انقطع الصوت حين انقطع الأمل

انقطع الصوت حين انقطع الأمل

كتبت/ صفاء بركات 

جلس الرجل الذى جاوز الستين فى (الترام) فى وقت الغروب متأملا الوجوه حوله ناظرا تارة من شباك ( الترام ) وتارة فى وجوه البشر.
فجأة رن هاتف أحد الجالسين بجواره ، أسرع ليفتح هاتفه النقال لكنه اكتشف الواقع المرير ، تذكر أن هاتفه لم يدق منذ أكثر من شهرين كان آخرها اطمئنان ابنته التى بالخارج .
حاول أن يقطع لحظات الحزن يتذكر أمجاده يوم كان مخرجا يتصل به الممثلون كبار القيمة ويلاحقه الممثلون المغمورون والمتسلقون وتشاغله الفتيات المراهقات.
ركن رأسه على شباك الحافلة وهو يتذكر أول هدية جاءته من الممثلة الشابة الحسناء، ثم يسرح ليتذكرها وهى تلمح له بالزواج ،فيصدها برقة لرغبته فى الاحتفاظ بأم ابنته الوحيدة ثم يهمس لنفسه ، وهكذا رحلت أم أميرة وصرت وحيدا ، وسافرت أميرة إلى الولايات المتحدة مع زوجها ، ولم تعد الممثلة الشابة الحسناء بحسناء ،ولم تعد أيضا ممثلة فقد نسيها الناس .
آه يافن !! … ثم عاد يبتسم وهو يتذكر حصوله على أحسن إخراج عن فيلم ( الكابوس اللذيذ )
يفتح هاتفه على الدليل ويبحث بتباطؤ فى كل اسم ،ويهز رأسه مبتسما ،ثم يغير ملامحه للغضب ثم يقول مع آخر : الله يرحمه ،و يقول مع غيره : كنت متسلقا وكذابا سامحك الله يغلق الهاتف ويستند على المقعد ويقول : عشرة أعوام لم أخرج فيها أى عمل .. إننى أموت ببطء … نسينى القدامى ولم يعرفنى المحدثون لم أعد أعرف شيئا ، بل لا أعرف كيف يسير الفن الآن ، تحت أى مدرسة تندرج زمرة الأفلام حاليا.
قاطع تفكيره الجالس أمامه بحديثه : أشعر أنى أعرف سيادتك هل أنت …. ؟
قاطعه المخرج مبتسما : نعم أنا.
قال الرجل مبتسما : يا لحظى السعيد ! لا أصدق ومعى فى الترام ؟! وفى أى محطة ستنزل ؟
قال بتباطؤ : لا أدرى أين سأنزل … ربما محطة الرمل.
بادره الرجل مرة ثانية بسؤاله : أتذهب لمكان محدد ؟
قال وقد بدت عليه نبرة الحيرة : لست أدرى .. ربما ( كافيه ) قديم كنت أجلس فيه كلما زرت الإسكندرية … ربما أمشى فى شوارعها … لم أحدد بالضبط.
قال الرجل : أشعر بالأسف لأننى لن أكمل معك الطريق ، فسأنزل فى الإبراهيمية , وسأحرم من حديث سيادتك الشيق , ولكن أين أنت الآن ؟ لماذا لا تخرج ؟
أخرج زفرة حزن ممتزجة بالأسى وقبل أن يجيب تردد قلقلا ثم قال : للأسف لا توجد نصوص جيدة ، كل ما يعرض على لا يرقى للمستوى.
قال الرجل : كنت مخرجا متميزا … كم حفرت أفلامك فى نفسى ذكريات لا تنسى !
قال بحزن : لكن الناس الآن صاروا ضعيفى الذاكرة.
أقترب الرجل منه وقال : أشعر بمرارة فى حديثك .
رد المخرج مهونا : لا تشغل بالك .. الإبراهيمية … ألا تريد ؟
قال الرجل متعجبا : بلى … لكن أتحفظ المحطات ؟!
رد المخرج مبتسما : إننى أحفظها كما أحفظ حركة الكاميرا وضبط الزوايا .
كم حفرت الإسكندرية فى نفسى الكثير كما حفرت أفلامى فى نفسك !!
هم الرجل بالوقوف قائلا : أستودعك الله.
ابتسم المخرج ابتسامة لطيفة وحيّاه .. نزل الراكب ..ظل المخرج متأملا الناس , ثم أسند رأسه على المقعد وأغمض عينيه .. مرت دقائق … نزل كل من فى الترام إلا هو.
جاء ه المحصل : يا سيد … يا حضرة … نحن فى آخر الخط …نحن فى محطة الرمل .
لم يسمع المحصل إجابة … انقطع الصوت حين انقطع الأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *