بالسومرية (الحكيم المُتبحر في الحكمة)، وبهذا المعنى وردت في خاتمة شريعة حمورابي في نعت إله الحكمة والمعرفة والماء، وهو الإله (أيا) والذي يُقابله الإله (أنكي) عند السومريين. كذلك نُعت بصفة الحكمة إله بابل (مردوخ)، ومن بعده إبنه الإله (نبو) الذي كان إله الحكمة والكتابة والقلم. ثم أضاف الأكديون لاحقاً (أوتو) إلى كلمة الـ(أبكلو) فصارت (أبكلوتو) والتي تعني (الفائق الحكمة)، وورد في النصوص المسمارية مرادفات لكلمة (أبكلو) منها (عمقو): أي (التعمق)، و(خاسيسو) أي: (الحكيم الحساس)، ومنه جاء إسم بطل ملحمة الطوفان (أترا – حاسس) أي:(المتناهي الحكمة). كذلك أطلق إسم الحكمة على الحكماء السبعة في حضارة وادي الرافدين، (ألأبكالو السبعة)، وهم حسب الميثولوجيا السومرية حكماء السماء السبعة، وهم نصف ألهة خلقهم الإله السومري (إنكي)، المسؤولون عن خلق الثقافة والحضارة في سومر والشعوب الآخرى. وهم الكهنة الرئيسيون للاله (إنكي) كبير الالهة السومرية الذين حثوا الاله (إنكي) على حدوث الطوفان في أرض سومر وذلك لإغراق البشرية .
أما كمفهوم في المباحث الشرقية وجد عند البابليين (نيميقي) و(سوفيا) و(جنيانا) في الهندية . أما الحكَمة عند العرب فهي تعني :(ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح ، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل، وأَحْكَمَ الأَمْر َ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد،أو منعه من الخروج عمَّا يريد). ومعنى الحكمة إصطلاحاً: قال “أبو إسماعيل الهروي”: (الحِكْمَة أسم لإحكام وضع الشيء في موضعه). وقال “أبن القيِّم”: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي) . وقال “النَّووي” :(الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن أتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك) . أما “الفراهيدي” في (كتاب العين) الحكمة عنده، (بمعنى العدل والعلم والحلم، فيقال أحكمته التجارب أي صار حكيماً) . و”الفارابي” في كتاب (تحصيل السعادة) قال: (أن هذا العلم “الفلسفة” على ما يقال إنه كان في القديم عند الكلدانيين وهم أهل العراق كما صار الى أهل مصر ثم أنتقل الى اليونان)، حيث كانوا يسمونها الحكمة على الأطلاق أو (الحكمة العظمى) ..
هناك جملة من التساؤلات التي تبحث عن أجابات شافية، هل الفلسفة خلق يوناني خالص؟ هل العرق الآري هو العرق الأوحد الذي يُنتج فكر وفلسفة ؟ هل عُقمت بقية الأعراق أن تنتج فلسفة ؟ هل العقلية الفلسفية هي حصرية للعرق الآري والباقي يأخذ ويُقلد؟ لماذا لم تظهر الفلسفة اليونانية إلا في المناطق المتصلة بالشرق ؟ والتساؤل الأهم هو، هل الفلسفة نتاج شرقي سومري أم غربي يوناني؟.
فـقـد انـقـسـمالباحثون حيال هذه التساؤلات الى فريـقـين : الأول يـؤيـد الـنـشـأة فـيبلاد اليونان، ويرى أن الشرقي لم يكن سـوى فـكـرلاهوتي، وفريق اخـر يرى أنهناك فلسفة شرقية خاصة ترتبط بالدين أحيانـاوتنفصل عنه أحيانا أخرى.
إن التاريخ المكتوب للحضارات الشرقية القديمة أنتج حضارة منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، بينما لم يكن لبلاد اليونان وجود أصلاً في ذلك التاريخ إلا في بداية القرن العاشر قبل الميلاد كحضارة، فكيف نتصور أن الإنسان الشرقي ظل خالياً من التفكير العقلي أو الفلسفي أو العلمي كل هذه القرون ليبدأ فقط مع اليونان وفي القرن السادس قبل الميلاد؟!!
يرى الغربيون أن مباحث الشرقيين في الحكمة تختلط فيها الفلسفة والدين، والتفسير العقلي يختلط بالأسطورة وأنكروا وجود الفكر الفلسفي في حضارة سومر وأعتبروا الأسطورة لا ترتقي الى مستوى التفكير الفلسفي. وهذا الرأي يدحضه خبير السومريات “كريمر” في كتابه (أساطير سومرية) فهو يقول عن الأساطير :(أنها أول محاولة في تاريخ الفكر الإنساني لوضع مفاهيم فلسفية .. وأن بواكير التفكير الفلسفي الكوني، وضعه حكماء الحضارة السومرية). ويشير الدكتور “فاضل عبد الواحد علي” في كتابه (من ألواح سومر إلى التوراة) الى تأثر التوراة بالادب السومري، بقوله:أن (أعمال قدماء الإغريق تأثرت إلى حد ما تأثراً عميقاً بالأعمال الأدبية السومرية.). أما “ديورانت” في موسوعته (قصة الحضارة) يقول:(أن الغربيين الذين يزعمون خطأ أن ثقافة اليونان كانت المعين الوحيد الذي نهل منه العقل الحديث ستتولاهم الدهشة إذا عرفوا الى أي حد تدين علوم الغرب وأدابه وفلسفته لتراث مصر والشرق ). إذن أصل الفكر الفلسفي يرجع إلى حكمة بلاد ما بين النهرين القديمة خاصة والى الشرق عامة، التي جسدت فلسفات معينة في الحياة، وفي أشكال متعددة، فالمنطق السومري والبابلي تجاوز الملاحظة التجريبية. في كتاب (علوم البابليين) تؤكد “مرغريت روثن” :(أن أول حضارة عالمية عرفها الإنسان هي حضارة وادي الرافدين، وأنها كانت حضارة راقية متقدمة، ومتكاملة الجوانب والأبعاد، قلما ضاهتها حضارة من الحضارات القديمة الأخرى، بل هي المعين الأول لجميع الحضارات اللاحقة )، فليس من المنطق أن تنشأ حضارات في الشرق مزدهرة علمياً وأدبياً وفنياً وهندسياً وقانونياً وعسكرياً، دون رؤية فلسفية تثبت أركانها، وهذه الحضارات الشرقية سبقت بالاف السنين الحضارة التي نشأت في بلاد اليونان.
لقد أخبرنا (القرآن الكريم)، أن مجتمع النبي (نوح) البابلي كان يدين بديانة وثنية، وذكر لنا أسماء بعض الأصنام التي كانوا يعبدونها، وهي: (وَد وسواع ويغوث ويعوق ونسر). والذي يتفق عليها مفسروا القرآن أن هذه الأسماء هي أسماء رجال صالحين عاشوا حياة روحانية تركت أثرها الديني على المجتمع، ومع تقادم الزمن نسجت حولها أساطير وخرافات كثيرة تـُعلي من شأنها، وجيلاً بعد جيل تحولت في معتقدات الناس إلى آلهة، نحتوا لها أصناماً ثم صاروا يعبدونها. ألا يدلنا هذا أن هؤلاء حكماء من خلال أعتزاز وتقدير المجتمع البابلي الى حد عبادتهم. كذلك تذكر لنا المدونات السومرية أسماء لحكماء سومريين، نذكر من بينهم:
١) آتراحاسس (الحكيم) أحد حكماء العراقيين المعروفين لقب بـ(منقذ البشرية و المتناهي في الحكمة).
٢) (آتانيا) الذي أقترن أسمه بالتساؤل عن سر الحياة ومعالجة مشكلة العقم والبحث عن سر المولد.
٣) (آدابا) الحكيم العارف المتصف برجاحة العقل ولقب بـ(الأبن الأحكم) لمدينة “أريدو” السومرية ووصف بأنه “معصوم من الخطأ” وهو أحد الحكماء السبعة.
٤) (كوديا) الذي يمثل نزوع الانسان الى الأصلاح والتأمل أسمه بالسومرية (ذا فكر واسع).
أن أول حقبة فلسفية عند اليونان تعرف بأسم (الفلاسفة الطبيعيين)، الذي يقف في طليعتهم الفيلسوف “طاليس المالطي” ولو تساءلنا عن هؤلاء لوجدنا أنهم لم يكونوا من أثينا بل من “أيونيا” آسيا الصغرى، التي تعتبر مهد الفلسفة اليونانية وسكانها (مزيج متنوع من الأعراق)، كما يقول “هيرودوت”، وهذا المزيج لم يكن موجود في أثينا، وهذه دلالة على أن الفلسفة ذات أصل شرقي. فـ “طاليس المالطي” و(مالطا هي أشهر المدن الأيونية)، عاش في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وأول فلاسفة اليونان، ولم يكن آرياً بل كان فينيقياً شرقياً، وأول من حمل لقب الحكيم، حسب ما يشير الى ذلك “هيرودوت”. في كتابه (الفلسفة اليونانية)، يقول “شارل فرنر”:(هناك حقيقة لا تنكر، وهي أن الفلسفة اليونانية إنما نشأت من تماس اليونان بالشرق). إذن أصل الفكر الفلسفي هو الشرق القديم وليس اليونان. أما الذين يقولون بمركزية الفلسفة اليونانية فهو مجرد وهم، فما هي إلا فلسفة رافدانية مسروقة، أنتشرت في “أيونيا” ثم منها إلى “أثينا”. يذكر الباحث السويدي “زيتر هولم”:(ليست حضارات وادي الرافدين السومرية والبابلية أقدم الحضارات في التاريخ فحسب، بل أننا نجد أنفسنا في هذه الحضارات، أساطيرنا وملاحمنا وحتى ديننا، أن الكثير مما تعلمناه ناظرين إليه كإرث للإغريق واليهود يعود إلى هذه الحضارات).
يذكر “هنري فرانكفورت” في كتاب (فجر الحضارة في الشرق الأدنى)، (نجد مدى التقدم العلمي والفلسفي عند شعب بلاد ما بين النهرين حتى أنهم كانوا المعلمين تلك العلوم للمصريين واليونانيين)، وفي كتابه (مغامرة العقل الأولى) يذكر “فراس سواح”:(أن شعب الرافدين أوجد فلسفة كانت الحجر الأساس في بناء الفلسفات الأخرى على أساسها، وهناك العديد من الملاحم نذكر منها ملحمة جلجامش، التي تعد المعين الفكري والفلسفي للحياة، كما أن ما خلفه الحكيم أحيقار من حكم تعد أروع مثال على الفكر الفلسفي في بلاد ما بين النهرين ). وفي كتابه (الحكمة السومرية في العراق القديم)، أكد “سهيل قاشا” :(قد يكون العراقيون القدماء “السومريون” ومن بعدهم “الاكديون” و”البابليون” و”الاشوريون” قد قدموا للعالم عصارة الفكر الفلسفي الاول الذي انشأوه بالخبرة والتفاعل وبالتجربة والتعامل اليومي مع الحياة والمجتمع وخلدوا بذلك الانسان العراقي فأصبح والحالة هذه نورا لا ينطفيء.).