دراسة الاقصوصة (انا والمعمر) للكاتبة والصحفية الجزائرية كريمة كركاش

 . بقلم الدكتور حمزه علاوي

مسربت -العراق

. بين الأنين والحنين كانت تمضي تمشي، بخطوات متثاقلة.. كانت تبكي تنهج وتتنهد بلا توقف! ….شفاهها تستنطق اسمه، تتذكر تمشي.. وتتعثر، على شاطئ الذكريات قبالة الموج الهادر، تدنو وتبتعد …لم تعبأ أن تغرق، فالغرق سفينة النجاة

..ومرساة النسيان. …ولم تكن ترى في الأفق إلا “المعمر”، ..الذي قرع باب قلبها ورحل..

.تناجيه من هنا وهناك.. تذرف الدمع على الخد الحزين كالينبوع الغزير لا توقفه الحصى ولا التواءات المجرى…وتناجي الفؤاد …ذاك القلب سيد كل خطب وكرب.

توقفت هنيهة!! ثم استدارت بجسدها المثقل بالذكريات والمعتسر كل عضل وعضد بالألم …تستحضر الماضي القريب… أجل …، كان لابد لها من العودة بعدما استفرغت كل الألم من هذه الدنيا الدنية… أجل، … وها هي تسير في الاتجاه المعاكس، اتجاه العودة!

.. الفراق كان في البدء انسلاخاً، ثم صراعا مريرا مستمرا… بين ما كان وما سيكون، بين المعشوق الذي بدأ يتباعد عنها والعشق المكنون… ووخز القلب المطعون..

الذي لا يهدأ ولا يستكين إلا بدقات المعمر ثم بدأ الشوق الذي هاجه البعد يتحول إلى حنين، ثم إلى كنز دفين… فبدأت تعي معاني تلك الكلمات: الحب، التيم، الفراق، الألم، النسيان.

..الحنين ذكريات ..ذكريات… رفعت رأسها تستدرج الافق إلى ناظريها، وتسترد الذكريات، وتتأوه: اه!! لم أنساك بعد.. ولن أفعل، وإن غبت عن العين، فأنت في عمق الفؤاد الصبور تقطن وتحتل الوتين والوتر لطالما سعت إلى منبع الحب الحقيقي لترتوي، وعاودها الظمأ اليه..

.نبع الحب ..يا من روى كل له، وعلمه ابجدية العشق الأربعون الأبدية .. قرار …فقررت الابتعاد والرحيل…فها هي ترحل عنه وقد استوطنتها روحه، لكن

…لا رحيل بين الحاء والنون بعيدا عن ميم المعمر في القلب مكنون … يحمل العنوان حوار بين متكلم ومخاطب ؛ بين الحاضر والغائب. (بين الأنين والحنين كانت تمضي تمشي،

بخطوات متثاقلة.. كانت تبكي تنهج وتتنهد بلا توقف!) ؛ تميزت القصة القصيرة للكاتبة # كريمة كركاش# بصورتها المفارقة ، التي تجسد لمسة الطباق اللفظي ما بين ” الانين والحنين ” وما يرسمه من صورة تضادية بين الوجع والشوق الطافحان من فورة نفسية باطنية تعبر عن معاناة لاشعورية مركونة في العقل الباطن ؛

فضلا عن اعطاء صورة اخرى متحركة من عمق الاحساس الداخلي للكاتبة ، وانسياب فكر المتلقي خلفها لاكتشاف دلالة جديدة ” التشتت الفكري والتصدع الحسي” . تتخذ من التوازن الطباقي والترادف اللفظي ” الانين ،الحنين/تمضي،تمشي/ تبكي ،تنهج وتتنهد”

ايقاعا موسيقيا مابين الصمت والبوح يطرب له المتلقي ، يتوازن مع الصور النثرية لاخراج الاستهلال بلغة بلاغية ذات لمسة جمالية . تتخذ الكاتبة من الفعل الماضوي دلالة الثبات ، واقناع المتلقي ان الامر صار واقعا . (…تمشي، بخطوات متثاقلة.. / تمشي.. وتتعثر،… ).

تمنح الكاتبة من خلال هذه المفردات النص ايقاعات متأرجة زمنيا على سلمه ما بين السير والتوقف ؛ وهذا ما يدل على المعاناة الداخلية وفقدان الوعي الشعوري لما هي عليه من المتاهات . تعيشدراسة المرأة حالة صراع مع الذاكرة وفقدان الصورة الذهنية ؛

فتراها تعيش حالة المد والجزر ” تدنو تبتعد ” ، وتشكو فقدانها البوصلة ؛ كل هذه الصور والايقاعات المكثفة والمتحركة ، تدفع المتلقي للتفكير ، ومواصلة البحث عن الدلالات وظلالها . لاتشعر بالخوف من الموج الهادر ، تحاول الانتحار غرقا ؛لانها ترى فيه الخلاص من الهموم والتوتر النفسي ، فضلا عن النسيان لما تعيشه من تصدع فكري ، عاطفي وجسدي .

تجعل الكاتبة ما بين صور الزمان والمكان جسرا من التواصل النفسي والطبيعي -البحر ، ما بين الحياة والموت ، حتى تمنح النص حركة دائبة من تحاور الصور . تعيش شخصية الكاتبة النسوية حالة من التوتر والقلق بين الخيبة والامل ؛ تحيي ذكريات الماضي وتفقد الحاضر ،

لاتبالي بما تتعرض له من المخاطر ، لانها ترى فيها المنقذ من عذاباتها النفسية والعاطفية . رؤيتها حالمة بالماضي ، بصيرتها تعيش التأفف وتترقب المجهول ..

كل شيء اختفى بصريا الا ”المعمر” الذي طرق بابها ثم رحل ؛ هذا يعبر عن تجذر حروفه في وتينها واوردتها . تحاول الكاتبة اذابة مشاعر وتعاطف المتلقي في حبكة القصة . (…وتسترد الذكريات، وتتأوه: اه!! لم أنساك بعد.. ولن أفعل…)

ووفقا لذلك فان النص يعمل على الاشتغالات النفسية الداخلية ؛فضلا عن ان الجملة النثرية تفصح عن توافق الدلالات النفسية-آه والسيميائية-!! ؛تناغم الصوت ، التركيب والمعنى في الجمل النثرية . تمنح الجملة النثرية رؤيتان : الرؤية البصرية ؛

والرؤية الذهنية ، ان غاب ”المعمر”عن العين ، فهو الحاضر في رؤيتها الذهنية . تحاول الكاتبة ان تمنح المتلقي مساحة من التوقعات الحسية والعقلية . (وعاودها الظمأ اليه…نبع الحب ..يا من روى كل له، وعلمه ابجدية العشق الأربعون الأبدية ..) ؛

تدور القصة حول زمنين متوازيين الماضي :الحافل بذكريات العشق والشوق اليه ؛ وزمن الحاضر الذي تتحول فيه المرأة الى متيمة عاشقة تضحي بكل شيء في سبيل الحب . تتخذ الكاتبة من رواية ”قواعد العشق الأربعون” للمؤلفة التركية –

ألف شفق-معادلا موضوعيا لهذه القصة القصيرة ؛ والتي تنتهي فيها القاعدة اربعون بجملة ” لا قيمة للحياة من دون عشق” ، هذه الرواية، لا مست الشوق الروحي للانسان ، ومخاطبة وجدانه ؛ ومن احدى اقتباساتها قول جلال الدين الرومي :

”الوداع لايقع إلا لمن يعشق بعينيه ؛أما ذلك الذي يحب بروحه وقلبه ،فلا ثمة انفصال أبدا ”. جاء هذا الاقتباس ليعزز الصورة العاطفية للمرأة ، واخلاصها لعشقها . ”’قرار …فقررت الابتعاد والرحيل…فها هي ترحل عنه وقد استوطنتها روحه، …

.” ؛ تمنح الكاتبة من خلال هذا النص الغموض والابهام عن طريق تركها مساحة من النقاط … التي تدع المتلقي للتأمل فيها وملأ ما يراه وفق توقعاته ؛

واخيرا وبعد معاناة ، ويأس من اللقاء ، قررت الرحيل ، لكن قلبها يقطن فيه ذاك ”المعمر”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *