نسائم الإيمان ومع عبد الله بن عمرو بن العاص
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، وكنيته أبو عبد الرحمن، وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمي ، ويقال كان اسمه العاص، فغيّره النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
وإن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أحد أصحاب النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذين مدحهم الله تعالى في كتابه العزيز، وأثنى عليهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة ، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص مثالا رائعا للفضيلة والانقطاع للعبادة والنسك .
فقد جمع بين العلم والعمل، واشتهر بكثرة الحديث والاجتهاد، وصحّ عنه كثرة صيام النهار وقيام الليل والزهد والعمل للآخرة، وقيل أنه كان طويلا أحمر الوجه، وعظيم الساقين، وسمينا عظيم البطن، وقد أصابه العمى آخر عمره .
وقد ندم عبد الله على عدم أخذه برخصة النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال له: ” بلغني أنك تقول: لأقومن الليل وأصومن النهار ما عشت، فقال: لقد قلتُه، فقال له: ” لاتفعل، فصم وأفطر وقم ونم ” وهكذا أفنى حياته بين جمع العلم ونشره، والجهاد والتعبد في المسجد.
وقد أسلم عبد الله بن عمرو قبل أبيه ولم يكن بين مولدهما إلا اثنتا عشرة سنة ، واستأذن النبي في كتابة ما يسمع منه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن عمرو ” قد حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل”.
وقد حفظ عبد الله بن عمرو القرآن أولا بأول وتدبر معانيه، وكانت له عناية كبيرة بالحديث النبوي، ولما كان يجيد القراءة والكتابة أباح له النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كتابة الحديث، فأبو هريرة رضى الله عنه ” ما كان أحد أكثر مني حديثا إلا عبد الله فإنه كان يكتب ولم أكن أكتب ” رواه البخارى .
وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنه قال: شهدنا أَجنادين ونحن يومئذ عشرون ألفا وعلينا عمرو بن العاص ، فهزمهم الله ففاءت فئة إلى فحل في خلافة عمر ، فسار إليهم عمرو في الجيش فنفاهم عن فحل.
وفي عام سبعة وعشرين من الهجرة عزل عثمانُ بن عفان عن مصر عَمرا ، وولى عليها عبد الله بن سعد ، فغزا إفريقية ومعه عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير ، فالتقى هو وجرجير بسُبَيطلة على يومين من القيروان، وكان جرجير في مائتي ألف مقاتل، وقيل: في مائة وعشرين ألفا، وكان المسلمون في عشرين ألفا.
ولم يكن عبد الله متثاقلا حين يأتي أمر الله بالجهاد، إذ يُرى في مقدمة صفوف المجاهدين متمنيا الشهادة في الغزوات التي اشترك فيها، وكذلك الفتوحات التي تشرف بالاشتراك فيها، وقد اشتهر بأنه كان يقاتل بسيفين، وشهد فتوح الشام مع أبيه عمرو بن العاص .
ولما كانت معركة صِفين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وقف إلى جانب معاوية خوفا من أن يكون عاقا لأبيه، ولم يُشهر سيفه ثم اعتزل القتال، وفرغ للعبادة والعلم ، وعن عبد الله بن عمرو قال: لو أن رجلا من أهل النار أخرج إلى الدنيا لمات أهل الدنيا من وحشة منظره، ونتن ريحه ، ثم بكى عبد الله بكاء شديدا.
وكان من أقوال عبد الله بن عمرو ، أنه قال ينبغي لحامل القرآن ألا يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن ، لأن في جوفه كلام الله تعالى ، وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له أن يتواضع للفقراء، ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إنْ خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب ، وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره، ويرجى خيره، ويسلم من ضره، وألا يسمع ممن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.
وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلو، فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو ، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ، ليفرق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره، فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني ، لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل الناسخ له، ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب ، فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشك فيما يتلو.
وعن عبدالله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: ” اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق” رواه أبو داود .
وكان عبد الله بن عمرو قد جمع ما كتب في صحيفة سمّاها الصحيفة الصادقة، وقيل: إنها اشتملت على ألف حديث، وُجِد بعض منها في مسند الإمام أحمد بن حنبل ،وكانت صحيفته من الدلائل على كتابة الحديث النبوي منذ البعثة الشريفة .
وكان فوق هذا يجيد السريانية فاطلع على التوراة لتفسير قصص القرآن، وقد رُزق عبد الله تلاميذ كثيرين، أشهرهم التابعي الجليل سعيد بن المُسيب أحد الفقهاء السبعة ، وقد وصل من مروياته سبعمائة حديث، ورد في الصحيحين منهما خمسة وأربعون حديثا، وكان لمسند ابن حنبل النصيب الأكبر منها.
وعن أنس بن مالك، قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ” يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ” فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى .
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، تبعَه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر حتى يقوم لصلاة الفجر .
فقال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر ثم ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: ” يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة “، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك ، لأنظر ما عملك ؟
فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت، دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشّا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إيّاه، فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق ” رواه أحمد.
وقد اختلف الرواة في مكان وفاة هذا الصحابي الجليل، وذلك لكثرة سعيه في الجهاد ونشر العلم، فقيل أنه توفي رضى الله عنه بمصر التي فتحها أبوه عمرو بن العاص، وقيل توفي في مكة مسقط رأسه، وقيل: توفي في عسقلان بفلسطين، عن عمر يبلغ اثنتين وسبعين سنة ، وتوفي عبد الله بن عمرو بن العاص سنة خمس وستين من الهجرة .