رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن مفهوم الليبرالية

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن مفهوم الليبرالية
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الخريجين
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الفخري للمركز الدولي الفرنسي للعلماء والمخترعين
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
الليبرالية وأزمة التحديد الاصطلاحي
الليبرالية فلسفة متطورة، لا تقف مدلولاتها عند تحديد اصطلاحيّ معين؛ فهي إطار فلسفي اقتصادي وسياسي، تؤكد مدلولاتها على الحرية والمساواة وإتاحة الفرص المتكافئة [1].
وهي كذلك إطار للمنظومة الفكرية؛ التي تعدّ الحرية المبدأ والمنتهى بالنسبة للإنسان، وهي أي الحرية الباعث والهدف والأصل، والنتيجة في حياة كل الناس.
وأياً كان الأمر فالفكرة الليبرالية؛ تقوم على المذهب الفردي، الذي يرى أن الحرية الفردية هدفٌ وغاية ينبغي تحقيقها بكل الوسائل.
ويرى أحد المفكرين أنه إذا كان للليبرالية من جوهر فهو التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل نوع من أنواع السيطرة والاستبداد، فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه؛ تسلط الدولة “الاستبداد السياسي”، و “التسلط المجتمعي”…. أي أن الليبرالية بإيجاز تصبو في جوهرها إلى التحرر من حكومات الاستبداد، ومن تسلط المجتمع بتقاليده الجامدة الطاغية..
والليبرالية من وجهة نظر المؤمنين بها سعى دؤوب؛ للتواصل مع تلك التيارات؛ التي تجعل إرادة الفرد غاية في ذاتها؛ معارضة في كثير من الأحيان (التقاليد والأعراف والسلطة)؛ التي تجعل إرادة الفرد مجرد امتداد لإرادة الجماعة [2].
وفي ظل التطورات المعاصرة؛ تأرجحت مفاهيم الليبرالية، بين المفهوم الكلاسيكي، والمفهوم السياسيّ التطبيقي الأمريكي المعاصر، فبالنسبة للمفهوم الكلاسيكي ظهر اهتمامها المفرط بتحقيق الحرية في مواجهة قهر العصور الوسطى (ق6 15م)؛ المتمثل في ضغط الكنيسة على العقل الأوربي والحرية الفكرية، ولذلك رفع الفكر الليبرالي الكلاسيكي مبدأ الحرية بطريقة مبالغ فيها؛ بحيث بدت حرية الإنسان هي الغاية الأولى الرئيسية، وهي فوق كل الغايات الدينية والاجتماعية، فإذا سألت أقطاب هذا الفكر ومؤيديه عن معنى الحياة المثلى للإنسان؛ كانت إجابتهم تتلخص في أن الحياة المثلى تقوم على حرية كل إنسان المطلقة في اختيار الأسلوب الذي يرتضيه لحياته؛ لا أقل ولا أكثر… أي بلا تدخل من الدين، أو القوانين الاجتماعية الضابطة لحرية الفرد. بل على العكس؛ يمكن التضحية بكل شيء في سبيل الفرد، حسب المقولة (الليبرالية) المشهورة: “ما هو نافع بالنسبة لي هو الخير، وما هو ضار بالنسبة لي هو الشرّ”!!
أما في ظل ارتباط الليبرالية بالتطبيقات السياسية الأمريكية المعاصرة، فقد اتخذ الفكر الليبراليّ بعداً آخر متناقضاً مع المفاهيم الليبرالية السابقة.
فالليبرالية الأمريكية المعاصرة؛ تعني الإيمان بالحرية أو الديمقراطية، التي تنتهي إلى تحقيق مصالح أمريكا وفرض العولمة على أساس المركزية الأمريكية، الساعية من خلال مصطلحات مثل: الليبرالية، أو الديمقراطية، أو العولمة إلى السيطرة على العالم ومقدراته؛ لصالح فئة من الناس، تسيطر حتى على المجتمعات الأمريكية ذاتها؛ حتى ولو أدى ذلك إلى كثير من التجاوزات المنافية لحقوق الإنسان، والمصحوبة بشيء من استباحة الكرامة الإنسانية، وسجن الناس، وتعذيبهم، والتضييق على حرياتهم؛ من خلال التجسس المعلن وغير المعلن، بدعوى أن هذه التجاوزات ضرورية لحماية الدولة المركزية الليبرالية من الأعداء المتوهمين أو المتخلفين أو المتوقعين.
وهكذا يتضح أن الليبرالية تتأبى على التعريف الدقيق الواضح؛ بل تخضع لتطور الظروف وتناقض المصالح؛ فهي ليست مبدأً ثابتاً موضوعياً؛ بل هي مبدأ مرتبط بخدمة أصحابه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويرى المفكر العلماني المغربي (عبد الله العروي)؛ أنه من الخطأ إعطاء تعريف واحد للفلسفة الليبرالية، صاحبة المفاهيم المتعددة؛ بل يرى هذا المفكر أن التعريف يتطور من مرحلة التكوين إلى مرحلة الاكتمال؛ التي يعني فيها المفهوم الليبرالي، أن الإنسان الليبرالي: هو الإنسان العاقل، المالك لبدنه وذهنه وعمله، وحياته كلها، كما يختلف المفهوم في مرحلة الاستقلال؛ حيث تكون هناك المبادرة الخلاقة، في المحافظة على الحقوق الموروثة عن المفهوم الذي كان سائداً في مرحلة التقوقع؛ الذي يقوم على ترك مسايرة الآراء الغالبة، وصولاً إلى نبذ التقليد وتوليد الإبداع.
وينتهي بنا المطاف إلى القول بأن الليبرالية تعني الحرية والاستقلال في تنظيم الحياة الشخصية؛ ونظراً لكون الحرية مفهوماً عاماً قد يؤدي إلى التعارض بين الحريات المتناقضة؛ فإن بعض فلاسفتها الأخلاقيين يرون أن تكون الليبرالية نظرية أخلاقية وسياسية تسعى إلى (حرية الفرد)، وتحدُّ في الوقت نفسه من الحريات ذات الطبيعة الانفلاتية؛ التي لا تؤمن بأعراف ولا قوانين؛ بل تجعل نفسها الحكم على حقوق الفرد وفقاً لقوتها [3].
ومهما يكن من محاولات بعض المفكرين الليبراليين؛ فإن من البدهي أن مفهوم الحرية بالمعنى الليبرالي في كل مستوياته ومراحله يتناقض فكرياً وتنظيرياً على الأقل مع المفاهيم الاستبدادية الثورية والعسكرية، والحكومات الأوتوقراطية؛ ذات الطبيعة الفردية المطلقة المستبدة، والحكومات الثيوقراطية؛ ذات الطبيعة اللاهوتية، المصادرة لحرية العقل وإبداع الإنسان.
هذا من الناحية الفكرية والتنظيرية البحتة… أما من الجوانب العملية فإن التطور الأمريكي العملي المعاصر الذي ألمعنا إليه يكاد يقترب في تطبيقاته من الأساليب الشمولية والقمعية والاستبدادية.
لقد عانت البشرية كثيراً من الحكومات الاستبدادية والفرعونية والثورية، وقد كان رصيد هذه الحكومات السيئ؛ هو أكبر ما اعتمد عليه المروجون للفلسفة الليبرالية، ففي كثير من الأحايين تنتشر مصطلحات ومذاهب وأفكار، وتحتل في العقول مواقع متميزة؛ ليس لأنها في بنيتها الفكرية وتجاربها العملية ذات صلاحية كبيرة؛ ولكنها تستمد قوتها وشيوعها من أفكار الخصوم العفنة، وتجاربهم الأليمة…
وهكذا بزغ فجر الليبرالية؛ الذي نجرؤ ونسميه فجراً كاذباً، وقد قدمت الليبرالية نفسها للناس؛ على أنها المنهج الذي يسعى لتحقيق عالم الحريات؛ فسواء كانت ليبرالية فكرية وسياسية، فهي تنادي بالحريات المطلقة، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مجتمعة؛ أم كانت مذهباً فكرياً وسياسياً، يشق طريقه بعيداً عن توجيه الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية؛ تاركاً ذلك للتطورين الاقتصادي والاجتماعي… سواء هذا أو ذاك؛ فالحرية هي الجوهر، وما يراه الناس وفاقاً لقوانين التطور والمصالح العليا هو الحاكم وحده؛ بعيداً عن قيود الدين أو القانون؛ فالشعب هو صانع القوانين، وهو الذي يمكنه أن يرضى بالإيمان أو أن يفرض حرية الإلحاد…
ومن هذا المنطلق يرى بعض الليبراليين؛ أن الليبرالية تتحرك في أفق واسع، وهي بالتالي ليست حصيلة ثوابت دينية أو أخلاقية أو اجتماعية؛ بل هي حصيلة صراع الإنسان إزاء أضداده، بعد كسبه لتجارب لا تحصى؛ كي يصل إلى هذا المستوى من التفكير، بعيداً عن أية قيود تعيق تقدمه وانطلاقه… وعليه؛ فالليبرالية في رأي أصحابها حصيلة كل ما تعلمه الإنسان عبر القرون، وانتهى به إلى سن قوانين وضعية (بعيداً عن الوحي)، تراعي الظروف التي انتهى إليها الإنسان؛ خصوصاً منذ تراكم حصيلة الظواهر البشرية الكبرى، سواء في الاستكشافات الجغرافية في القرن (الـ15 الميلادي)، أو الإصلاح الديني (لمارتن لوثر، وكالفن)، أو في الثورة الفكرية، والبحث عن روح القوانين والحريات في القرن (الـ18)؛ التي تكللت بالثورة الفرنسية، أو في حركات الاستنارة الفلسفية، ويوتوبيا التفكير، والثورة الصناعية في القرن (الـ19)؛ التي أوصلت الاستعمار إلى أوج قوته، أو في الثورة الشيوعية والصراع ضد الإمبريالية وعصر التكنولوجيا في القرن العشرين، وانتهاءً بثورة المعلومات والكمبيوتر والعولمة في القرن (الـ21) [4]، فبدون حرية الحركة والفكر الليبراليين؛ ما كان الإنسان ليصل إلى كل ما وصل إليه، عبر هذه الظواهر الكبرى بسلبياتها وإيجابياتها بل ربما استطاعت القيود والأصفاد أن تحتكر عقله وذهنه ومشاعره، وعلاقاته وتفكيره كما يرى المتحمسون للفكر الليبرالي وكان بدهياً مع هذا التطور المعرفي المتراكم للليبرالية أن تنمو الليبرالية بواسطة مفكرين متتابعين، أسهموا في إعطائها شكلها الأساسي؛ ففي الجانب السياسي يُعد (جون لوك) (1632 1704م) أهم الفلاسفة إسهاماً، وفي الجانب الاقتصادي كان (آدم سميث) (17231790م)، وكذلك كان لكل من “جان جاك روسو” (1712 1778م)، و”جون سيتوارت مل” (1800 1873م)؛ إسهامات واضحة في سبيلها؛ بل إن أغلب المفكرين والفلاسفة المحدثين في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل: كارل ماركس، وإنكلز، وماكس فيبر وهيوم… كانوا قد أنشأوا أفكارهم في ظل عالم ليبرالي ومن خلال أدوات ليبرالية (أي: تحررية) [5]…
ولكننا مع إيماننا بأن الليبرالية تنتمي إلى ظروف حضارية ووثنية خاصة، ولا يجوز نقلها نقلاً أعمى كنا نتمنى أن لو سار تطور الليبرالية مصحوباً بشيء من الضوابط الدينية، والثوابت الأخلاقية، والعقلانية؛ المصحوبة بالوعي بالسنن الكونية والاجتماعية الحاكمة لحركة الإنسان… وفي هذه الحال كنا ننتظر أن تتخلص الليبرالية من الشوائب القاتلة؛ التي لحقت بها، وبغَّضتـها إلى كثير من الشعوب، حتى آثر بعضهم الشيوعية عليها، مع ما تحفل به من قهر وإلحاد ومصادرة للفكر والحرية.
وعلى هذا الأساس رسَّخ مفكروهم المجدِّدون مبادئهم التي تنادي بتحقيق أكبر قدر من المنفعة مقابل أقل قدر من الألم… وهي ذات المبادئ التي استندت عليها نهضة الغرب المعاصرة المادية والمفرغة من معظم القيم الإنسانية التي اكتسبها البشر مع تعاقب الحضارات الإنسانية في التاريخ.
وفي مرحلة تالية بعد فشل هذه الحرية المطلقة، ووقوع عدد من الكوارث الاجتماعية والاقتصادية؛ ظهر ما يسمى بالفردية المعتدلة أو الحرية التي لا تتصادم بحريات الآخرين ومنافعهم!!
وفي ضوء هذا يمكن القول: إن الليبرالية في الغرب مرَّت بمراحل متعددة لتتجسد بعد ذلك بشكل ملموس في إعلان (الثورة الأمريكية) عام (1776م)، وإعلان (الثورة الداعية إلى الاعتراف بحق الاستقلال والمساواة بواسطة الأمم المتحدة) عام (1949م) وما تلى ذلك من معاهدات [6].
لكن الأمور لم تلبث أن تطورت تطوراً بالغ الأنانية والتعقيد والعنصرية في ضوء النمط الليبرالي الأمريكي الموجه للسياسة الأمريكية الحالية؛ بواسطة هيمنة الإدارة اليمينية المسيرة لشؤون البيت الأبيض.
وكما تقول الكاتبة (سميرة رجب) فإن هذا الوجه النفعيّ الفردي هو أحد وجهي النظرية الليبرالية، وإن كانت لها وجوه أخرى ثانوية.. أما الوجه الثاني الأساسيّ، الواضح المعالم والآثار؛ فهو الوجه الاستعماري الليبرالي القبيح؛ الذي ابتلى به العالم، لاسيما العالم الثالث؛ الذي بقى رازحاً في مرتبة التخلف دون أن يسمح له الاستعمار بالتقدم، مهما يكن الثمن، وقد وضع الليبراليون لتلك الغاية الاستعمارية كل الآليات والأدوات والأفكار والاستراتيجيات التي لا علاقة لها بكل دعوات الحرية والفكر الحر!!
لقد استبدل مفكرو أقطاب الليبرالية والغرب المجددون؛ الاستبداد الكنسيّ (اللاهوتي) بمبادئ المنفعة وحرية التملك؛ التي قامت عليها القواعد الليبرالية الغربية ووضعت بذور الدولة القومية، ذات القيم المادية المطلقة؛ التي مكَّنت الدولة الليبرالية الرأسمالية المتضخمة من أن تبتلع حقوق الأجناس الأخرى… مع العلم بأن هذه الدولة الرأسمالية ما كان لها أن تنمو وتتطور وتتعاظم لو لم يتم تغذيتها بمبدأ الاحتلال. [7].
لقد شرعت عقيدة الغرب الليبرالية قانون الغاب في عصرنا الحديث بسيطرة القويّ على الضعيف، أو التهامه إذا استدعت إلى ذلك مصالح القوي؛ فأصبح الاستعمار الذي جسده الفكر الليبرالي الغربي، ومارسه الليبراليون الغربيون ببشاعة؛ من أكثر الجرائم الاستبدادية في حق الإنسانية على مدار التاريخ البشري [لنتذكر هنا تاريخ الاستعمار الغربي منذ حرب الأفيون والبلهارسيا في الصين، حتى حرب الإبادة في فلسطين، وحرب النفط في أفغانستان والعراق ][8].
وللأسف فقد أصبح الاستعمار المصحوب بالدمار للآخر يجري في شرايين الحضارة الليبرالية الغربية، وعليه تعيش مجتمعاتها… ويصور أحدهم ذلك المبدأ الاستعماري في العقيدة الليبرالية بأنه (إذا كانت الرأسمالية هي روح الحضارة الغربية فالاستعمار بكل صور تدميره للآخرين هو قلبها النابض).
لقد أصبحت الليبرالية خلال مسيرتها مفهوماً يفتقد إلى الحد الأدنى من الثوابت؛ بل إن آلياته وأهدافه تعرضا لتغيير كبير؛ فإذا ما تجاوزنا مصطلح (الحرية المطلقة) وما ينشأ عنه من نظم تكفل تحقيقه، وإزالة العقبات من طريقه؛ فإننا لا نجد بعد ذلك ثوابت أخرى؛ في الوسائل أو الغايات، يمكن أن ترتبط بها الليبرالية عبر مسيرتها في التاريخ.
ويكاد يصور هذه الحقيقة أحد [9] المفتونين بل المسحوقين سحقاً فكرياً بالليبرالية وبالدعوة إليها في العالم العربي، فيرى أن الليبرالية؛ هي الكلمة السحرية التي تنم عن حراك حداثي متطور في مفاصل المجتمعات الدولية؛ عبر فضاءات من جدل الخطاب السياسي، والثقافي والاجتماعي والاقتصادي… إلخ، وضمن خط تطوري متصاعد ومتعال عما هو سوداوي منتكس، وما هو سلبي قديم… إن الليبرالية تعني مقاربة موضوعية نحو التحديث والتطوير في مختلف الظواهر والمجالات…
وهذا الكلام يشبه تماماً الآراء الماركسية السحرية المخدّرة في التاريخ الماضي؛ الذي كانت تلوكه الماركسية مع كل من يختلفون معها… ومع ذلك فهذا الباحث ينتهي إلى أنه بدون تحديث ذهنية الإنسان، وضخ دماء الحداثة في شرايينه المتصلبة؛ لا يمكن لهذا الإنسان أن يكون ليبرالياً بالقطع والجزم…
وهكذا يقف مفهوم الليبرالية سواء في طرحه الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي زئبقياً ينفلت من التحديد والتعريف، ويبدو مفهوماً مختالاً غارقاً في الالتباس.
إن الأحاديث جميلة خلابة عن مفهوم الليبرالية وآفاقها كثيرة؛ لكن مسيرتها الواقعية شيء مختلف تماماً!!
والواقع أن إشكال التعريف ليس خاصاً بمفهوم الليبرالية تحديداً؛ بل هو المشكل الدلالي المزمن؛ الذي تعاني منه معظم المفاهيم السياسية، وذلك راجع إلى أنها ليست مجرد دلالات لفظية؛ حتى يمكن الاكتفاء فيها بالمقاربة المعجمية؛ بل هي أفكار مجسدة في الواقع وموصولة بالتاريخ، وما يعتمل فيه من تدافع وصراع، وما يختزنه من اختلاف وائتلاف.
والتحليل التداولي لهذا النوع من المفاهيم يكشف أنه من السذاجة الحديث عن إمكان إنجاز تحديدات موضوعية.
ومن ثم فالخطاب المثقل بنغم الشعارات؛ الذي أخذ صوته يتعالى في الفكر العربي المعاصر حول الليبرالية، والذي يتحدث عنها وكأنها نمط محدد الدلالة والملامح، وعلى نحو من اليقين والقطع والجزم يخفي أو يجهل إشكالات الدلالة والرؤية في الفلسفة والمذهب الليبرالي.
وفي دراسته حول (الليبراليون الجدد في مصر) يعترف “هاني نسيرة” بأن الليبرالية في النطاق العربي زئبقية الهوية، فهي مفهوم ديناميكي ومتطور خلال الزمان والمكان، ويختلف من مكان لآخر، فهو في الولايات المتحدة مثلاً ومنذ ما يقرب من نصف قرن يشير إلى الاتجاهات اليسارية بالمفهوم الأمريكي؛ التي تدعو إلى مزيد من التدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي على عكس ما هو سائد خارج شمال أمريكا. كما أن التطابق بين التحرير الاقتصادي والتحرير الليبرالي السياسي؛ ليس صحيحاً دائماً، فهناك بعض النظم التي تأخذ بسياسات اقتصادية ليبرالية، في حين لا تلتزم في قضايا الحكم والسياسة بالمبادئ الليبرالية.
ومن هنا نرى أن الحد المفاهيمي لليبراليين الجدد في مصر كنموذج لليبراليين العرب يأتي بوصفهم موجة ليبرالية جديدة متنوعة الاتجاهات والمسارات تضم مستقلين، وقوى حزبية وسياسية وأجنحة بها، تنطلق من مقولات الحرية الفردية، والتحرير السياسي والاقتصادي، وحريات الرأي والتعبير كمقولات مركزية، ويخفت عند غالبيتهم التوجه الأيديولوجي العلماني التنويري؛ كهمْ رئيسي وصدامي مع الثقافة السائدة، شأنهم في المهجر أو بعض دول الخليج. وتأتي المقولات الليبرالية الاقتصادية بالخصوص المميز الرئيسي لهم عن سائر الديمقراطيين من التيارات المختلفة، وبدرجات متفاوتة [10].
إننا نستطيع القول بأن الحديث عن الليبرالية بوصفها نمطاً جاهزاً في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي؛ يتجاهل أنها (ليبراليات عديدة) وليست واحدة، وأن تناولها على ذلك النحو من التعميم سواء رفضاً أو قبولاً هو تناول يسقط في مزلق التعميم؛ فضلاً عن الخلط والالتباس[11].
ومن حيث اللغة المعجمية يرجع لفظ الليبرالية؛ من حيث الاشتقاق اللغوي إلى اللفظ اللاتيني (ليبراليس)؛ الذي يعني (الشخص الكريم النبيل الحر)، ومن بين هذه الدلالات الاشتقاقية؛ التي يحملها اللفظ نجد أن المعنى الأخير (أي: الشخص الحر)؛ هو المعنى الذي سيكون مرتكز البناء الدلالي للمفهوم الليبرالي.
حيث نلاحظ أنه حتى نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن لفظ الليبرالية (Libralism) متداولاً؛ بل كانت الكلمة الشائعة هي (ليبرال) (Liberal)؛ التي قصد بها وقتئذ (الشخص المتحرر فكرياً).
لكن في نهاية القرن التاسع عشر نجد أن لفظ الليبرالية سيظهر كدال على رؤية مذهبية لها أساسها الفكري ونظريتها السياسية والاقتصادية [12].
إن الليبرالية في رأي (الطيب بوعزّة) بعد كل هذه التحفظات؛ هي فلسفة أو فلسفات اقتصادية وسياسية، ترتكز على أولوية الفرد، بوصفه كائناً حراً.
فمقولة (الحرية) هي المقولة المركزية؛ التي يستند عليها كل البناء المذهبي للليبرالية، وانطلاقاً من هذه المقولة يتم تحديد طبيعة رؤيتها لمختلف مجالات الكينونة الإنسانية، فهي من الناحية الفكرية تعني (حرية) الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني (حرية) الملكية الشخصية، و(حرية) الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسي تعني (حرية) التجمع وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة… وهكذا نلاحظ أن مقولة الحرية لا تشكل -فقط- مبدأ من جملة مبادئ؛ بل هي مرتكز لغيرها من المبادئ… هذا مع ملاحظة أن مصطلح الحرية نفسه ليس مصطلحاً محدود الأبعاد، ولا محدَّد الدلالة…
________________________________________
[1] الموسوعة العربية العالمية 21 /247.
[2] الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني – القسم الثاني، ص: 1155.
[3] موسوعة لالاند الفلسفية 2 /726، 227، بتصرف.
[4] د/ سيار الجميل: الليبرالية القديمة والليبرالية الجديدة؛ المعاني والمبادئ والمفاهيم…
[5] د/ سيار الجميل: المكان السابق.
[6] سميرة رجب: الليبرالية الأصولية في المجتمع العربي ـ البحرين.
[7] سميرة رجب: الليبرالية الأصولية في المجتمع العربي.
[8] المرجع السابق.
[9] خالص مسوّد: موقع المحور الثالث.
[10] هاني نسيرة: الليبراليون الجدد في مصر، أشكال الخطاب والممارسة، ص: 10، كراسات استراتيجية، الأهرام، أغسطس 2006 م مصر.
[11] الطيب بوعزة: مقال/ الليبرالية من دلالة المعجم إلى شرط الواقع.
[12] المكان السابق.
 

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *