رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه العدل بين الزوجات
رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه العدل بين الزوجات
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الله عز وجل أوجب العدل في كلِّ شيء، ونهى عن الظلم في كلِّ شيء، ويتأكد ذلك في حق العلاقات التي تقوم عليها المجتمعات الإسلاميَّة؛ كالعدل بين الأولاد، والعدل بين الزوجات، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3].
وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 129].
فالآيتان تدلَّان دلالة صريحة على وجوب العدل بين الزوجات، وجاءت السنَّة بذلك.
فقد جاء الوعيد الشديد في حقِّ مَن مال مع إحدى زوجتيه، أو فضَّلها على الأخرى، روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقُّه مائلٌ))[3].
ففي هذا الحديث دليل على أنَّه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات، ويحرم عليه الميل إلى إحداهنَّ، فمَن مال إلى إحدى زوجاته، جاء يوم القيامة وشقه مائل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لحديث.
والجزاء من جِنس العمل؛ فلما لم يعدل، أو حاد عن الحقِّ، والجور هو الميل، كان عذابه بأن يجيء يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وأحدُ شقيه مائل[4].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها[5].
قال الخطابي في معالم السنن: “وفي هذا الحديث أن القَسْم قد يكون بالنَّهار، كما يكون بالليل”[6]، إلا أن عماد القَسْم هو الليل؛ لأنه مأوى الإنسان إلى منزله، وفيه يَسكن إلى أهله، وينام على فراشه، والنهار للمعاش والاشتغال، والنهار يتبع الليل، فيدخل في القسم تبعًا.
قالت عائشة رضي الله عنها: “قُبِض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي”[7]، وإنما قُبض نهارًا، وهو تبَع لليلة الماضية.
قال ابن حزم رحمه الله: “والعدل بين الزَّوجات فَرض، وأكثر ذلك في قسمة الليالي”[8].
وعلى ذلك كان حال السَّلف في العدل بين الزوجات:
فعن جابر بن زيد قال: كانت لي امرأتان، وكنت أعدِل بينهما حتى في القبل[9].
وعن مجاهد قال: كانوا يستحبُّون أن يَعدلوا بين النساء، حتى في الطِّيب؛ يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه[10].
وكان محمد بن سيرين يقول فيمن له امرأتان: يُكره أن يتوضَّأ في بيت إحداهما دون الأخرى[11].
وقد نقَل أهلُ العلم الإجماعَ على وجوب العدل بين الزوجات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين…، فعليه أن يَعدل في القسم، فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا، بات عند الأخرى بقدر ذلك، لا يفضل إحداهما في القسم”[12].
وقال الشافعي رحمه الله: “ودلَّت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عليه عوام علماء المسلمين، أنَّ على الرجل أن يقسم لنسائه بعدد الأيام والليالي، وأن عليه أن يعدل في ذلك لا أنه مرخَّص له أن يُجوِّز فيه”، وقال: “ولم أعلم مخالفًا في أن على المرء أن يقسم لنسائه، فيعدل بينهن”[13].
العدل بين الزَّوجات من أوجب الواجبات؛ لأن المرأة في الغالب لا حيلة لها، ولا اختيار تام بسبب ارتباط مَصيرها بزوجها، أو لأجل ولدها إن كان لها منه ولد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فاتَّقوا الله في النِّساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله))[14].
وفي رواية: ((ألا واستوصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنما هنَّ عوانٍ عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك))[15].
ومعنى: ((عَوانٍ))؛ أي: أسيرات في أيديكم.
بمَ يكون العدل؟
يكون العدل بين الزَّوجات في المسكن، والمأكل، والملبس، والمبيت، بل في كل شيء ظاهر، يمكنه العدل فيه.
فيجب على الزوج العدل بينهنَّ فيما هو من مُكنة الإنسان وطاقته، وما لا يقدر عليه – ممَّا هو في غير استطاعته؛ كالوطء ودواعيه مما يكون أثَر المحبة – فهذا خارج عن طوقه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ومن القَسْمِ[16] الواجب أنه إذا تزوَّج البكر على الثيِّب أقام عندها سبعًا يؤنسها، ويزيل وحشتَها وخجلها؛ لكونها حديثة عهد بالزَّواج، ثم قسم لنسائه بالسوية، وإذا تزوَّج الثيِّب أقام عندها ثلاثًا؛ لكونها أقل حاجة إلى هذا من الأولى.
فعن أنس رضي الله عنه قال: “السنَّة إذا تزوَّج البِكرَ أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيِّب أقام عندها ثلاثًا”[17]، وقول أنس الذي جاء في هذا الحديث: “السنَّة” له حكم الرفع؛ لأن الرواة إذا قالوا: من السنة، فلا يقصدون إلا سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “القول الصحيح في العدل بين الزوجات أنه يجب على الزوج أن يعدِل بينهنَّ في كل ما يمكنه العدل فيه؛ سواءٌ من الهدايا، أو النفقات، بل وحتى الجِماع إن قدر، يجب عليه أن يعدل فيه”[18].
وقال الشيخ الفوزان: “يجب على الزَّوج أن يعدل بين زوجاته في الإنفاق والمسكن والكسوة والقسم في المبيت، كل هذا ممَّا يجب عليه العدل بين الزوجات، ولا فرق بين غنيَّة وفقيرة؛ لأنَّ الكل زوجات له، واجب عليه أن يعدل بينهما”[19].
وقد سئل الشيخ السعدي: هل تجب التسوية بين الزوجات في النَّفقة والكسوة؟ فأجاب: “الصحيح الرِّواية الأخرى التي اختارها شيخ الإسلام أنه يجب التسوية في ذلك؛ لأن عدم التسوية ظُلم وجور، ليس لأجل عدَم القيام بالواجب؛ بل لأن كل عَدل يَقدر عليه بين زوجاته، فإنه واجب عليه، بخِلاف ما لا قُدرة له عليه؛ كالوطء وتوابعه”[20].
العدل في الميل القلبي “محبة القلب”:
أخبر الله سبحانه وتعالى أن العدل التامَّ لا يُستطاع، ومع ذلك نهى عن الميل، فقال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129].
فنبَّه الله تعالى في هذه الآية على انتفاء استطاعة العدل بين النِّساء والتسوية حتى لا يقع مَيل ألبتة، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهنَّ، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي، والتعهد، والنظر، والتأنيس، والمفاكهة؛ فإنَّ التسوية في ذلك محال، خارج عن حدِّ الاستطاعة، وعلَّق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الإنسان على ذلك[21].
ففي قوله: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 129]؛ أي: تمام العدل، وجاء بـ “لن” للمبالغة في النَّفي؛ لأن أمر النساء يغالب النَّفس؛ لأن الله جعل حسن المرأة وخلقها مؤثرًا أشد التأثير، فربَّ امرأة لبيبة خفيفة الروح، وأخرى ثقيلة حمقاء، فتفاوتهنَّ في ذلك، وخلو بعضهن منه يؤثِّر لا محالة تفاوتًا في محبة الزوج بعض أزواجه، ولو كان حريصًا على إظهار العدل بينهن؛ فلذلك قال: ﴿ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ [النساء: 129]، وأقام الله ميزانَ العدل بقوله: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129]؛ أي: لا يفرط أحدكم بإظهار الميل إلى إحداهن أشد الميل حتى يسوء الأخرى؛ بحيث تصير الأخرى كالمعلقة[22].
فدلَّ قوله: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ﴾ [النساء: 129]، إلى قوله: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129] على أنَّ المحبَّة أمر قهري، وأن للتعلُّق بالمرأة أسبابًا توجبه قد لا تتوفر في بعض النِّساء، فلا يكلف الزوج بما ليس في وسعه من الحب والاستحسان، ولكنَّ من الحبِّ حظًّا هو اختياري، وهو أن يروِّض الزوج نفسَه على الإحسان لامرأته، وتحمل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتى يحصِّل من الإلف بها والحنو عليها اختيارًا بطول التكرر والتعود، ما يقوم مقام الميل الطبيعي، فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129]؛ أي: إلى إحداهن، أو عن إحداهن[23].
قال ابن القيم رحمه الله: “وكان يقسم صلى الله عليه وسلم بينهنَّ في المبيت والإيواء والنفقة…، ولا تجب التسوية في غير ذلك – أي: الحب والجماع – لأنه مما لا يملك”[24].
وقال الحافظ: “فإذا وفَّى لكلِّ واحدة منهنَّ كسوتها ونفقتها والإيواء إليها، لم يضره ما زاد على ذلك؛ من مَيل قلب، أو تبرع بتحفة”[25].
وقال الرازي في قوله: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾ [النساء: 129]: والمعنى: أنكم لستم منهيِّين عن حصول التفاوت في الميل القلبي؛ لأن ذلك خارج عن وسعكم، ولكنكم مَنهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل[26].
وعلى هذا، فالميل القلبي معفوٌّ عنه؛ لأن القلب ليس في تصرف الإنسان، وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم، ويقول: ((اللهم هذا قَسْمي فيما أَملِك، فلا تلمني فيما تَملِك ولا أملِك))[27].
والضابط في العدل بين الزوجات: هو اعتبار ما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، مما يراد به العموم والتشريع، وما لم يرد فيه نصٌّ فإنَّ المعتبر في العدل بينهن ضرورةُ العقل السليم الذي لا يعارض النَّقل، وما يكون عشرة بالمعروف، وما يعده الناس عدلًا.
وهي الأمور التي تكون ضمن استطاعته وقدرته، أمَّا الخارج عن استطاعته، فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.
ألَا فاتقوا الله أيها الأزواج في نسائكم، واعلموا أنَّ الميل إلى واحدة دون الأخرى من أعظم الظُّلم والجور والحيف، مما يسبِّب انكسار قلب الأخرى، وبغضها لضرَّتها، فتقع المفاسد، والمشاكل الأسريَّة بين الزوجات؛ بسبب ذلك الميل الظالم، ولا ريب أنَّ ذلك من أعظم الظلم، وهو أن يظلم الرجل زوجتَه التي ائتمنه أهلها عليها، وأشد خطرًا من ذلك إن كانت يتيمة، فهذا هو البلاء العظيم، والخطر الجسيم، الذي يبوء به صاحبه في الدنيا، وفي الآخرة،
________________________________________
[1] هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمها أصحابه، وكان السلف يفتتحون بها خطبهم في دروسهم وكتبهم وأنكحتهم، وللألباني فيها رسالة لطيفة، جمع فيها طرق حديثها، وألفاظها، وذكر فيها فوائد تتناسب مع موضوعها، وقد طبعت على نفقة جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، ثم طبعها المكتب الإسلامي طبعة ثانية جميلة مزيدة ومنقحة؛ أخرجها أبو داود (4607)، والنسائي (1578)، والحاكم (183)، وأحمد (3720) و(4115).
[2] أخرجه مسلم (867).
[3] أخرجه أبو داود (2133)، وابن ماجه (1969)، وأحمد (27847)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6515).
[4] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (20/ 199).
[5] أخرجه البخاري (2593).
[6] معالم السنن (3/ 219).
[7] أخرجه البخاري (449).
[8] المحلى (69/ 175).
[9] مصنف ابن أبي شيبة (4/ 37 – 17544).
[10] مصنف ابن أبي شيبة (4/ 37 – 17545).
[11] المصنف لابن أبي شيبة (4/ 37).
[12] مجموع الفتاوى (32/ 269).
[13] الأم (5/ 280).
[14] أخرجه مسلم (1218).
[15] أخرجه الترمذي (1163)، وقال الألباني: “حسن لغيره”، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 195 – 1930).
[16] القسم: بفتح القاف مع سكون السين، بمعنى العدل بين الزوجات في المبيت، وهو المراد هنا، ومع فتح السين: اليمين، وبكسر القاف مع سكون السين بمعنى: الحظ، والنصيب، ومع فتح السين: جمع قسمة، وقد تطلق على النصيب أيضًا.
[17] أخرجه البخاري (5213).
[18] فتاوى نور على الدرب (10/ 252).
[19] المنتقى من فتاوى الفوزان (89/ 24).
[20] الفتاوى السعدية (ص504).
[21] البحر المحيط في التفسير (4/ 88).
[22] التحرير والتنوير (5/ 218).
[23] التحرير والتنوير (5/ 218).
[24] زاد المعاد (1/ 151).
[25] الفتح (9/ 391).
[26] تفسير الرازي – مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (11/ 237).
[27] أخرجه أبو داود (2134).