بقلم دكتور/ احمد يوسف الحلوانى
باحث في الشريعة الاسلامية
قال أبو أيوب: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ).
رواه مسلم في صحيحة
ومعلوم ان هناك مايعرف بمنطوق الحديث ومنطوق الحديث هنا واضح أن الصيام لايكون الا في شهر شوال ولايصح في غيره كرجب او شعبان مثلا ويعتبر ذلك مخالفا لمنطقوق الحديث .
فكيف يجوز الصوم في ذي القعدة، ويفهم من قوله -صلى الله عليه وسلم- (سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ)، أن صيام السِّت لا يكون في غيره.
الناظر الى نصوص شرعية متشابهة في اللفظ للحديث السابق، مثل ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة» رواه البخاري،
هذا الحديث الشريف في نفس منطوق صيغة حديث صيام الست من شوال، في الشرط ، والزمان: هو رمضان، فهل مفهوم الحديث أن أبواب الجنة تغلق في غير رمضان؟
أم أن أبوب الجنة تبقى مفتوحة في غير رمضان، بالطبع أبواب الجنة مفتوحة أيضا في غير رمضان، وهذا ما رجحه الامام مالك رضى الله عنه في نص الست من شوال، وهو أن صيام الست يكون في شوال وفي غير شوال ، كما أن أبواب الجنة تكون مفتوحة في غير رمضان، فكما أن ابواب الجنة تكون مفتوحة في رمضان وغير رمضان فكذلك الصوم يكون في شوال وغير شوال ..
قال تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)}
، فهل التسبيح والاستغفار مشروط بمجيء النصر، فإذا تأخر فلا استغفار ولا تسبيح، أم أن الأمر بالتسبيح جاء مقرونا بواقع الانتصار، فوافق نعمة كبرى هيَّجت القلوب للتسبيح والاستغفار، وأشعرت بكمال الدين.
قال تعالى:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}
، لقد جاء شرط خوف ألا تقسطوا وَفقا لواقع، وهو أن العرب كانوا إذا كفل أحدهم يتيمة غنية من قرابته، طمع في زواجها لمالها، فأراد الشرع أن يصرف النظر عنها إلى غيرها من النساء، خشية الوقو ع في ظلم اليتيمة، ولم يجعل الفقهاء الخوف من ظلم اليتيمة شرطا في إباحة التعدد، لأن ذلك جاء على وفق الواقع، وكذلك الشرط في صيام السِّت من شوال جاء على وفق واقع فقط، وهو أنه في شوال بعد كمال رمضان، وأن مفهومه: لا تصوموا في غير شوال غير مراد للشارع.
قال تعالى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً } .
يفهم من قوله تعالى (أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أن الخوف من فتنة الكافرين، هو شرط لإباحة قصر الصلاة، وقد نفى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون ذلك شرطا في قصر الصلاة، وهو أن الشرط جاء على وفق الواقع وهو أن حرب الصحابة -رضي الله عنهم- مع الكافرين لا تخلو من فتنة الذين كفروا، ولكن هذه الفتنة ليست شرطا في مشروعية قصر الصلاة، فالمسلمون يقصرون الصلاة ولو كانوا آمنين، وعليه يكون المفهوم وفاقا للواقع، ليس مقصودا للشارع كما أن مجيء النصر شرطا للتسبيح والاستغفار، وإباحة والخوف من ظلم اليتامى شرطا في إباحة التعدد، وفتح أبواب الجنة إذا جاء رمضان، لأنها جميعا جاءت وفاقا للواقع، وكذلك يقال في الحديث (ثم أتبعه ستا من شوال) فيمكن الصوم في غير شوال.
فكلمة “مِن” في الحديث هي لابتداء الغاية في شوال وليست للتبعيض، يعني أن يبتديء الصوم من شوال، وليس أن يكون الصوم ببعض من شوال فقط، فيتضح بذلك أن مذهب الامام مالك رحمه الله تتسع له اللغة وفصاحتها .
مفهوم الامام مالك في المخالفة))
إذا قلنا أن مفهوم المخالفة في الحديث يعني أنه لا تصام السِّت في غير شوال، وإن كان مفهوم المخالفة من أدلة الإمام مالك -رحمه الله، إلا أنه ليس من الأدلة القوية، فيستمسِك به الإمام ما لم يعرِض له مانع في ذلك .
وللإمام رحمه الله ، ثمانية موانع تمنع العمل بمفهوم المخالفة أو ما يسمى دليل الخطاب، فمن هذه الموانع:
إذا جاء الشرط أو الوصف أو القيد على وفاق الواقع، فهذا يعني عدم الأخذ بالمفهوم ، وعليه؛ فنص الحديث (من شوال) لا ينفي إمكان صيام الست في غير شوال، لأن شوال جاء ذكره وفقا للواقع ، وهذا أصل عند الإمام يدل عليه استقراء كثير من نصوص الكتاب والسنة، وما مرَّ من الأمثلة، ما هو إلا غيض من فيض من تلك الأدلة .
المستمسكون بأن فضل صيام الست خاص بشوال وهم الجمهور لهم دليل وهو ظاهر نص الحديث، وإذا نظرنا فقه المالكية وجدنا لهم أدلة شرعية كافية، وهذا يعني أن الأمة إذا أخذت بكلا الاجتهادين، فإنها آخذة بجميع الأدلة الشرعية، ولم تفرِّط في شيء من كتاب ربها ولا سنة نبيها، ويظهر في الاجتهادين فضل المسارعين إلى الصيام في شوال، ويظهر يُسر الله ورحمته في بقاء فضل صيام الست في غير شوال، وهنا تظهر نعمة الله تعالى على هذه الأمة في تعدد الاجتهاد، وظهَر قصد الشارع وحكمته في تعدد الاجتهاد، وإن الغلاة الذين يسعَون إلى حمل الأمة على اجتهاد واحد واختزال الشريعة في اجتهاد واحد وأن مادونها رد او شاذ ، هو رد لروح الشريعة وسماحتها.