أزمة كورونا بين براجماتية المستثمر وعاطفية المستهلك ووهم “العالة ومصاص الدماء”

أزمة كورونا بين براجماتية المستثمر وعاطفية المستهلك ووهم “العالة ومصاص الدماء”

هدوى محمود 

الشياطين ليسوا عمالا ولا رجال أعمال.. أزمة كورونا بين براجماتية المستثمر وعاطفية المستهلك ووهم “العالة ومصاص الدماء”.. كيف نوازن بين إنقاذ الاقتصاد والإفلات من الوباء؟.. وكيف ننجو من فريقى الجشع والحقد الطبقى؟!

أكثر من مليار و100 مليون حول العالم يُعانون من الجوع، بحسب تقرير الأمم المتحدة بمؤتمر الأمن الغذائى (إيطاليا 2009)، ونحو 7 ملايين طفل يموتون سنويا، بواقع طفل كل خمس ثوانٍ، نتيجة تأثيرات الفقر وما يترتب عليه من سوء تغذية، حسبما أورد التقرير نفسه، والآن يبدو أن تلك الأعداد مُرشحة للزيادة بسبب وباء فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19”.

بناتج إجمالى عالمى يدور في نطاق 70 تريليون دولار سنويا، يُنتج ويتداول ويستهلك قرابة 8 مليارات إنسان ما يوازى 195 مليار دولار يوميا من السلع والخدمات. وحتى تُحافظ السوق العالمية على عافيتها وقدرات الاستدامة فإنها تحتاج نموا يُكافئ 88 مليونا سيُضافون لتعداد السكان خلال العام الجارى، فضلا عن طلب على الوظائف الجديدة بعشرات الملايين الإضافية ممن سيعبرون الطفولة إلى الشباب وسوق العمل، فى الوقت الذى عدّلت فيه المؤسسات المالية وبنوك الاستثمار توقعاتها للنمو العالمى إلى خسارة نصف ما كانت تُبشّر به قبل عدة شهور، وصولا على سبيل المثال إلى نمو بـ1.3% فقط بحسب وكالة فيتش للتصنيف الائتمانى (بفقدان أكثر من 850 مليار دولار من التوقعات السابقة)، بينما كانت الصورة أكثر سوادا لدى بنك جولدمان ساكس العالمى متوقعا انكماش الاقتصاد بنحو 1% (أى فقدان 700 مليار دولار من مستويات العام الماضى)، وتلك المؤشرات تعنى خسارة ملايين الوظائف، وتضرر الإنفاق الاستهلاكى بشكل يُقوّض قطاعات تنموية وخدمية عديدة، مع إعادة ترتيب أولويات المستهلكين بما يُجهز على قطاعات أخرى. فى المقابل تبدو أفكار البعض بشأن المحنة الاقتصادية الراهنة والتعاطى مع مكونات الأزمة ومساراتها الراهنة والمُحتملة أقرب إلى التبسيط المُخلّ، وربما الانتحار!

الموت مرضا أو فقرا
الموت مرضا أو فقرا

لا تبدو الصورة العامة إيجابية فى أى من عناصرها. يعيش العالم أزمة صحية غير مسبوقة على الأقل منذ وباء الأنفلونزا الإسبانية بين آخر العقد الثانى وأوائل الثالث من القرن الماضى (أودت بحياة ما بين 30 و100 مليون إنسان بحسب تقييمات متفاوتة)، وإلى جانب ذلك تتصاعد المخاوف الدولية بشأن الاقتصاد كما لم يحدث منذ أزمة الرهن العقارى بالعام 2008، وربما الكساد العالمى الكبير قبل قرابة مائة سنة.. المفارقة أننا بين الأمرين ما نزال عاجزين عن إنتاج مقاربة موضوعية ناضجة، سواء عبر استناد جاد ودقيق لمعلومات طبية وبيولوجية مؤكدة، أو امتلاك خطط وسيناريوهات واضحة لتجاوز التداعيات المحتملة حال امتداد الأزمة!

فى الوقت الراهن لا تتوافر أرقام مُدقّقة بشأن حجم الإنتاج العالمى، المُتحقّق أو المُتعطّل، ولا حجم المخزون ومدى كفايته. فى المقابل تُشير أرقام بعض القطاعات إلى حجم المحنة، بعدما تقلص الطلب على النفط ليتراجع إلى ما دون 20 دولارا للبرميل خلال الأيام الأخيرة. تلك المعادلة البسيطة ربما تعنى أن العالم فقد ما لا يقل عن ثلثى إنتاجه الفعلى من السلع والخدمات، وقد تكون الأزمة فى سبيلها إلى التصاعد للأسف!

قتامة المشهد تتصل بالفرضيات المُغلقة: إما انفتاح كامل للحفاظ على الاقتصاد مع خسارة الأرواح، أو إغلاق كامل للحفاظ على الأرواح مقابل خسارة الاقتصاد.. وفق هذا المنطق يبدو الأمر وكأننا نُفاضل بين الموت مرضا أو جوعا، بينما لا يُفترض أن يكون الموت خيارا للعالم من الأساس!

نحو 25% من الناتج العالمى السنوى تُدرها الصناعة، مع قوة عمل تتجاوز 20% من سوق الوظائف. لكن خارج تلك المؤشرات فإن ثلاثة أرباع الاقتصاد المتبقية ترتبط بالصناعة، وحال توقف القطاع أو جرى تجفيفه بتدابير طارئة فإن مؤشرات الإنتاج والتجارة والإنفاق الاستهلاكى والادخار والتضخم والبطالة ستنفجر جميعا.
مقابل كل عامل أو فلاح تدور عجلات العمل فى قطاعات أخرى، وحال توقفت المصانع والحقول فإن كل تلك القطاعات ستتوقف إجباريا، فضلا عن تجفيف عوائد ملايين العاملين خارج القطاعين، ممن يرتبطون بمُدخلات الصناعة والزراعة أو مُخرجاتهما أو القُدرات الشرائية للعاملين فيهما.
وفق الحسابات الرقمية المجردة لا يُمكن لأية دولة احتمال حالة الإغلاق الكامل، ولا يملك الاقتصاد العالمى القدرة على تجاوز تداعيات ذلك الإغلاق حال كان موقفا عاما. فى المقابل فإن الحسابات الإنسانية لا تقبل التضحية بالعاملين فى لعبة الاحتمالات بينما لا نملك دواء أو مصلا واقيا. وبينما يُفترض أن نبحث عن مسار محسوب بين الأمرين، يتنازع فريقان فى المشهد: رجال مال واقتصاد يستعجلون التشغيل الكامل، وناشطون على مواقع التواصل يُطالبون بالإغلاق الشامل المُحكم.
الأمران لا يخلوان من تبسيط. عمليا لا يُمكن الإغلاق تماما لأن للسوق متطلبات يتعين تلبيتها حتى مع احتمالات المخاطرة وفقدان الأرواح، وكذلك لا يُمكن التشغيل كما لو كانت الحياة طبيعية لأن للصحة والتدابير الوقائية متطلبات لا يُمكن إغفالها حرصا على حياة الجميع وقدرات المنظومة الطبية واستيعابها.. والأهم أننا بين الأمرين نرى قطاعات أغلقت وأخرى تعمل بكامل طاقتها، لكن كل فريق من المتنازعين يرى طرفا من الصورة ويُغفل بقيتها انتصارا للهوى أو تورُّطًا فى التناقض!
رجال المال ورجال الوقت
رجال المال ورجال الوقت
خلال الأيام الأخيرة احتدمت المناوشات بين الفريقين، من تصريحات مستثمرين ورجال أعمال يدعون الدولة لإنهاء حالة الإغلاق الجزئى والسماح لعجلة الصناعة والاقتصاد بالدوران بكامل طاقتها، حتى لو تكبدنا خسائر فى الأرواح، إلى ردود حادة ومُتشنجة من ناشطى مواقع التواصل الاجتماعى الثائرين على الرأسمالية المتوحشة والمتباكين على عدالة المجتمعات الشيوعية أو أزمنة الرأسمالية الوطنية الغابرة.. فى الجانبين لم يكن المشهد مقنعا للأسف، وبدا كأنه مُكايدة مجانية، أو جشع من الفريق الأول مقابل رومانسية أو مُزايدة أو أحقاد طبقية من بعض الفريق الثانى.
تحدث نجيب ساويرس عن ضرورة العودة للعمل، وتبعه حسين صبور الذى كان أكثر جرأة وصداما مع الوعى الشعبى، وبينهما قال رؤوف غبور إنه لن يتبرع لجهود مواجهة الأزمة. فى المقابل ثار شباب منصات التواصل وشيوخها، منتقدين الداعين إلى استعادة قدرات السوق الإنتاجية، والمتقاعسين عن التبرع رغم ثرواتهم الطائلة!

الحقيقة أن رجال الأعمال المتحدثين خانهم التوفيق بدرجة ما، فى انتقاء الألفاظ لا منطق الفكرة نفسها. والحقيقة أيضا أن ثوار “السوشيال ميديا” خانهم التوفيق فى المنطق لا فى الإنسانية التى لا يُمكن إغفالها أو إخراجها من المعادلة تماما.. فعليا لا يُمكن أن يُدار الاقتصاد ويُصان المجتمع بأى من المنطقين أو عقول الفريقين!

رجال الأعمال فكروا كمنصات مالية واستثمارية دون النظر إلى حسابات الاقتصاد بصورته الشاملة، وناشطو المواقع استثمروا فى أكثر السلع توافرا لديهم الآن، مستغلين الوقت الطويل فى فترات العزل الذاتى أو حظر التجول الجزئى فى ممارسة وجودهم الفيزيقى، واختلاق معارك وهمية وخصوما غير موجودين أصلا!
حاول رجال الأعمال الخروج من أزمة الاقتصاد فاقترحوا أزمة أخرى تغلفها المخاوف الصحية، وحاول رجال الوقت الخروج من أزمة الصحة فاقترحوا ما يقود إلى أزمة اقتصادية. لا رجال الأعمال أخطأوا ولا ناشطو مواقع التواصل، إذ ما بين الفريقين المتطرفين فى الانحياز على أرضية نفعية أو عاطفية يأتى دور الدولة التى تتولى ترشيد تلك الرؤى وإدارتها وفق أوفق الحلول وأقل المخاطر
إذا استجبنا لرجال الأعمال الخائفين على الاقتصاد فإننا نغامر بملايين الإصابات وآلاف الوفيات، وبالضرورة سيتسبب ذلك فى توقف عجلة الاقتصاد مع تضرر الدخول وقدرات المستهلكين الشرائية وإعادة ترتيب أولوياتهم بما يوجه إنفاقهم للغذاء والرعاية الصحية، أى أن باقى القطاعات المتضررة حاليا قد تتضرر بدرجة أكبر. وإذا اتبعنا منطق ناشطو مواقع التواصل فإننا سنعانى من شلل كامل مع توقف الإنتاج والخدمات والأسواق والتجارة والمرافق، وحتى الكوادر الطبية لن يجدوا الحلقات الوسيطة التى تدبر حاجاتهم اليومية!
رجال الأعمال الذين طالبوا بالعودة الكاملة للعمل أكدوا جميعا أنهم لا يغادرون منازلهم، وناشطو مواقع التواصل الذين غضبوا وثاروا وانتقدوا الرأسمالية المتوحشة لن يتحملوا يوما بدون مخبز أو سوق خضروات أو محل بقالة أو كهرباء ومياه وهواتف، بل إن المهنيين والحرفيين منهم ما يزالون على حالهم ولم يتوقفوا عن العمل.. الفريقان متناقضان، والمواقف مراهقة وعاطفية، والمصالح العليا للدول والمجتمعات لا تُدار هكذا!
لا يحتمل الموقف أية رؤى أيديولوجية، ولا يحتمل مستويات التخندق التقليدية بين الافتتان بالليبرالية فى تجلياتها الاقتصادية أو هجائها والحط منها.. المطالبة بالتشغيل الكامل تنطوى على تضحية بحصة من السوق التى ستستهلك تلك المنتجات، والمطالبة بالإغلاق الكامل تضحية بكامل السوق والمستهلكين، وحتى لو ألزمت الدولة رجال الأعمال بإبقاء العمال فى منازلهم مع صرف رواتبهم كاملة – كما يطالب البعض – فإن العمال أنفسهم، وغيرهم من القوى الشرائية النشطة، لن يجدوا ما يشترونه بتلك الرواتب!
نحتاج للإفلات من الوباء العاصف، ونحتاج بالدرجة نفسها لإنقاذ الاقتصاد من التداعيات، لا يُمكن أن تستقيم السوق بدون مستثمرين ومُنتجين، ولا يُمكن أن تضمن استدامتها بدون قوة عمل سليمة وظهير استهلاكى حيوى، ومن غير المنطقى أو المفيد لأى من الطرفين أن تتحول تلك العلاقة لحالة من النزاع على طريقة مصارعة الموت. للأسف لن يكون بمقدور أحدهما العيش بدون الآخر!
يرى البعض أن الرأسمالية المصرية أثبتت قدرا من الانتهازية والخسّة فى الأزمة الراهنة إلى حد تصويرها فى مظهر مصاص الدماء متحجر القلب، ويرى فريق آخر أن قوة العمل المصرية غير مُنتجة وتفضل أن تكون “عالة” على أن تجنى قدر ما تبذل.. الرؤيتان يمكن مقاربتهما بالعقل والمنطق، بالفعل لم نعد فى سياق الرأسمالية الوطنية التى عرفتها مصر مع موجة التمدن والبحث عن التحرر من الاستعمار خلال النصف الأول من القرن الماضى، لكن رجال الأعمال ليسوا نسخا محلية من “دراكولا” كما يُسوّق البعض، وبالفعل أيضا لسنا أفضل قوة عمل فى الكفاءة أو الإنتاج، لكننا لسنا “تنابلة” وتشهد الأسواق وثروات رجال الأعمال أنفسهم، وبين الوجهين علينا إدارة معادلة الاقتصاد وفق تلك المكونات، كما هى بمزاياها وعيوبها، بدون تمايزات أخلاقية أو شعارات براقة.. إذ لا يمكن أن تكون الأزمة مخرجا من الأزمة، ولا نملك رفاهية الاختناق بين أزمتين لأن بعض الناس قرروا الانتصار للسطحية والانسحاق بين الحقد أو الجشع!
الحقيقة القاطعة أن إفقار الأغنياء لن يحل مشكلات الفقراء، وأن إغناء المتعطلين لن يبنى مستقبلا لهم أو للمنظومة.. الحفاظ على الرأسمالية المصرية بكل عيوبها ضرورة، وصيانة السوق ومكونات العرض والطلب وتنميتها ضرورة، مساندة رجال الأعمال والشعور بأزماتهم ضرورة، كما أن حقوق العمال وحياتهم ضرورة مُقدسة.. بدون التوفيق بين كل تلك الضرورات وغيرها سنكون كمن يتقافز على ساق واحدة، أو يطلق الرصاص على قدميه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *