أئمة الإسلام ومع الإمام الشافعى

بقلم / محمـــد الدكــــرورى

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، ويلتقي الشافعي مع الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في جَدِّه عبد مناف، فالإمام الشافعي رحمه الله عليه قرشي أصيل ، أما أمه فإن أكثر من أرخ للشافعي أو ترجم له قد اتفقوا على أن أمه أزدية أو أسدية، فهي من قبيلة عربية أصيلة.

وقد ولِد بغزة في شهر رجب سنة 150هـجريه الموافق أغسطس 767ميلادى، ولما مات أبوه انتقلت به أمُّه إلى مكة ، وذلك لأنهم كانوا فقراء، ولئلا يضيع نَسَبُه، ثم تنقَّل بين البلاد في طلب العلم.

وكان الشافعي رحمه الله فقيه النفس ، موفور العقل ، صحيح النظر والتفكر ، عابدا ذاكرا ، وكان رحمه الله محبا للعلم حتى انه قال : ” طلب العلم افضل من صلاة التطوع ” ومع ذلك روى عنه الربيع بن سليمان تلميذه أنه كان يحي الليل صلاة الى ان مات رحمه الله ، وكان يختم في كل ليلة ختمة .

والامام الشافعي احد الائمة الاربعة عند اهل السنة واليه نسبة الشافعية كافة ، وكان ابوه قد هاجر من مكة الى غزة بفلسطين بحثا عن الرزق لكنه مات بعد ولادة محمد بمدة قصيرة فنشأ محمد يتيما فقيرا .

وشافع بن السائب هو الذي ينتسب اليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، واسر ابوه السائب يوم بدر في جملة من أسر وفدى نفسه ثم اسلم ، ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.

اما امه فهي يمانية من الازد وقيل من قبيلة الاسد وهي قبيلة عربية لكنها ليست قرشية، قيل ان ولادة الشافعي كانت في عسقلان وقيل بمنى لكن الاصح ان ولادته كانت في غزة عام 150 هجرية وهو نفس العام الذي توفى فيه ابو حنيفة .

ولما بلغ سنتين قررت امه العودة وابنها الى مكة لاسباب عديدة منها حتى لايضيع نسبه ، ولكي ينشأ على ما ينشأ عليه اقرانه ، فأتم حفظ القران وعمره سبع سنين ، وعرف الشافعي بشجو صوته في القراءة ، فقال ابن نصر : كنا اذا اردنا ان نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا الى هذا الفتى المطلبي يقرأ القران ، فاذا أتيناه يصلي في الحرم ، استفتح القران حتى يتساقط الناس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فاذا راى ذلك امسك من القراءة .

ولحق بقبيلة هذيل العربية لتعلم اللغة والفصاحة ، وكانت هذيل افصح العرب ، ولقد كانت لهذه الملازمة اثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقدلفتت هذه البراعة انصار معاصريه من العلماء بعد ان شب وكبر ، حتى الاصمعي وهو من ائمة اللغة المعدودين يقول : صححت اشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن ادريس ، وبلغ من اجتهاده في طلب العلم ان اجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالفتيا وهو لا يزال صغير .

وكان الإمام الشافعي رجلاً طويلاً، حسن الخلق، محببًا إلى الناس، نظيف الثياب، فصيح اللسان، شديد المهابة، كثير الإحسان إلى الخلق، وكان يستعمل الخضاب بالحمرة عملاً بالسنة، وكان جميل الصوت في القراءة.

لقد عُرف الإمام الشافعي بالنجابة والذكاء والعقل منذ أن كان صغيرًا، وشهد له بذلك الشيوخ من أهل مكة ، وقال الحميدي: ” كان ابن عيينة، ومسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وعبد المجيد بن عبد العزيز، وشيوخ أهل مكة يصفون الشافعي ويعرفونه من صغره، مقدمًا عندهم بالذكاء والعقل والصيانة، لم يُعرف له صبوة”.

وقال الربيع بن سليمان ، تلميذ الشافعي وخادمه وراوي كتبه ” لو وُزِن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه “.

وكما كان الإمام الشافعي إمامًا في الاجتهاد والفقه، كان كذلك إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة ، فعن الربيع قال: “كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام”.

وكان رحمه الله لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة، ويقول المزني: “ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قَطُّ بالليل إلا وهو في الصلاة”.

ولقد حفظ الشافعي وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبا كتاب الموطأ للامام مالك ورحلت به امه الى المدينة ليتلقى العلم عند الامام مالك ، ولازم الشافعي الامام مالك ست عشرة سنة حتى توفى الامام مالك 179 هجرية وبنفس الوقت تعلم على يد ابراهيم بن سعد الانصاري ، ومحمد بن سعيد بن فديك وغيرهم .

وبعد وفاة الامام مالك سنة 179 هجرية ، سافر الشافعي الى نجران واليا عليها ورغم عدالته فقد وشى البعض به الى الخليفة هارون الرشيدفتم استدعائه الى دار الخلافة سنة 184هجرية وهناك دافع عن موقفه بحجة دامغة وظهر للخليفة براءة الشافعي مما نسب اليه واطلق سراحه .

واثناء وجوده في بغداد أتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ ابي حنيفة وقرأ كتبه وتعرف على علم اهل الرأي ثم عاد بعدها الى مكة واقام فيها نحوا من تسع سنوات لينشر مذهبه من خلال حلقات العلم التي يزدحم فيها طلبة العلم في الحرم المكي ومن خلال لقاءه بالعلماء اثناء مواسم الحج ، وتتلمذ عليه في هذه الفترة الامام احمد بن حنبل .

وقد نبغ على الإمام الشافعي كثير من الناس، في مقدمتهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، والحسن بن محمد الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وأبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي، وأبو يوسف يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وعبد الله بن الزبير الحميدي.

ثم عاد مرة اخرى الى بغداد سنة 195 هجرية ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء ويقصده الطلاب من كل مكان ، ومكث الشافعي سنتين في بغداد ألف خلالها كتابه الرسالة ، ونشر فيها مذهبه القديم ولازمه خلال هذه الفترة اربعة من كبار اصحابه وهم احمد بن حنبل ، وابو ثور ، والزعفراني ، والكرابيسي .

ثم عاد الامام الشافعي الى مكة ومكث بها فترة قصيرة غادرها بعد ذلك الى بغداد سنة 198هجرية ، وأقام في بغداد فترة قصيرة ثم غادر بغداد الى مصر ، وقدم مصر سنة 199 هجرية ، تسبقه شهرته وكان في صحبته تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي ، وعبدالله بن الزبير الحميدي ، فنزل بالفسطاط ضيفا على عبد الله بن عبد الحكم وكان من اصحاب مالك .

ثم بدأ بالقاء دروسه في جامع عمرو بن العاص فمال اليه الناس وجذبت فصاحته وعلمه كثيرا من اتباع الامامين ابي حنيفة ومالك ، وبقي في مصر خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ، وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد وهو الاحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه في العراق ، وصنف في مصر كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه .

ولم يُعرف لإمام قبل الإمام الشافعي من المؤلفات في الأصول والفروع والفقه وأدلته، بل في التفسير والأدب ما عرف للشافعي كثرةً وبراعةً وإحكامًا ، يقول ابن زُولاق: ” صنف الشافعي نحوًا من مائتي جزء”.

ولقد كان في سرعة التاليف مع الدقة والنضج والإتقان أعجوبة منقطع النظير، حتى إنه ربما أنجز كتابًا في نصف نهار. يقول يونس بن عبد الأعلى: “كان الشافعي يضع الكتاب من غدوة إلى الظهر”.

ودون الشافعي الاصول التي اعتمد عليها في فقهه ، والقواعد التي التزمها في اجتهاده في رسالته الاصولية “الرسالة ” وطبق هذه الاصول في فقهه ، وكانت اصولا عملية لا نظرية ، ويظهر هذا واضحا في كتابه ” الام ” الذي يذكر فيه الشافعي الحكم مع دليله ، ثم يبين وجه الاستدلال بالدليل وقواعد الاجتهاد واصول الاستنباط التي اتبعت في استنباطه .

فهو يرجع اولا الى القران وما ظهر له منه ، الا اذا قام دليل على وجوب صرفه عن ظاهره ، ثم الى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الخبر الواحد الذي ينفرد راو واحد بروايته ، وهو ثقة في دينه ، معروف بالصدق ، مشهور بالضبظ .

وهو يعد السنة مع القران في منزلة واحدة ، فلا يمكن النظر في القران دون النظر في السنة التي تشرحه وتبينه ، فالقران يأتي بالاحكام العامة والقواعد الكلية ، والسنة هي التي تفسر ذلك ،فهي التي تخصص عموم القران او تقيد مطلقه ، او تبين مجمله .

ولقد كان الشافعي فصيح اللسان بليغا حجة في لغة العرب عاش فترة من صباه في بني هذيل فكان لذلك اثر واضحا على فصاحته وتضلعه في اللغة والادب والنحو ، اضافة الى دراسته المتواصله واطلاعه الواسع حتى اصبح يرجع اليه في اللغة والنحو .

وقال احمد بن حنبل : كان الشافعي من افصح الناس ، وكان مالك تعجبه قراءته لانه كان فصيحا ، وقال احمد بن حنبل : ما مس أحد محبرة ولا قلما الا وللشافعي في عنقه منة ، وقال ايوب بن سويد : خذوا عن الشافع اللغة .

ويحكي عن الشافعي إنه كان جالس وسط تلامذته فجاءته جارية وقالت له يا إمام : أتزنى بالليل وتخطب بالنهار ؟ فنظر تلاميذ الشافعي له منتظرين إجابته ونفي هذه التهمة فنظر الشافعي للجارية وقال لها: يا جارية ، كم حسابك؟ فثار تلامذة الشافعي ، منهم من صاح ومنهم من قام ليمشي فقال لهم الشافعي: فلتعتبروني مثل التمر كلوا منه الطيب وإرموا النواه فلم يعجب التلاميذ بهذا ووسط هذا اللغط .

وجاء رجل مسرعاً يقول ، يا جارية إن بيتك يحترق وبداخله أبنائك فجرى كل من كان موجوداً بإتجاه المنزل بما فيهم الشافعي وحين وصلوا دخل الشافعي مسرعاً وأنقذ الأطفال فقالت الجارية منكسرة إن اليهود هم من سلطوني لأفعل هذا حتى تهتز صورتك وسط تلاميذك فنظر التلاميذ متسائلين للشافعي عن عدم نفي التهمة عنه .

فقال الشافعي لو كنت نفيت التهمة كنتم ستقتسمون لفريقين ، فريق لن يصدقني ويستمر في تكذيبي وفريق يصدقني ولكن يشك في قرارة نفسه ،فأحببت أن أفوض أمري كله لله ، فلا تبرروا كثيرا مهما احسستم بالظلم و سمعتم من افتراء ، فوضوا أموركم جميعها إلى الله فهو عالم بما خفي عن البشر لا تحرم نفسك منه ؟

وهذه القصة باطلة ولا يجوز نشرها ولا روايتها ، فهي قصة لا أصل لها ولا سند ، وجميع الكتب التي صنفها الفقهاء والعلماء في مناقب الشافعي لم تذكرها ، فهي من نسج خيال بعض القصاص الذين ابتليت بهم الأمة ممن يؤلفون قصصا طريفة من وحي خيالهم ليمتعوا بها آذان العوام .

والعجيب أنها تنتشر في المنتديات سرعة انتشار النار في الهشيم ويدعي ناشروها أن فيها عبرة وعظة فيمن تعرض للظلم أو إساءة الظن ، بينما القصة فيها تشويه كبير لإمام من أئمة الفقه والعلم قد اتفقت الأمة على جلالة قدره ورفعة شأنه .

وقد مرض الإمام الشافعي قبل وفاته مرضاً شديداً، وخلال مرضه دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت ؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله جل ذكره وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنِّئها، أو إلى النار فأعزّيها ، ثمّ بكى .

وتوفي رحمه الله ليلة الجمعة بعد صلاة العشاء، في آخر يوم من شهر رجب، وكان يبلغ من العمر عند وفاته أربعة وخمسين عاماً، ودفن في القاهرة في الأول من شهر شعبان، يوم الجمعة عام 204 هـجريه الموافق 820 ميلادى ، وكان له ولدان وبنت، وكان قد تزوج من امرأة واحد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *