الرواية فنٌ نثري وسردي أدبي جميل، تُعتبر من أشهر أنواع الأدب العرب والعالمي ، وتقومُ على طرح قضايا أخلاقية واجتماعية مختلفة بهدف معالجتها أو محاولة البحث فيها، وتختلف وجهة نظر تجسيد الحكاية أو السرد الروائي من كاتب لأخر، فهناك من يوظف فيها شيئا من الخيال حتى يطفى عليها نوع من التشويق، وأخذ القارئ إلى عالم جميل، وهناك من يصفُ السرد الحالم العاطفي، حيث نجدُ معظم المشاهد العاطفية عبارة على لوحات شاعرية
، وهناك من يطرح الواقعُ المعاش لحقبة معينة من الزمن، والاحداث الاليمة للوطن، حيث تعتبر الرواية الواقعية هي الأكثر تشجيعاً وقراءةُ، إلا أنها تعتبر كموثق للتاريخ. اليوم وأنا أقرأ للروائي والاعلامي الجزائري مصطفى بوغازي ،الإعلامي المتمرس والأديب المبدع ، الذي تنوعتْ إبداعاته وأعماله الأدبية بين القصة القصيرة والشعر والرواية والمقالة الصحفية ، حيث صدر له : رماد الذاكرة المنسية رواية ، أحلام الفجر الكاذبة ‘ مجموعة قصص ، أفاق الإنسان، دراسة ،
مسألة القيّم في أدب الطفل ، كتاب حوارات في الثقافة والأدب ، كتاب حوارات في الثقافة والنقد ، تأوهات في زمن النرجس – شعر. أديب استطاع أن يلملم شتات الذاكرة ، وعبق الحروف ليصنع منها عناقيد للفرح ، للألم ، للتحدي للأحلام، لواقع معاش، انبهرت وأنا اقرأ روايته (امرأه على قيد سراب) رواية إنتاج بيئتها، ليس فقط من حيث القصة والخطاب، وإنما من حيث اكتسابها كل آليات البنية التبليغية العامة للخطاب اللغوي عبر المسار البلاغي للنص، المنحى الجمالي في الرواية لم يخرجها عن واقعيتها باعتبار،
أنّ السارد وإن امتلك خيالاً واسعاً إلاّ أنّه لم يجنح عن الأرض بعيدا وظل يستنطق الواقع بكل ما يحملهُ من تناقضات ليغوص في وجدانيات أسلوبه الواقعي ، الذي يوصف كل مقاييس الرواية الناجحة بتسلسل، والوصف للأمكنة والأشياء اليومية التي يعيشها الإنسان خاصة في الريف ، ما يجعل القارئ يعيش الأحداث بكل تفاصيلها ،
وأعتقد في راي، هذا هو الروائي الناجح الذي يترك القارئ يتابع الأحداث بكل شغف، ويغوص فيها وكانه سافر الى تلك الأمكنة والأزمنة . هكذا أحسست جماليات الرواية في ( امرأة على قيد ساب )للروائي مصطفى بوغازي حيث يوصف بكل دقة تفاصيل الحكاية ، الريف ،
والطبيعة الخلابة التي تأسر القارئ، وفصل الربيع الذي يتحول في تلك المنطقة إلى جنة ، وصفه لكل الأحداث والزمكان يوحي بأن الرواية لها بعد فكري وأدبي راقي ومحببة لدى القارئ حيث لا يمل وهو يتابع أحداثها . وصف الأمكنة في الفصل الأول بطريقة جد رائعة ، حيث يغوص القارئ في تفاصيل الحكاية ، بوصفه للطبيعة الخلابة التي تمتاز بها منطقة الريف الجزائري. (تدانى الربيع مسرعا ، فقد كان الشتاء ممطرا،
وظلت قمة الجبل تحتفظ ببقعة من الثلج، يعكس تمازج بياضه بزرقة مشعة، بينما راحت أشعة الشمس تغازل الأحياء بدفء لطيف ، فيتصاعد بخار خفيف، يعبق برائحة الأرض، و تنساب الجداول رقراقة تتخلل الشعاب، كما تشق السواقي طريقها بين الحقول، فتتفتح ثغور الزنابق والرياحين بألوانها، و تشرئب نحو حزم النور في أبهة وخيلاء. هنالك على مقربة من سيمفونية الطبيعة، تعالت أعمدة الدخان نحو السماء من سقوف الأكواخ وهي تنفث احتراق ما تبقى من مخزون الوقود، وتظل حوافها تعصر الصقيع قطرات، على منحدرات مائلة تبلل الجدران، وتنحت ثقوبا على الأرض . )
وصف للطبيعة الساحرة يفوق الخيال بينما هو الواقع الذي يأخذنا إليه الروائي مصطفى بوغازي ألي بيئته التي ربما عاش فيها أجمل لحظات الشباب ، مما يجعله يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان ألدي تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها،
ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان لوحة فنية بالنسبة إلى الفنان ، بل يكون الفضاء ألذي تصنعه الرواية بكل جماليات المكان والزمان، والحدس الإنساني للأشياء الملموسة التي تعبر عن معاناته ،
يبقى الروائي في وصف المكان والجمال للبيئة بكل تفاصيلها حيث يشعر القارئ وهو يعيش الأحداث وكانه هناك يعدوا مع الأبطال في الريف الجميل وأصوات العصافير وخرير الماء في النهر ، حتى السحاب الذي يجري في السماء يشعر به القارئ ، وأنفاس الطبيعة الخلابة التي تمحي وجع الإنسان، الطبيعة الجميلة التي تعرف بها منطقة سطيف بالهضاب العاليا ،
حيث يوصف الروائي مصطفى أحياناً الوجع كصراخ في الذات للرفض لطقوس وعادات بقيت تقيد تفكير الإنسان (في ظل هذا الوجع القاسم للظهر، وقرابين الألم في تتابعها على مسرح حياتنا يتراءى لي الريف الجميل بنقائه وصفائه، وطيبة أهله الكرماء ، ليصرخ الوجع في أعماقي ، تمنيت لو أن والداي لم يغادرنه، وأزهو في طفولتي مسرعة في ذلك المنحدر المعشوشب بين البيت و”الكتاب” ،
أحمل كسرة ساخنة لأبي مع لبن منعش طفت رغوته وزبده على السطح، وأستظل تحت الشجرتين الكبيرتين لانهمك في حوار صامت مع دميتي، لا أسمع عدا رقرقة الماء في الساقية القريبة، وزقزقة الطيور على الأغصان، لا أحد يتجرأ بالاقتراب، ولا دكاكين تغري بما تعرضه فتجعلني الحاجة فريسة لمصدوم في واقعه ، لم يجد سقفا يأوي إليه بمساحة قدمين مربعين يحقق أحلام الزواج فيه، فراح يصب مكبوتاته في جسد ي الغض الذي كان يجهل لغة التحاور بالاحتكاك، فكان يزفر وتهيج أنفاسه وتنتفخ أوداجه،
ليتنحى من أمامي فجأة متهالكا ، وهو يتفصد عرقا، فتمتد يده إلى مناديل الورق ليطمس آثار جرمه مع.) نعيد ترتيب الأحداث في الرواية إلى اهم شخصية تحرك الحكاية وهي ( راوية) الفتاة الجميلة التي كانت مدللة في بيت والدها رغم بعض التضييق الذي يعيشه مجتمع محافظ ، أن المرأة ليس لها الحق أن تدلي برأيها خاصة في الزواج . تدور أحدثاها في منطقة نائية في ضواحي سطيف، أين تكون الطبيعة في الشتاء قاسية
، ولها جمال خارق في بقية الفصول ، تحكي عن معاناة سيدة رفضت التقاليد والأعراف تحاك القصة ، على لسان الفتاة حنان بطلة روايته، التي عانت من ضغط التقاليد والاضطهاد في مجتمع محافظ ،معاناتها منذ الصغر وصولا إلى شبابها الذي قضته محبطة ، البائس لرفضها للعديد من الأعراف والتقاليد التي خنقت أحلامها
، ففارقت محيطها البائس المعزول الذي تركها تدور في ألاعيب سياسية واجتماعية ترفض أي رأي لفتاة تريد التغيير لبيئتها خاصة الظلم الذي تعرضت إليه والدتها ، (حنان ) التي تقمصت شخصية الراوي، والبطلة في تفس الوقت ،
التي ترفض عمل والدها والذي ينغمر بفعل المادة في الدجل والشعوذة،( إلا أن مهنته الحقيقية هي التعليم ) و يتنكّر لعائلته ويهجر زوجته، و الضياع في العلاقات المتعددة، يقود حتما إلى اضطراب الأسرة والأبناء . يكتب بلسان السارد، عن البيئة التي عاشت فيها أمها والجد المتعصب، التربية القاسية، رفض تزويج الأم لأبن العم العاشق
، أصابتها بمس من الجن نظرا للبيئة التي تعيش فيها ، يؤمنون بهذه الطقوس والأعراف والخرافات ،والتي تعتبر جزء من حياتهم ، والتحكم بمصيرها ومستقبل العائلة، الرجل المتجبر على مِن يعمل ويعيش في كنفه، غير أن والدها يفسخ خطوبتها على إبن العم هروبا من العار وكلام القرية التي لا يخفى عن أهلها لا صغيرة لا كبيرة ،
فيحتار الأب في مرض ابنته ( راوية ) التي كانت فائقة الجمال ولا يراها أحد ، تقع في براثين مدرس القرية أو ( الطالب ) ،الذي أت به والدها ليعالجها ويخرج منها الجن الذي سكنها ، فينبهر بجمالها ويلازم التردد على البيت ، حتى قنع والدها وتزوج بها أخيرا .
رغم ما عانته الأم إلا أنها بعد ميلاد ابنتها الأولي ( التي تصبح هي بطلة الرواية) حنان كانت فرحت الأب كبيرة وتنبأ بالفرح والنجاح ، حيث بعد ولادتها جائه تعيين للعمل في المدينة ، كمدرس ومن هنا بدأ السعد .يضحك للعائلة ولراوية التي تزوجها سي البشير مدرس القرآن،
فأصبح سي البشير يعالج المرضى وتأتيه شخصيات حتى من الطبقة المثقفة ، وتحسن وضعه المادي ورزق بأبناء آخرين هما صالح وسعاد ورقية ، وضع الروائي مصطفى بوغازي في هذه الرواية الكثير من العادات والطقوس التي كانت تمارس من طرف شيوخ القرية لمعالجة وإخراج الجن من المريضة ( راوية ) .
هنا نجد الوصف لهذه الأحداث بملعب دقة وهذا ما يشعر القارئ بأهمية الزمان والمكان والأحداث في الرواية، حيث تخرج عن صمتها البطلة وتعنت والدها الذي اصبح بيته ملاذ لكل أنواع البشر من إرهابيين وقياديين في الدولة
،ومجرمين يتعاطون المخدرات، ومدمنين عن شرب الخمر ، وتنفتح العائلة على الربح السريع من جلب المال من كل هؤلاء البشر ، حتى انتقلت جريمة المخدرات إلى أخوها الذي مسكته الشرطة ، قصص متشعبة توصف الأحداث الأليمة التي المت بالوطن أثناء العشرية السوداء والذي اختلط الحابل بالنابل. حنان التي أرادت أن تنجح بطريقة كانت وكان عارف والدها ساعدتها من اجل إتمام دراستها والدخول في سلك التعليم ،
هذا ما أضاف لها العديد من الفرص والحظ للظفر بفراس أحلامها، وتحقق ولو جزء بسيط من سعادتها التي لم تذقها في حياة والدها المتشعبة ، والخرافية التي ترفضها في داخلها لكنها مرغمة على المشي قدوما فيها . ويسافر بنا الروائي مصطفى بوغازي عبر الأحداث المتشعبة إلى نهاية صادمة غير معهودة يكتشفها طارق مدير دار النشر في نهاية الأحداث ،بعد معاناة مع المرض سرطان الثدي الذي أود بحياتها وهي لاتزال تحمل في أفكارها أحلاماً يافعة لم تتحقق بعد تحمل المشعل ابنتها دعاء، و تريد ترتيب أوراقها، أو مخطوط كتابها الذي تركته حنان،
ليضع القارئ وبطريقة ذكية على نفس الخط مع الشخصية الرئيسية ككل القصص الخالدة ، والكلاسيكية ، بموت البطلة ، رغم النهاية المؤلمة للرواية إلا أن القارئ يشعر عن هناك بقية القصة التي تلد مع ابنة البطلة، القصة الألمية والمتشوقة والمتشعبة أخذتنا الروائي إلى شعابها وملاذها وعنفوانها ولغتها الراقية الجميلة ،
و أجاد الكاتب في سبك أحداثها وعرض الأفكار العديدة من خلال تلك الأحداث الواقعية التي حتماُ ستؤرخ حقبة معينة ومهمة، من تاريخ الجزائر الجريح
. قراءة للأديبة والصحفية سليمة ملّيزي