نسائم الإيمان ومع الحجاج بن يوسف الثقفى ( الجزء الثانى )

إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى

وبعد أن انتصر الحجاج بن يوسف الثقفى، في حربه على عبد الله بن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة، وعلى ولاية الحجاز كله، فكرهه أهل مكة، وكان الحجاج وأهل مكة والمدينة على خلاف كبير، وقيل أن عبد الله بن عمر توفي في عام أربعه وسبعين من الهجره، وقبل ذلك أمر أن يدفنوه ليلا، ولا يعلموا الحجاج لئلا يصلي عليه، وفي خمسه وسبعين من الهجره.

وحج عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فعزل الحجاج بن يوسف، عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، وأقره على العراق، قد أجمع المؤرخون على أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان سفاحا، وقد ترك وراءه بحرا من الدماء، ومنها دماء المتقين والصالحين من المسلمين، ولم يُعلم شيء أشدّ على الله من سفك دم المسلم، وقد قيل فيه الكثير من الأقوال.

فقال الذهبي في الحجاج: ” أنه قد أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين من الهجره وكان كهلًا،أى رجل عجوز، وكان ظلوما جبارا ناصبيا خبيثا سافكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن، ويقول الذهبى : قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين.

ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء”.

وكان قول الجصاص في الحجاج: “أنه لم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبدالملك ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجاج وكان عبدالملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف” وكان قول ابن كثير في الحجاج: ” أنه كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارا عنيدا، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة.

وقد دامت ولاية الحجاج بن يوسف الثقفى، على العراق عشرين عاما، و فيها مات، وكانت العراق، عراقين، أى قسمين، البصرة و الكوفة، فنزل الحجاج بالكوفة، و كان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثما بعمامة حمراء، و اعتلى المنبر فجلس واصبعه على فمه ناظرا إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة .

و قال خطبته المشهورة التي بدأها بقول ثمامة بن سحيل: أنا ابن جلا و طلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني، ثم قال: أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، أما والله إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأنني أرى الدم بين العمائم و اللحى، ثم قال: والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عودا عودا، فوجدني أمرّها عودا، وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم، ورماكم بي.

يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أحلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت، إياي وهذه الزرافات، وقال وما يقول، وكان وما يكون، وما أنتم وذاك؟.

يا أهل العراق، إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرتم بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها، فاستوسقوا واعتدلوا، ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإبذار والإهذار، ولا مع ذلك النفار والفرار، إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم.

ويقيم له أودكم وصغركم، ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به، ويستوفيه مني، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه، ولينهبن ماله، ثم التفت إلى أهل الشام.

وقال يا أهل الشام ، أنتم البطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، وإنما أنتم كما قال الله عز وجل: “ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء” والتفت إلى أهل العراق فقال: لريحكم أنتن من ريح الأبخر، وإنما أنتم كما قال الله: “ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض، مالها من قرار”.

ثم قال :اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فسكتوا فقال الحجاج من فوق المنبر: “أسكت يا غلام”، فسكت، فقال:” يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق ومساوئ الأخلاق.

يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون السلام؟ هذا أدب ابن أبيه؟ والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدبا سوى أدب ابن أبيه، ولتستقيمن لي أو لأجعلن لكل امرئ منكم في جسده وفي نفسه شغلا، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام”، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فلما بلغ إلى موضع السلام صاحوا وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، فأنهاه ودخل قصر الإمارة”

ومن العراق حكم الحجاج الجزيرة العربية، فكانت اليمن والبحرين والحجاز، وأيضاً خراسان من المشرق تتبعه، فقاتل الخوارج، والثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة، وكانت له الغلبة عليهم في كل الحروب، وأمعن في الظلم والتجبر، فصادر كل الحريات، بما فيها حرية الكلام عن طريق استخباراته، وحبس الناس، وأمعن في تشريدهم وقتلهم، ومنع الأعراب من الهجرة إلى المدن، وبنى مدينة واسط، فجعلها عاصمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *