نسائم الإيمان ومع مقتل الفاروق عمر ( الجزء الثانى )
إعداد / محمـــــد الدكـــــرورى
ان مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاجعة، لا كالفواجع، لأنه كان حصن الإسلام، ودِرع الأمة، وباب الفتنة الذي ظل مغلقا حتى كُسر بقتله، فخرجت الفتن على أُمة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقالت أم أيمن رضي الله عنها يوم أصيب عمر: اليوم وَهى الإسلام، وقال زيد بن وهب رحمه الله تعالى: أتينا ابن مسعود، فذكر عمر، فبكى حتى ابتلّ الحصى من دموعه وقال: إن كان عمر حصنا حصينا للإسلام، يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انْثلم الحصن، فالناس يخرجون من الإسلام.
قال عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: رأيت سببًا أى حبلًا، تدلى من السماء، وذلك في إمارة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم، وأنه يقتل شهيدًا، قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه، فقال: يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى
فقال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها عليه، فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص عليَّ رؤياك، فقلت له: ألست قد جبهتني أي منعه، عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل، وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقُصُّها عليّ، فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيدًا، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب .
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر بن الخطاب في خطبة الجمعة الموافق واحد وعشرين من شهر ذي الحجة من عام ثلاثه وعشرين من الهجره وهي آخر خطبة له، قال: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي، رأيت كأن ديكًا نقرني نقرتين، وإن قوما يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشر عن المسلمين، ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم .
كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه، وقال عمرو بن ميمون: إني لقائم، في الصف ينتظر صلاة الفجر، وما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب، وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى.
وذلك حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني، الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، ومعنى كلمة علج هو الكافر من بلاد العجم، وكان لا يمرّ على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرنسًا، فلما ظن القاتل أنه مأخوذ نحر نفسه، وعندما مات قتل الفاروق كانت صدمه كبيره وإنّ القوم قالوا: “لوددنا أن الله زاد في عمرك من أعمارنا، من محبّتهم له رضي الله عنه،
فلما علم عمر أن الذي قتله عبد مجوسي قال: “الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجّني عند الله بسجدة سجدها قطُّ” وفي حديث جابر: أن عمر رضي الله عنه قال: “لا تعجلوا على الذي قتلني، فقيل: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، فقيل له: إنه أبو لؤلؤة، فقال: الله أكبر” وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه للصلاة بالناس، فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله.
فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنع ويشير إلى غلام المغيرة بن شعبة، أبو لؤلؤة فيروز، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك ،يريد العباس وابنه عبد الله، تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، أى كفار العجم بالمدينه، وكان العباس أكثرهم رقيقا، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتلنا.
قال: كذبت، أي أخطأت، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم، فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ والمراد بالنبيذ المذكور، هو تمرة نبذت في ماء، أي نقعت فيه، وكانوا يفعلون ذلك، لاستعذاب الماء، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جُرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه.
قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه، فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي.
فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه .
وكان عمر رضى الله عنه، كان ابن عباس يُثني عليه وهو مسند له، فلما انتهى من ثنائه قال عمر: ألصق خدّي بالأرض يا عبدالله بن عمر، فقال ابن عباس: فوضعته من فخذى على ساقي، فقال: ألصق خدّي بالأرض، فوضعته حتى وضع لحيته وخده بالأرض، فقال: ويلك عمر إن لم يغفر الله لك، فلما مات الفاروق عمررضي الله عنه قال الامام علي رضى الله عنه وأرضاه : “ما على الأرض أحدا ألقى الله بصحيفته أحب إليّ من هذا المسجّى بينكم، وصلّى عليه صُهيب الرومي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ودُفن بجانب صاحبيه، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإن الإمام العادل لا يوجد أي مسوّغٍ لقتله، لأن الناس مؤمنهم وكافرهم يرضون بالعدل، ويحبون الحاكم العادل، ويخضعون له، وعدل عمر لا يخفى على أحد، حتى شهد له به أعداؤه، ولكن أهل الأحقاد والضغائن لا يشفع عندهم عدله وإن عدل، وهذا ما كان في قلب المجوسي أبي لؤلؤة ومَن معه ممن تآمروا على قتل عمر، ولم يُشف ما في صدورهم من غيظ إلا دم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.