الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء الأول “

بقلم: محمـــد الدكـــرورى

إن رمضان، أيام مضت، وصفحات طويت، وحسنات قيدت، وصحائف رفعت، وها قد حان وقت الرحيل، فما أشبه الليلة بالبارحة، فقد كنا في شوق للقائه، نتحرى رؤية هلاله، ونتلقى التهانى بمقدمه، وها نحن في آخر ساعاته، نتهيأ لوداعه، وهذه سنة الله في خلقه، أيام تنقضى، وأعوام تنتهى، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، فمن المقبول منا فنهنئه، ومن المحروم منا فنعزيه، فيا أيها المقبول هنيئا لك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك، ونحن الآن في آخر أيام رمضان، ولم يتبق سوى يومين، والأمر الأعظم الذى شرع من أجله الصيام هو التقوى، وإذا كنا فى ختام الشهر فلنا أن نستدل على أنفسنا بقبول صيامنا جعلنا الله أجمعين كذلك أو خسران جهد البدن والنفس دون تحصيل القبول وأعيذكم بالله ونفسى أن نكون كذلك، إننا نستدل على ذلك بظهور علامات التقوى على أفعالنا وأقوالنا، بل وحتى سكوننا، ولنلق نظرة على آية من آيات القرآن جمعت صفات كثيرة للمتقين فى سياق واحد.

لنرى التزامنا بالتقوى من عدمه أيها الصائمون قال الله تعالى بعد أن بيّن أن الشهوات زُينت للناس فقال تعالى فى سورة آل عمران ” للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد، الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار” فظهرت أعمال مباركة، وصفات كريمة من صفات المتقين في هذه الآيات الثلاث، أولها التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به لطلب المغفرة، والوقاية من عذاب النار، والصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره، والصدق في الأقوال والأعمال والأحوال، ودوام الخشوع لله للملك الجليل، والإنفاق في سبيل الله وتجنب أفعال البخيل، والاستغفار من الخطايا بالأسحار، وهذه بعض صفات المتقين فى ثلاث آيات، وفى آيات أخر يذكر الله تعالى صفات المتقين، فنجدها بذل المال في السراء والضراء، وكتم أشد الغضب وأعظمه، فكيف بأقله.

ويزيدون على ذلك العفو عن المخطئين، بل ويحسنون لمن أحسن إليهم ولمن قصر في حقهم، ثم إذا واقعوا معصية فسرعان ما يعودون ويؤوبون، ويندمون ويستغفرون، وعلى خطئهم لا يصرون حين يعلمون، وإن من يستقيم على هذه الصفات وغيرها من خصال الخير، فهو الحرى بأن يكون قد صام حقا، وتعبد لله صدقا، فهذه من آثار التقوى التي ابتدأ الله كلامه عن الصيام بها، وبها ختم حديثه عنه، ومن يفعل ذلك فهو الحري بالجزاء الموعود، في يوم الخلود، جنات من تحتها الأنهار تجرى، والموت والفناء عليهم لا يسرى، وينعمون بالحور الطاهرات، والكواعب المزهرات، وقبل ذلك كله وبعده غفران الحليم الكريم، والتنعم برضوان البر الرحيم، أمثل هذا يرغب عنه من يشقي جسده بالجوع والعطش، ثم لا يحصل على ذلك من شيء لسبب واحد، أنه لم يحقق المقصود الأسنى من الصيام، وهو تقوى الملك الجليل؟ وها نحن نودع رمضان المبارك بنهاره الجميل ولياليه العطرة، ها نحن نودع شهر القرآن والتقوى.

وشهر الصبر والرحمة والمغفرة والعتق من النار، وكنا بالأمس القريب نقول مرحبا بك يا رمضان، مرحبا بك يا شهر القرآن، وها نحن اليوم نقف لنودعه، ونقول له السلام عليك يا شهرنا الكريم، السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك يا شهر الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، السلام عليك يا شهر التجاوز والغفران، السلام عليك يا شهر البركة والإحسان، السلام عليك يا شهر الأمان، كنت للعاصين حبسا، وللمتقين أنسا، السلام عليك يا شهر الصيام والتهجد، السلام عليك يا شهر التراويح، السلام عليك يا شهر الأنوار والمصابيح، فيا ليت شعرى، هل تعود أيامك أو لا تعود؟ وهل إذا عادت أيامك، فسنكون في الوجود، وننافس أهل الركوع والسجود، أو سنكون قد انطبقت علينا اللحود، ومزقنا البلى والدود؟ فيا أسفا على رحيلك يا رمضان، فيا شهرنا، غير مُودع ودعناك، وغير مقلي فارقناك، كان نهارك صدقة وصياما، وليلك قراءة وقياما، فعليك منا تحية وسلاما، أتراك تعود بعدها علينا، أم يدركنا المنون، فلا تؤول إلينا؟

مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا منك معمورة، فالآن تطفأ المصابيح، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة، والله، حق على كل واحد منا أن يبكي عليه، وكيف لا يبكى المؤمن رمضان، وفيه تفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يبكي المذنب ذهابه، وفيه تغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبكي على وقت تسلسل فيه الشياطين، فيا لوعة الخاشعين على فقدانه، ويا حرقة المتقين على ذهابه، فإن كثيرا من المسلمين يكونون في رمضان من الذين هم على صلاتهم يحافظون، فإذا انقضى رمضان، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين يجتنبون في رمضان مشاهدة المحرمات، وسماع الأغاني، فإذا انقضى رمضان، عادوا إلى ما كانوا عليه من الباطل، وهؤلاء يُخشى عليهم أن يُختم لهم بالسيئات، فيا مَن صام لسانه في رمضان عن الغيبة والنميمة والكذب، واصل مسيرتك، وجد في الطلب، ويا من صامت عينه في رمضان عن النظر المحرم، غض طرفك ما بقيت، يورث الله قلبك حلاوة الإيمان ما حييت.

ويا من صامت أذنه في رمضان عن سماع ما يحرم من القول، وما يستقذر من سماع غيبة، أو نميمة، أو غناء، أو لهو، اتقى الله ولا تعد، اتقى الله، ولا تعد، ويا من صام بطنه في رمضان عن الطعام، وعن أكل الحرام، اتقى الله في صيامك، ولا تذهب أجرك بذنبك، وإياك ثم إياك من أكل الربا، فإن آكله مُحارب لله ولرسوله، فهل تطيق ذلك؟ ولقد ذم السلف هذا الصنف من الناس، وهذا النوع من الأجناس، قيل لبشر إن قوما يجتهدون ويتعبدون فى رمضان، فقال “بئس القوم الذين لا يعرفون اللهَ إلا فى رمضان، إن الصالح يجتهد ويتعبد السنة كلها” وهذا الإمام علي رضي الله عنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان”يا ليت شعري، من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه” فيا أيها المقبولون، هنيئا لكم، وأيها المردودون، جبر الله مصيبتكم، ماذا فات مَن فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك مَن أدركه فيه الحرمان؟ كم بين مَن حظه فيه القبول والغفران، ومَن حظه فيه الخيبة والخسران؟ متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟

ومتى يتعظ ويعد ويستفيد ويتغير ويغير من حياته مَن لم يفعل ذلك في رمضان؟ إنه بحق مدرسة للتغيير، نغير فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله عز وجل، فإن السعيد منا مَن ترك الدنيا قبل أن تتركه، وعمر قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه، فتذكر أيها الصائم وأنت تودع شهرك سرعة مرور الأيام، وانقضاء الأعوام، فإن في مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، فيا مَن ستودع رمضان، تذكر أنك ستودع الدنيا، فماذا قدمت لله؟ هل أنت مستعد للقائه؟ إن من عزم على سفر، تزود لسفره، وأعد العدة، فهل أعددت زادا لسفر الآخرة؟ فعجبا لمن أعد للسفر القريب، ولم يعد للسفر البعيد، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أى المؤمنين أفضل؟ قال “أحسنهم خلقا ” قال فأى المؤمنين أكيس؟ قال “أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس” وإن مَن أكثر من ذكر الموت، أكرم بثلاثة أشياء، تعجيل التوبة، وقناعة القوت، ونشاط العبادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *