نسائم الإيمان ومع يحيى بن خالد البرمكى ( الجزء الأول )

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ماذا تعرف أولا عن البرامكه أخى القارئ، فيجب عليك أولا أن تعلم أن البرامكة هى أسرة يعود أصلها إلى مدينة بلخ، وكانوا في الأصل مجوسا ثم دخلوا الإسلام، وهم ينتسبون إلى جدهم الأكبر برمك، الذي كان سادنا في أحد معابد المجوس ويسمى معبد النوبهار، وهو أحد أشهر المعابد في مدينة بلخ في بلاد فارس، وكان برمك جد البرامكة من كبار سدنة المعبد وتبعه في ذلك بنوه من بعده، وقد أسلم من ذريته من أسلم، وهم من الذين تزعَموا الحراك العباسي في خراسان، حيث كان خالد بن برمك من كبار الدعاة إلى الخلافة العباسية في بلاده.

وقد اصطفاه الخليفة العباسي أبو العباس السفاح ليكون وزيرا له، وكانت أسرة البرامكة غرة على جبين الدولة العباسية، لما كان لها من المآثر والفضائل والسخاء الشديد، والأعمال العظيمة في الدولة وخاصة أيام هارون الرشيد، فيحيى بن خالد البرمكي كان مسؤولا عن تربية الرشيد، وزوجته ومرضعته، وقد حافظ لهارون على ولاية العهد عندما هم موسى الهادي بخلع أخيه الرشيد، وهو الذي قام على أمر وزارة الرشيد حتى فوض له هذا الأخير كل الأمور، أما ابنه الأول الفضل البرمكي فكان أخا الرشيد في الرضاعة والمسؤول عن تربية الأمين بن هارون الرشيد.

واستطاع أن يقضي على فتنة يحيى بن عبد الله في بلاد الديلم، ووَلى خراسان وغيرها، واتخذ من جندها جيشا كبيرا تعداده خمسين ألف جندي، جعل ولاءهم له مباشرة، وسماهم العباسية، أما جعفر بن يحيى البرمكي فهو نديم الرشيد وخليله في المجالس، فقد قضى على العصبية القبلية في الشام سنة مائه وثمانين من الهجره، ثم جعل له الرشيد ولاية خراسان والشام ومصر، وجعله مسؤولا عن تربية ابنه المأمون، أما موسى، وهو الابن الثالث ليحيى البرمكي، فكان قائدا عسكريا كبيرا، وتولى أمر الشام سنة مائه وسته وثمانين من الهجره.

في حين أن محمد الابن الرابع لم يكن له ذكر معلوم في التاريخ، ودوره في فترة وزارة البرامكة يحيطه الغموض، وقد استمرَ البرامكة في وجودهم في مركز صناعة القرار حتى كانت نهايتهم في عهد الخليفة هارون الرشيد الذي قضى عليهم في حدث تاريخي يسمى نكبة البرامكة، وقد اختلف المؤرخون فيما بينهم في السبب الذي دفع الرشيد إلى التخلص منهم على الرغم من أعمالهم العظيمة، وقد انتهت النكبة بقتل جعفر بن يحيى وسجن البرامكة عام مائه وسبعه وثمانين من الهجره، ويحيى بن خالد البرمكي كان كاتب هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، ثم أصبح وزيره بعد أن تولاها.

وأصبح هو وأولاده الفضل وجعفر من علية القوم في الخلافة الرشيدية، وكان أشهر رجال عصره علماً وأدباً وفضلاً وجوداً ونبلاً، وكان من رجال الدهر حزما ورأيا وسياسة وعقلاً، حذقا بالتصرف، كان الرشيد يعتبره أباه بعد المهدي لشدة تعلقه به، وكان في الثانية عشرة من عمره حين قامت الدولة العباسية، فتربى في ظلها، وشمله الخليفة المنصور بعطفه فولاه أذربيجان عام مائه وثمانيه وخمسين من الهجره، واختاره المهدي كاتبا ونائبا لابنه هارون، فخرج معه في الصائفة لغزو البيزنطيين، ولما تولى الرشيد بلاد المغرب، ساعده يحيى على النهوض بأعبائها، وأخلص له الإخلاص كله.

ولما أراد الهادي أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، نصحه بالعدول عن ذلك، ولذلك عينه الرشيد وزيراً بعد توليه خلافة الدولة واستعان بأولاده الفضل وجعفر وموسى ومحمد، وقد نهض يحيى بأعباء الدولة أتم نهوض وسد الثغور، وتدارك الخلل، وجبي الأموال، وعمَّر الأطراف، وأظهر رونق الخلافة، وتصدى لمهمات المملكة، وكان كاتباً بليغا، وقد سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد هشام بن الحكم فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين ؟ قال هشام : لا ، فقال يحيى : فأخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين.

وتنازعا واختلفا ، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلاً والاخر محقا ؟؟ فقال هشام : لا يخلوان من ذلك ، وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب ، فقال يحيى : فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث ، أيهما كان المحق من المبطل ؟ إذا كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين ، فقال هشام : قال فنظرت فإذا أنني قلت : بأن عليا رضى الله عنه، كان مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي ، وإن قلت : أن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ، ووردت عليَّ مسألة لم أكن سُئلت عنها قبل ذلك ، ولا أعددت لها جوابا.

فذكرت قول أبي عبد الله الصادق رضى الله عنه، وهو يقول لي : يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، فعلمت أني لا أخذل ، وعن لي الجواب ، فقلت له : لم يكن من أحدهما خطأ ، وكانا جميعا محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة نبى الله داود عليه السلام ، حيث يقول الله عز وجل ( وهَل أتاكَ نبؤاُ الخصم إذ تَسوروا المِحراب ) الى قوله : ( خَصمان بغى بعضُنا على بَعض ) فأي الملكين كان مخطأً وأيهما كان مصيبا ؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين ، فجوابك في ذلك جوابي بعينه، فقال يحيى : لست أقول : إن الملكين أخطأ.

بل أقول : إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ، ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك ، لينبها داود عليه السلام، على‌ الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه ، فقال هشام : كذلك عليّ والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ، ويدلاّه على ظلمه لهما في الميراث ، ولم يكونا في ريب من أمرهما ، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين، فلم يحر يحيى جوابا ، واستحسن ذلك الرشيد، وقد توفي خالد بن يحيى البرامكى في سجن مدينة الرِّقَّة سنة مائه وتسعين من الهجره، وله من العمر سبعين سنة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *