نسائم الإيمان ومع سعيد بن المسيِّب ( الجزء الثانى )

إعداد / محمــــد الدكــــــرورى

إن التابعين وتابعيهم رحمهم الله هم أول من اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان، وأول من جاء بعدهم واستغفر لهم، ولمن يكن في قلوبهم غلاً لهم كما في محكم القرآن الكريم، والتابعون وأتباعهم هم الذين شهد لهم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرية بعد قرنه، وتمنى رؤيتهم فيما صح عنه من قوله، وبشر بظهور الدين في زمانهم ونصره، فقال صلى الله عليه وسلم: ” خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”

وقال عليه الصلاة والسلام “وددت لو أنا رأينا إخواننا” فقال الصحابة رضي الله عنهم: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: ” أنتم أصحابي، وإخواني يأتون من بعدي يؤمنوا بي ولم يروني” ويقال أن سعيد بن المسيب أنه قد بلغ من الثقة في علمه وفقهه أنه كان يفتي والصحابة أحياء وقد أعانه على الوصول إلي تلك المنزلة ما كان يتمتع به من حافظة واعية وتفان في تحصيل ألوان المعارف، حتى إنه كان لا ينسى من يلقاه من طلابه.

فقد حدث عمران بن عبد الله الخزاعي قال: سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية ويقول: والله ما أراه مر على أذنه شيء قط إلا وعاه، وكان سعيد بن المسيب إماما من كبار علماء الأمة، وممن جمع بين العلم والعمل، فلقد كان عابدا ورعًا تقيا مشهورا بالمحافظة على صلاة الجماعة والصف الأول وتكبيرة الإحرام.

فعن سعيد بن المسيِّب، أنه قال: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة، وقال أيضا: ما أذَّن المؤذن من ثلاثين سنة، إلا وأنا فى المسجد، وقيل أنه صلَّى سعيد بن المسيِّب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة، وقال ابن المسيِّب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة.

ويقال أن مسلم بن عقبة المري لما استولى على المدينة سنة ثلاثه وستين من الهجره، في موقعة الحرة منع الناس من الصلاة في المسجد النبوي، فخاف الجميع منه ما عدا سعيد بن المسيب الذي رفض أن يخرج من المسجد النبوي ويترك صلاة الجماعة، وقيل عن سعيد أنه اشتكى عينه، فقالوا له: لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة، لوجدت لذلك خفَّة، قال: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح.

وكان سعيد بن المسيب مشهورا بسرد الصوم وقيام الليل، وكثرة الذكر، والزهد الشديد، وقيل أنه كان سعيد بن المسيِّب يسرد الصوم، فكان إذا غابت الشمس، أُتي بشراب له من منزله المسجد فشربه، وكان سعيد رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لخيل إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحا.

وكان سعيد له تجارة تدر عليه دخلا يكفيه ليعيش عيشة راضية، ولهذا لم يكن يأخذ عطاء من الدولة حجرا على رأيه، وتقييدا لحريته، وكان عنده من يقوم بأمر تجارته، فلا يشغله أمرها عن عبادته وعلمه، وكان يدعو إلي اكتساب المال عن طرقه المشروعة، ليتمكن من صلة الرحم وأداء الأمانة، وصيانة الكرامة، والاستغناء عن الخلق، ومما أثر عنه في ذلك قوله: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس.

وخير ما يصور وجهة نظره في امتلاك المال قوله: اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا، ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار ، ولذلك قد نما ماله حتى ترك عند وفاته ثلاثة آلاف دينار، وقال: والله ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي، وكان يقول: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.

ولهذا كان سعيد في بحبوحة من العيش، وقد وضح أثر ذلك في مظهره وملبسه، وحسن هيئته تحدثا بنعمة الله عليه، وكان بمسلكه ذلك يعطي المثل العملي للعالم في نزاهته ونظافته، وحسن هندامه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجمل الخلق منظرا، وأعجبهم مظهرا، وأنظفهم ثوبا، وكان يمشط شعره، ويدهن الطيب حتى تشم رائحته العطرة من بعيد وإذا مس أحد يده يبقى أثر الطيب عالقا بها مدة طويلة، وكل تعاليمه صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته يعلم الناس أن يحرصوا على بهاء المنظر وجمال الصورة وطيب الرائحة وحسن السمت.

ويقال أنه كانت بنتُ سعيد كان قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يَزل يحتال عبد الملك حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصبَّ عليه جرة ماء، وألبسه جُبَّة صوف، ويرفع العَلَم الهُمام رأسه الشريف ويقول لرسول الخليفة: بلّغ عبد الملك أني أرفض هذا الزواج رفضا باتا، وقال عبارته المشهورة: لا أزوج ابنتي في دار الحكم خشية أن آتي معها يوم القيامة مسلسلين بسلاسل من حديد في نار جهنم.

وقيل أنه قد زوج ابنته بدرهمين، فيجلس سعيد في بيته المتواضع بعدما رفض عرض الخليفة، ويدخل عليه تلميذ له فقير، ضم ثوبه أربعين رقعة مختلفة الألوان، ويسأل سعيد تلميذه عن سبب غيابه عن درس العلم، فأخبره بأن زوجته قد توفيت، ويدخل سعيد على ابنته صاحبة الشرف والعفاف والحياء، ويقول لها: ما رأيك في ابن أبي وداعة؟ أترضين به أن يكون لك زوجا؟

فقالت بنت سعيد بلسان الأدب والحياء: ما رأيك أنت يا أبتاه؟ فقال: مؤمن تقي إن شاء الله، قالت: لقد اخترته على بركة الله، فيقول ابن أبي وداعة، وهو كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة: كنت أجالس سعيد بن المسيِّب ففقدني أيام، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوفيت أهلي فاشتغلت به، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناه، ثم قال: هلا استحدثت امرأة ؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يُزوجني، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، فقلت: وتفعل؟

قال: نعم، ثم تحمد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين،أو قال ثلاثة، فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائم، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزا وزيتا، فإذا ببابي يُقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. ففكرت في كلِ من اسمه سعيد، إلا سعيد بن المسيِّب، فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد.

فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، قلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إليَّ فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلا عزبا فتزوجت، ثم أخذ بيدها فدفعها إلى الباب، ورد الباب، فسقطتِ المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت السطح فرميت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليه، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.

فأقمت ثلاثا ثم دخلت به، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحقِ زوج، فمكثت شهرا لا آتي سعيد بن المسيِّب، ثم أتيته وهو في حلقة، فسلمت فرد عليَ السلام، ولم يُكلمني حتى تقوَض المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان، قلت خير يا أبا محمد، على ما يُحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعص، فانصرفت إلى منزلي فوجَّه إلي بعشرين ألف درهم.

وكانت حياة سعيد بن المسيب رحمه الله مليئة بالمتاعب والمشاحنات، وجرت عليه الكثير من الآلام، فقد تعرض للسجن، والجلد والمقاطعة، وتعرض للقتل، وقد ضعف بصره في أخريات حياته، ولما عرض عليه أن يخرج إلي وادي العقيق ليتداوى اعتذر لأن خروجه سيحرمه من حضور حضور الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات سعيد بن المسيِّب بالمدينة، سنة أربعه وتسعين من الهجره، في خلافة الوليد بن عبد الملك، وهو ابن خمس وسبعين سنة.

وكان يُقال لهذه السنة التي مات فيها سعيد: سنة الفقهاء، لكثرة من مات منهم فيها، وقد مات علم من أعلام الأمة الذين تربوا على مائدة القرآن، وممن افترشوا المساجد واتخذوها بيوتا، إنه التابعي العلم المحدث الفقيه الزاهد العابد سعيد بن المُسَيّب رضي الله عنه وأرضاه، والذى كان يقول لتلاميذه: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *