رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن علاقة المعنى بالإعراب
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن علاقة المعنى بالإعراب
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فريدريك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الشباب
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
يَعْجَب المرء ويحزن حينما يرى واقع لغتنا، مع كثرة الدارسين لها، والكليات والمعاهد المتخصصة فيها، وقد أصبح جليًّا لكل محب للغة القرآن الكريم أن التعامل مع قواعد اللغة، من قِبَل طلاب العلم جُلِّهم – كأنها قواعدُ صماء، لا تحتاج إلى فَهْم وعقل وشعور.
ومن المعلوم: أن اللغة العربية من أهم أدوات فَهْم شريعة الإسلام؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل :103]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192- 195]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وغيرها من الآيات.
وحيث إن القرآن عربي، فلابد لفَهْمه من فهم اللغة العربية؛ قال ابن تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم”: “واعلم أن اعتياد اللغة يُؤَثِّر في العقل والخُلق والدين تأثيرًا قويًّا بيِّنًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتُهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفْهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا عيسى بن يونس، عن ثور، عن عمر بن يزيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: “أما بعد، فتفقَّهوا في السنّة، وتفقهوا في العربية، وأَعْرِبوا القرآن؛ فإنه عربي”، وفي حديث آخر عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: “تعلَّموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم”، وهذا الذي أمر به عمر – رضي الله عنه – من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يُحْتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية: هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة: هو الطريق إلى فقه أعماله”. اهـ.
قال الشاطبي في “الموافقات (4/115)” عند حديثه عن شروط المجتهد: “وبيان تعيُّن هذا العلم ما تَقَدَّم في كتاب المقاصد: من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربيةً، فلا يفهمها حقَّ الفَهْم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيَّانِ في النمط، ما عدا وجوهَ الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية، فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا، فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية، كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجةً، كما كان فهمُ الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن – حجةً، فمَن لم يبلغ شأوهم، فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمُه لم يَعُدْ حجةً، ولا كان قوله فيها مقبولاً”. اهـ.
قال عمر – رضي الله عنه -: “تعلَّموا العربية؛ فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة”، وروي عن الأصمعي في “معجم الأدباء” أنه قال: “أخوفُ ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار))؛ لأنه لم يكن يَلْحن، فمهما رويتَ عنه ولحنتَ، فقد كذبتَ عليه”.
إذا كان الأمر على هذه الدرجة، فنبتدئ – بإذن الله تعالى – هذه السلسلة، التي نوضح فيها أن اللغة العربية ليست قواعد صماء؛ بل تحتاج إلى فهم وعقل وشعور، وسيكون ذلك بأمثلة واضحة، أربط فيها بين القواعد النحوية والمعنى المقصود من الكلام.
وأبدأ بالمثال الشهير: لا تَأكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبَُِ اللبَنَ:
الإعراب:
لا: حرف مبني على السكون، لا محل له من الإعراب.
تأكل: فعل مضارع مجزوم بعد لا الناهية، وعلامة جزمه السكون، وحُرِّك بالكسر لالتقاء الساكنين، والفاعل: ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت.
السمك: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة.
أما الفعل (تشرب)، فيجوز فيه ثلاثة أوجه : –
الأول: النصب: على أن الواو للمعيَّة، ويكون القصد: النهي عن الجمع بينهما، يعني: يجوز لك أن تأكل السمك وحده أو تشرب اللبن وحده، لكن الممنوع هو الجمع بينهما.
الثاني: الجزم: عطفًا على (تأكل)؛ باعتبار أنك حركتَها هنا لالتقاء الساكنين، وأصلها “تشربْ” بالسكون، ويكون القصد: النهي عن كل واحد منهما؛ أي: “لا تأكلِ السمك ولا تشربِ اللبن”، ومعنى هذا: أنك تنهاه عن أكل السمك وتنهاه عن شرب اللبن.
الثالث: الرفعُ: على أن الواو للاستئناف، ويكون القصد: النهي عن الأول وإباحة الثاني، فأنت حينئذٍ نهيتَه عن أكل السمك، وأجزتَ له شرب اللبن؛ أي: لا تأكل السمك ولك شربُ اللبن.
وإتمامًا للفائدة؛ فهاك نُبْذَةً عن الاستئناف:
الاستئناف النحوي: عدم عطف ما بعد الحرف على ما قبله إن وُجِدَ حرف العطف؛ كقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} [الحج: 5]، وإلا فهو قطع إحدى الجملتين من الأخرى؛ كقوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65]؛ فتقف عند قراءة: {ولا يحزنك قولهم}، ثم تستأنف: {إن العزة لله جميعا}، ولو وصلتَ لتغيَّر المعنى.
أما الاستئناف البياني: فهو ما وقع جواباً لسؤال مقدر معنى؛ كقول أبي تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ فِي حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ وَاللَّعِبِ
فالشطر الثاني جوابٌ لسؤال ناشئ عن الجملة الأولى، وتقديره: لماذا كان السيفُ أصدقَ أنباءً من الكتب؟ وهذا من مباحث البلاغيين في علم المعاني .
والجملةُ الاستئنافية غير الابتدائية؛ فالابتدائية: الواقعة في أول الكلام، والاستئنافية: الواقعة في أثناء الكلام، ولكنها منقطعة عما قبلها، وقيل: هما بمعنى واحد.
وهذا لا يعني أن كل واو في مثل هذا السياق يجوز فيها هذه الوجوه، فعندما تقول: “لا يَسَعُنِي شيءٌ ويَعْجَزَ عنكَ”، فتنصبُ، ولا معنى للرفع في: “يعجز”؛ لأنه ليس يُخْبر أن الأشياء كلها لا تَسَعُه، وأن الأشياء كلها لا تَعْجَز عنه؛ إنما يعني: لا يجتمع أن يسعَني شيءٌ ويعجز عنك؛ كما قال الشاعر:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
أي: لا يجتمع أن تنهى وتأتي، ولو جزم – لا تنه ولا تأتِ – كان المعنى فاسداً.
ومنها قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، بنصب “ويعلمَ” الثانية على هذا الباب؛ أي: ولمَّا يجتمع في علم الله تعالى المجاهدون والصابرون، وعِلْم الله تعالى أزليٌّ، متعلق بجميع المعلومات في الأزل، ولكن معناه: ولما يجتمع في علم الله جهادكم وصبركم بارزًا في الخارج.
وأدعوك – أخي الكريم – أن نسبح قليلاً في بحر الواو؛ ففي حديثه – صلى الله عليه وسلم -: ((بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتين))؛ متفق عليه، لا يجوز في “الساعة” إلا النصب، والواو فيه بمعنى مع، ولو رُفِع لفسد المعنى؛ لأنه يكون تقديره: “بعثتُ أنا وبُعِثَتِ الساعةُ”، وهذا فاسد؛ إذ لا يقال:”بُعِثتِ الساعة” إلا حال وقوعها؛ لأنها لم توجد بعد.
وكذلك قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، لو عطفتَ “شركاءكم” في الآية الأولى على “أمركم”، لم يجز؛ لأنَّه لا يقال: أَجْمَعْتُ شركائي، إنما يقال: جَمَعْتُ شركائي، والتقدير – والله أعلم -: “فأَجْمِعوا أمرَكم مع شركائكم”، فلو عطفتَ، كان المعنى: “اعزموا على أمركم، واعزموا على شركائكم”؛ وذلك واضح البطلان.
ولو عطفتَ الإيمانَ على الدار في الآية الأخرى، لفسد المعنى؛ لأنّ الدار إن تُتَبَوَّأ – أي: تُسكن – فالإيمان لا يُتَبوأ، فما بعد الواو في الآيتين منصوب على أنه مفعول معه؛ فالواو واو المعية.
ويجوز أن تكون الواو في الآيتين عاطفة، وما بعدها مفعول به لفعل محذوف، تقديره في الآية الأولى: “ادعوا واجمعوا”، والتقدير: فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم، وفي الثانية “أخلصوا”، والتقدير: والذين تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، فيكون الكلام من عطف جملة على جملة، لا من عطف مفرد على مفرد.
ويجوز أن يكون “شركاءكم” معطوفاً على “أمركم”؛ على تضمين “أجمعوا” معنى “هيِّئوا”، وأن يكون الإيمان معطوفًا على تضمين “تبوؤوا” معنى “لزموا”، والتضمين في العربية باب واسع.
وانظر – رعاك الله – إلى قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، قال سيبويه في كتابه: “إن شئتَ جعلت “وتكتموا” على النهي، وإن شئت جعلته على الواو”، فذكر احتمالين في الآية:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة؛ أي: إن النهي عن كل واحد منهما على حدته، لا عن الجمع بينهما – لا تلبسوا ولا تكتموا – ويكون “تكتموا” مجزومًا بالنهي.
والثاني: أن تكون الواو للمعية، و”تكتموا” منصوبًا كما تقدم، ويكون النهي عن الجمع بينهما، مثل: “لا تأكل السمك وتشربَ اللبن”، واعتُرض عليه: بأنه يلزم منه ألا يكون كل واحد منهما منهيًّا عنه بمفرده، وأجيب: بأن هذا إنما يلزم لو لم يكن النهي عنه إلا في هذه الآية؛ بل ذلك معلوم من أدلة أخرى، ولا شك أن جمعهم للبس والكتمان مع العلم أشدُّ في الشناعة، ولا يلزم من ذلك ألا يكون كل واحد منهما منهيًّا عنه على حدته؛ وذلك في آيات كثيرة.
ومثل هذه الآية أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]، فإنه يحتمل في قوله: “وتدلوا”: أن يكون مجزومًا، وأن يكون منصوبًا، كما ذكرنا في “وتكتموا الحق”.
والأمثلة لا حصر لها، فأكتفي بالبلال على أن تسعى – أخي الحبيب – أن ترتوي.
وهاك ملمحًا آخر أبيّنه في هذا المثال: “ما أحسن زيد”:
فتقول: “ما أحسنَ زيداً”، إن أردتَ التعجب، بفتح نون “أحسن” على أنه فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره “هو” يعود على “ما”، ونصب “زيد” على المفعولية، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ “ما”.
وتقول: “ما أحسنُ زيدٍ؟”، إن أردتَ الاستفهام، بضم نون “أحسن”، على أنه خبر للمبتدأ “ما”، وجرِّ زيد بالإضافة، والمعنى: أيُّ أجزاء زيدٍ حسنٌ؟
وتقول: “ما أحسنَ زيدٌ”، إن أردتَ النفي، بفتح نون “أحسن”، على أنه فعلٌ ماضٍ، ورفع “زيد” على الفاعلية، والمعنى: لم يقع من زيد إحسان.
فتأمل – رعاك الله – هذه المعاني التي لا تتميز إلا بالإعراب.
أما الحديث عن “ما” وأنواعها من استفهامية وشرطية وموصولة ومصدرية…إلخ، فلا يتسع له المقام، وأكثر منها (حتى) وأنواعها، فقد يكون الموضع صالحاً لكونها جارةً أو عاطفةً أو ابتدائية أوغير ذلك من دخولها على الأسماء والأفعال.
وهاك المثالَ الشهير: قولك : “أكلتُ السمكةَ حتى رأسَُِها”، بالجر والرفع والنصب:
فالجرُّ: على أن تجعل “حتى” حرفَ جر، والمعنى: أكلت السمكة حتى وصلت إلى رأسها، والنصب: على أن تجعلها حرف عطف، فتعطف “رأسها” على “السمكة”، والمعنى: أنه من شدة الجوع مثلاً أكل السمكة حتى الرأس – حتى أقلّ شيء فيها – التي لا تؤكل في العادة؛ فحتى العاطفة تُفيد الغاية في القلّة أو الكثرة؛ كما قال ابن مالك في ألفيته:
بَعْضًا بِحَتَّى اعْطِفْ عَلَى كُلٍّ وَلا يَكُونُ إِلاَّ غَايَةَ الَّذِي تَلا
والرفع: على أن تجعلها حرف ابتداء، فيكون مرفوعًا بالابتداء، وخبره محذوف، وتقديره: “حتى رأسُها مأكول”، وإنما حُذِف الخبر لدلالة الحال عليه، والجملة الابتدائية لا محل لها من الإعراب.
قال الشيخ ابن عثيمين في مختصر مغني اللبيب: “فعلى الأول يكون (رأس) مجروراً، وعلى الثاني منصوباً، وعلى الثالث مرفوعاً، والرأس في حالتي النصب والرفع مأكول، وفي حالة الجر غير مأكولٍ”.
وأختم هذه النبذة ببعض المواقف التي توضح مسألتنا:
* أحضر عبد الملك بن مروان رجلاً يرى رأيَ الخوارج، فأمر بقتله، فقال: ألستَ القائل:
فَمِنَّا حُصَيْنٌ والْبَطِينُ وقَعْنَبٌ وَمِنَّا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ شَبِيبُ
فقال: لم أقل ذلك يا أمير المؤمنين، وإنما قلتُ: “ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ”، فقَبِل قولَه وعفا عنه. وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان قوله: “ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ”، برفع “أمير”، كان أميرُ: مبتدأً مؤخرًا، وشبيبٌ: بدلاً أو عطفَ بيان منه؛ وعلى ذلك فيكون شبيبٌ هو أميرَ المؤمنين، وإذا نصب “أمير”، كان معناه: “ومنا يا أميرَ المؤمنين شبيب”، وهكذا درأ عن نفسه القتل بصرف الإعراب عن الرفع إلى النصب.
* وسمع أعرابي مؤذناً يقول: “أشهد أن محمداً رسولَ الله” بالنصب، فقال: ويحك! يفعل ماذا؟! لأنه إذا رفع، كان خبرًا، وإذا نصب، كان وصفًا، فاحتاج الكلام إلى خبر.
* قال رجل لأعرابي: كيف أهْلَك؟ فقال الأعرابي: صَلْبًا، ظن أنه سأل عن هلكته كيف تكون! وإنما سأله عن أهله، فكان يجب أن يقول: كيف أهلُك؟
* من المعلوم أن المعتزلة يُنْكرون أن يكون الله كلّم موسى – عليه السلام – أو يُكلم أحداً من خلقه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
جاء بعض المعتزلة إلى أبي عمر بن العلاء، وحاول تغيير حركة الإعراب في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]؛ لتوافق مذهبه، فقال له: اقرأ: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) بنصب لفظ الجلالة – الله – على أنه مفعول وموسى فاعل؛ حتى يكون المتكلم هو موسى، وليس الله – سبحانه – قال: هبني قرأتُ ذلك، فما تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟! وما تصنع بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]؟! فبُهِت المعتزلي؛ لأنها صريحة في أن الله تبارك وتعالى هو المتكلم؛ يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
مما سبق يتبيّن: أن النحو ليس عقيمًا حتى يُقال: إن هناك خلافًا في الإعراب، وإنه يجوز كذا وكذا من وجوه الإعراب دون مراعاة المعنى؛ ولذلك فعلى طالب العلم ألاّ ينظر للنحو على أنه قواعد صماء؛ فإن اللغة العربية تحتاج إلى عقل وفهم وشعور، وكما قلتُ في قصيدة الكتاب:
أَنَا الْبَحْرُ مَائِيَ مَاءُ الذَّهَبْ وَقَاعِي بِهِ الدُّرُّ لَيْسَ فَنَاءْ
فَمَنْ يَمْدُدِ الْيَدَ نَالَ الذَّهَبْ وَمَنْ غَاصَ فَالدُّرُّ نِعْمَ الجَزَاءْ