رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإمام أبو حنيفة النعمان
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإمام أبو حنيفة النعمان
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أننا قبل أن نخوض في فكر الرجل وجهده الدعوي ينبغي أن نقدم موجزًا غير مخل عن التعريف به وبنشأته، والعوامل التي أثرت في اتجاهه ونبوغه، فلذلك أهمية بالغة في استيعاب ما منحه الله من قدرة فائقة في الفهم بعمق والغوص بمهارة في كلا المنبعين الرئيسين: الوحي والعقل، وتوظيف ما آتاه الله من علم بهما في التربية والدعوة والإصلاح.
إن اسمه على أرجح الروايات التاريخية – وعلى ما ارتضاه فضيلة الشيخ أبو زهرة – هو: النعمان بن ثابت، وأن جده كان له اسمان، هما: النعمان، وزوطي، وقد كان هذا الجد من أهل كابل بأفغانستان، وحين فتحت المدينة أسره بعض رجال (تيم)، ثم أعتق حين عرف أنه من عظماء المدينة، وبمقتضى هذا العتق صار ولاؤه لتلك القبيلة، فنسب إليها، وصار تيميًّا بالولاء، فارسيًّا بالأصل، أما أبوه ثابت فقد كان من تجار الخز الأثرياء في الكوفة، وقيل: إنه التقى بسيدنا علي بن أبي طالب ودعا له ولذريته، وأما أبو حنيفة فقد ولد سنة 80هـ بالكوفة في عهد عبدالملك بن مروان، وإمارة الحجاج الثقفي، ونشأ بها، فحفظ القرآن الكريم، وتلقاه على يد الإمام عاصم بن أبي النَّجُود، وعاش أكثر حياته فيها متعلمًا ومعلمًا وداعيًا، واشتهر بالصدق والأمانة، والورع والكرم والعلم، وقد بدأ حياته مساعدًا لأبيه في التجارة، وبدت عليه مخايل الذكاء والنجابة والصدق، حتى أطلق عليه: الفقيه الخزاز، وفي أثناء تردده على السوق قابله الإمام الشعبي المحدث المعروف، فنصحه بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ إذ رأى فيه يقظة وحركة،فتأثر بالنصيحة، وبدأ يدرس علم العقائد والجدل،وظل ينتقل بين البصرة والكوفة طلبًا لعلم الكلام، كما قال عن نفسه: “وكنت أعطيت جدلًا في الكلام، وأصحاب الأهواء في البصرة كثير، فدخلتها نيفًا وعشرين مرة، وربما أقمت بها سنة أو أكثر أو أقل؛ ظنًّا أن علم الكلام أجل العلوم، فلما مضت مدة من عمري تفكرت وقلت: السلف كانوا أعلم بالحقائق، ولم ينتصبوا مجادلين، وخاضوا في علم الشريعة ورغبوا فيه، فتركت الكلام واشتغلت بالفقه.
ثم اختار أستاذه حماد بن سليمان الذي كان يعقد جلساته العلمية في المسجد الجامع بالكوفة، ولازم شيخه حمادًا الذي خلف إبراهيم النخعي تلميذ الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، وكان يكثر السؤال ويلح في الجدل حتى ليحمر وجه حماد، لكن شيخه كان يقدره ويقول: “هـذا على ما ترى منه يقوم الليل كله ويحييه”،واستمر في ملازمته عشر سنوات متتابعات، يحظى من شيخه بقسط كبير من الرعاية، وحين غاب حماد شهرين أناب عنه أبا حنيفة ليجلس مكانه،وفي هذه الفترة عرضت له مسائل لم يسمعها من شيخه، فأخذ يجيب عنها ويدون إجاباته ليعرضها على أستاذه عند عودته، فلما راجعها حماد أقر منها أربعين، وأنكر عشرين، فأحب أبو حنيفة التدوين منذ ذلك.
وكانت أول فتوى خالف فيها شيخه إجابة عن سؤال لرجل كان على دابة سيور وغابت الشمس وليس على وضوء ويريد صلاة المغرب، فقال له حماد: تيمم، فسئل فيها أبو حنيفة فقال: سِرْ وانتظر غيبوبة الشفق، فإذا خشيت ذلك فتيمم.
وحين بلغ أبو حنيفة سن الأربعين، صعدت روح حماد إلى بارئها سنة 120، فوجد الناس عنده ما لم يجدوه عند غيره، فلزموه وتركوا سواه، حتى إن إسماعيل بن حماد نفسه وإخوانه جلسوا في مجلس أبي حنيفة، حتى صارت حلقته أعظم حلقة في المسجد، وكثر حساده.
وكان وفيًّا لشيخه، يدعو له مع والديه، بل سمى ولده بحماد؛ تخليدًا وحبًّا لذكراه، ودامت حلقته ثلاثين عامًا، وذهب إلى الحج خمسًا وخمسين مرة، يناظر ابن جريج في مكة، والأوزاعي فقيه الشام، والليث بن سعد فقيه مصر، والإمام مالكًا فقيه المدينة، وكان في لقاءات هؤلاء العلماء فائدة كبيرة لأبي حنيفة؛ إذ جمع منها خلاصات التفكير الإسلامي في كل أرجاء العالم الإسلامي، مما جعله قديرًا في الحوار بفهم ووعي.
وقد عرض عليه ابن هبيرة في عصر الأمويين أن يعمل معه، فامتنع، فضربه ضربًا شديدًا حتى تورم رأسه، ولم يضعف أمام جلاده، ولم يتخذ التقية كغيره، بل فر من سجنه إلى مكة بعد أن مكنه الجلاد من ذلك، واتخذ مكة مستقرًّا ومقامًا من سنة 130 إلى أن استقام الأمر للعباسيين، وعكف فيها على الحديث والفقه – بما ورثت مكة من علم ابن عباس – مدة ست سنوات، تثقف إذًا أبو حنيفة بكل الثقافة الإسلامية في عصره، سواء كان ذلك في الحديث والنحو والشعر والأدب والجدل، ثم تخصص في الفقه بدءًا من تلمذته على يد حماد بن سليمان مدة 18 سنة.
أقوال العلماء فيه:
قال عنه الإمام مالك: لو حدثك أبو حنيفة عن السارية أنها من ذهب، لقام بحجته.
قال عنه الإمام الشافعي: من أراد أن يعرف الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.
قال الإمام الذهبي: هو فقيه الملة، وعالم العراق.
قال عنه ابن المبارك: هو مخ العلم.
قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة أبصر بالحديث مني، وكان شديد الذب عن المحارم، شديد الورع، لا ينافس أهل الدنيا فيما بين أيديهم، طويل الصمت، دائم الفكر، مع علم واسع.
قال الأوزاعي لابن المبارك: غبطت الرجل بكثرة حِلمه، ووفور عقله.
كتب ابن حجر الهيثمي الشافعي رسالة سماها: الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
كتب السيوطي الشـافعي أيضًا رسـالة سماها: تبيين الصحيفة فـي مناقب أبي حنيفة.
وفاته:
سطر الإمام أبو حنيفة في أيامه الأخيرة حروفًا من نور لا يمحوها الزمن؛ فقد اتفق المؤرخون على أن المنصور طلبه للقضاء، فامتنع؛ تطبيقًا لمذهبه في عدم القرب من السلطان، وخشية من الوقوع في الظلم بتأثير المجاملات أو النفاق،وحلف المنصور ليفعلن؛ فهو الأجدر بهذا المنصب، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فأمر بسجنه وضيق عليه، فلم يهتم، فأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فلم يؤثر عليه ذلك، وما حزن إلا لحزن أمه، واستمر على موقفه إلى أن صعدت روحه الزكية سنة 150هـ، وخرجت المدينة عن بكرة أبيها في جنازته، حتى إنهم أعادوا الصلاة عليه مرارًا كثيرة، وكان يسمع ضجيج الناس وبكاؤهم لمسافة أميال، وبكاه العلماء والشعراء، وبقي ذكره في التاريخ شهيد العلماء، وعالم الشهداءرحمه الله، وألحقنا به في الصالحين.