نسائم الإيمان ومع الخليفه المأمون ( الجزء الثالث )

إعداد / محمــــد الدكـــرورى

نكمل الجزء الثالث مع الخليفه المأمون وقد قيل عنه، أن المأمون كان من عظماء الخلفاء ومن عقلاء الرجال وله اختراعات كثيرة في مملكته، ومنها أول من لخص منهم علوم الحكمة وحصل كتبها وأمر بنقلها إلى العربية وشهَّرها، وحل إقليدس ونظر في علوم الأوائل وتكلم في الطب وقرب أهل الحكمة، وقد تتلمذ المأمون على شيوخ الأدب واللغة في عصره، أمثال سيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك، وقد ذكر ثمامة بن أشرس النميري: ” ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون” وقد خاطبه يحيى بن أكثم قائلا: ” يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته.

أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت مثل علي بن أبي طالب رضى الله عنه في علمه، ويعلق الأستاذ موير عن عصر المأمون بقوله: ” وقصارى القول إن عصر خلافته كان بوجهه الأجمل من أزهى عصور التاريخ الإسلامي، لذا كان عصر المأمون عصر العلم في الإسلام، ولهذا قيل: لو لم يكن المأمون خليفة، لصار أحد علماء عصره، وكان عصر المأمون من أزهى عصور الثقافة العربية، وقد أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة وخاصة الحضارة اليونانية، وقد أرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية .

ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، وكان اهتمام المأمون ببيت الحكمة ببغداد كبيرا، وهو مجمع علمى، ومكتبة عامة لنسخ الكتب ودارًا لترجمتها إلى العربية، وكان لها مديرون ومترجمون ومجلدون للكتب، ومرصد فلكى، وأقام فيه طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا فى كافة العلوم، التى أسهمت فى نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب فى الحروب الصليبية وغيرها، وكما نهض بمهمة بناء المراصد الفلكية، فأنشأ مرصدًا في حي الشماسية ببغداد، وبنى على قمة جبل قاسيون بدمشق مرصدًا آخر.

وقرب العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والأنساب، وأطلق حرية الكلام للباحثين وأهل الجدل والفلاسفة، كذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وازالة الخلاف بين العلماء، وقد أصدر المأمون برنامجا منهجيا للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد ودمشق، وأرسل أول بعثة موسعة لاجراء التجارب العلمية، وكشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون واستيعابها، وقد لجأ الخليفة إلى علماء بيت الحكمة طلبا للعون على شؤون الدين والدنيا.

وطلب منهم تحديد المكان الدقيق لبغداد ومكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة، كما أراد الخليفة صورة دقيقة لطول وعرض العالم الذي يحكمه، وكان للمدارس التى فتحها المأمون فى جميع النواحى والأقاليم أثرها فى نهضة علمية مباركة، إلا أن الاطلاع على بعض فلسفات الأمم الأخرى قد جعل العقل يجتهد فى أمور خارج حدوده وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالى الذى يُعلي من قيمة العقل، ويجعله حكمًا على النص دون حدود أو قيود، وفي سنة مائتان وخمسة عشر من الهجره، خرج المأمون بنفسه على رأس الجيوش الإسلامية لغزو الروم، فافتتح حصن قرة، وفتح حصونا أخرى من بلادهم.

ثم رحل عنها، وعاود غزو الروم فى السنة الثالثة سنة مائتان وستة عشر من الهجره، ففتح هرقلة، ثم وجّه قواده فافتتحوا مدنًا كبيرة وحصونًا، وأدخلوا الرعب فى قلوب الرومان، ثم عاد إلى دمشق، ولما غدر الروم ببعض البلاد الإسلامية غزاهم المأمون للمرة الثالثة وللعام الثالث على التوالى سنة مائتان وسبعة عشر من الهجره، فاضطر الروم تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح، وكان المأمون يحب العلم، إلا أنه كان جاهلًا بالسنة الصحيحة وهذا الأمر جعل المعتزلة يروجون عليه ذلك، لأن بعض رؤساء الاعتزال اجتمعوا عنده وعبثوا بعقله وراجع عليه الباطل والاعتزال.

خاصة أن المأمون كان يحب قراءة كتب الفلسفة والمنطق وما سطره الأوائل في هذا الشأن، فعظم عليه أمر العقل، لذا اعتنق فكر الاعتزال وعلا عنده شأن بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد رؤساء الاعتزال، وألزموه دعوة الناس لهذا الفكر الباطل والقول بخلق القرآن، فكان المأمون يؤيد المعتزلة فيما يقولونه، وكتب رسائل في تأييد آرائهم ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق، وكتب في السنة الأخيرة من حياته إلى والي العراق يطلب منه امتحان القضاة في مسألة القرآن وأن يعاقب من لم يقل بهذا الرأي، ولقد سمح المأمون لأولئك الذين اعتمدوا على العقل والمنطق فى كل شىء.

وذلك بالتعبير عن آرائهم، ومعتقداتهم، ونشر مبادئهم من غير أن يتقيدوا بقيد أو يقفوا عند حد، فكان هذا من سوءاته التى أحدثت بين علماء المسلمين فتنة دامت تسع عشرة سنة، إلى أن شاء الله تعالى لتلك الفتنة أن تخمد، ولقد وصف الإمام السيوطى المأمون بقوله: “إنه كان من أفضل رجال بنى العباس، لولا ما أتاه من محنة الناس، وظل المأمون من سنة مائتان واثنين من الهجره، حتى عام مائتين وثمانية عشر من الهجره، يدعو لهذا الفكر بالحوار، فلما رأى إعراض الناس ورفضهم لتلك البدعة الخبيثة قرر الاستعانة بسلطته ونفوذه، وقرر إجبار أهل العلم والمحدثين على اعتناق هذا المذهب.

وعقد لهم محاكم تفتيش وهددهم بالفصل والحرمان والتعذيب والتشريد حتى أكرههم على ذلك، ولم يثبت في تلك الفتنة سوى الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون أن يحملا إليه مقيدين على جمل إلى طر سوس، وسل سيفًا لم يسله من قبل، وأقسم أن يقتل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إذا لم يجيبا بالقول بخلق القرآن، وعندها جثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: “سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، اللهم لا تجعلنا نراه ولا تجعله يرانا”، فاستجاب الله دعاء العبد الصالح، فمات المأمون قبل أن يصلا إلى طر سوس.

ويقال أنه كان المأمون هو الخليفة العباسي الوحيد الذي كان على مذهب الشيعة حيث كان يذهب إلى تفضيل على بن أبي طالب رضي الله عنه عن باقي الصحابة، فخالف بذلك جمهور الخلفاء والعلماء والمسلمين، وكانت أحداث وفاة الخليفة المأمون، وهو بينما كان المأمون في أراضي الدولة البيزنطية في آخر غزواته، وهو فى البذندون شمالي مدينة طرسوس، وكان قد عزم أن يقتل الإمام أحمد بن حنبل إن لم يجبه أن القرآن مخلوق، فدعا عليه الإمام أحمد، فأصابته حمى لم تمهله كثيرا، وفي الثامن عشر من رجب سنة مائتان وثمانية عشر من الهجره، أدركته الوفاة بالغا من العمر ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، فحمل إلى طرسوس ودفن بها، وتولى الخلافة بعده أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *