الفن بين مزاجنجي ومحروس ننس

بقلم – خالد جعفر

الاعتياد ليس سمة من سمات حياتي ، أرى دائما أنه أشبه بحالة الكسل أو نوم اليقظة والانتظار ، فأنا أتبع دائما تلك النظرية الفيزيقية التي تفضل الحركة على الثبات ، يحدث هذا معي عندما أتمكن من جهاز الريموت – مغير القنوات – أجدني لا أستقر على قناة واحدة فأنا لا تستهويني كثيرا فكرة الجلوس أمام شاشة التلفاز ،

ولكني هذه المرة رفعت أصبعي عن زر البحث عندما شاهدت بداية عرض فيلم (الكيف) قصة وسيناريو الرائع محمود أبو زيد وإخراج المبدع علي عبد الخالق وبطولة محمود عبد العزيز الذي ترك كلية الحقوق في دور (مزاجنجي) ويحي الفخراني في دور (صلاح) أستاذ الكيمياء في إحدى الجامعات ،

وهنا تبدأ المفارقة ويدور الصراع . من الضروري أن تعرف أن الفيلم إنتاج سنة 1985 تلك المرحلة التي عشتها شابا في الجامعة وعرفت تفاصيلها .فيلم الكيف رسم بدقة لافتة للنظر فلسفة تبرير الخطأ وانهيار الذوق العام على كل المستويات وكأنها كانت إيذانا لما وصلنا إليه الآن ..

ركز محمود أبو زيد على حالة الغيبوبة التي سيطرت على المجتمع في تلك الفترة متمثلة في المخدرات التى كانت في متناول الجميع ، والتي ألهت الشعب وهجمت على كل القيم والمبادئ وهدمت الأخلاق والعادات والأصول ، وغاب الجميع بإرادته عن الواقع ، وانعكس ذلك على الفن الغنائي تحديدا أيضا صوره المؤلف في صورة (محروس ننس) كاتب الأغاني الهابطة ، وسقطت الدولة في السيطرة على هذا الغزو السمعي سقوطا لايقل عن سقوط الأندلس والتي كنا نطلق عليها الفردوس المفقود كما كنا نطلق على القاهرة هوليود الشرق ..

لم أكن أدرك في ذلك الوقت أن المجتمع ينهار كما أدركه الكاتب محمود أبو زيد ، فرؤيته كانت أكثر واقعية مني ، وما نحن فيه الآن لايعدو إلا أن يكون امتدادا لتلك الفترة . وأنا ألفت النظر إلي ظاهرة ربما يكون قد كان مرتبا لها ، ولم يلتفت إليها الكاتب ولم يشر إليها في أحداث الفيلم لأنها لم تكن قد اكتملت و لكنها ظهرت بعد سنوات قليلة وهي التيارات الدينية التي ظهرت ونشطت مع ظهور الفضائيات والقنوات الدينية و ظهور مشايخ في ثياب لم نعهدها ، وأفكار لم تكن في قاموس حياة المصريين ، غزو مجتمعى آخر قادم إلينا من الصحراء .

نعود لأحداث الفيلم الذي رسم صورة النصف الأول من الثمانينيات والتي كان فيها كل شيء غائبا عن الوعي و مخدرا ولا يفكر إلا في اللحظة التي يعيشها .. غابت فكرة بناء الوطن ، غابت فكرة التربية والتعليم وانهارت الصحة وانتشر العنف وحوادث القتل وسمعنا عن الإرهاب ، وزحفت العشوائيات وأصبحت النظرية الاقتصادية السائدة هي كيف تكون مسئولا وتسرق بالقانون ،
واتنشرت مصطلحات مثل (الرزق يحب الخفية) و(القرش صياد) وأصبحت الرشوة قانونا سائدا والتهريب والتهرب الضريبي كان بمعاونة الدولة نفسها ، ووضع كل واحد يده في جيب الآخر ، هكذا كانت تدار الحركة الاقتصادية .

صور محمود أبو زيد في الفيلم الانهيار الغنائي الذي أصبح ضجيجا يؤرق مسامعنا في البيوت وفي الشوارع وفي المقاهي وفي وسائل المواصلات على لسان مزاجنجي : لازم ندوش الدوشة بدوشة أدوش من دوشتها علشان متدويشناش .

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *