رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن العدل قيمة حضارية ومنهج حياة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن العدل قيمة حضارية ومنهج حياة
بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمودعبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن العدل سنة ربانية، وقيمة حضارية، وضرورة إنسانية، دعا إليها الإسلام، وأمر بها وحث عليها ورغب فيها؛ لتكون سلوكاً وواقعاً يمارسه الأفراد في جميع جوانب حياتهم، وتمارسه المجتمعات والأمم في كل شؤون حياتها؛ لأن العدل سبباً من أسباب سعادتها وأمنها وصلاح أبنائها وازدهار حضارتها ورقي مجتمعاتها قال – تعالى -: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل/90] وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن – عز وجل -، وكلتا يديه يمين، الذين يعلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) [رواه مسلم، (ج 12، ص 211)].
ويقول ابن قيم الجوزية (ت 597 ه): “إن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه”.. وبالعدل تحفظ الحقوق وتكفل الحريات وتقام الشرائع وتؤدى الفرائض ويأمن الخائف ولذلك عندما اشتد إيذاء قريش للمسلمين في مكة وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب وصور الاضطهاد بسبب إيمانهم بالله واتباعهم لرسوله – صلى الله عليه وسلم – كان لابد من البحث عن أرض أخرى وبلاد أخرى ليقام الدين وتؤدى الفرائض ويذكر فيها اسم الله، ويأمن فيها الإنسان على طعامه وشرابه وحريته وكرامته بل حتى حياته.. عندها أمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة إلى الحبشة ليستظلوا بظلال العدل عن أم سلمة؛ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ؛ فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيه))[البيهقي في السنن / 18190، والألباني في السلسلة الصحيحة/ 3190]..
ولذلك عندما يغيب العدل في حياة الأفراد والمجتمعات فإن ذلك يؤدي إلى ضعف القيم، وفساد الأخلاق، وظهور الخلاف والشقاق، وفساد ذات البين، وقطع الأرحام، وقسوة القلوب، ويظهر الظلم بجميع صوره، ويتسلط العدو، وتهضم الحقوق، وتعطل الحدود، وتنهار الدول، وينحسر المد الحضاري وغير ذلك، وما تعطلت قيمة العدل في حياة أمة من الأمم إلا وحلت فيها بسبب ذلك آفاتٍ جائحةً، وزوايا قاتلةً، وبلايا مهلكةً، وفقرًا معوزًا، وذلاً معجزًا.. قال الإمام الماورديّ – رحمه الله -: “إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل..”[أدب الدنيا والدين للماوردي (141)].
أيها المؤمنون عباد الله: لما كان العدل بهذه الأهمية في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم فقد أمرنا الإسلام بإقامته في هذه الحياة، وجعله سمة للتقوى، وطريقاً للفلاح، وسبباً للنجاة يوم القيامة، قال – تعالى -: (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [المائدة/8)]. وكان – صلى الله عليه وسلم – يمارس العدل سلوكاً واقعاً في الحياة ويدعو إليه ويرغب فيه ليقتدي به أصحابه وأتباعه من أبناء هذه الأمة إلى قيام الساعة.. وانظروا إلى هذا الموقف الرائع في العدل فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يعدّل صفوف أصحابه يوم بدر وكان في يده قدح يعدل به وكان ((سواد بن غزية)) خارجاً من الصف فطعن بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد. فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فاقدني. فكشف الرسول – صلى الله عليه وسلم – على بطنه وقال: استقد (اقتص) يا سواد، ثم قام سواد وقبل بطن المصطفى – عليه الصلاة والسلام -، حباً له حتى يكون آخر العهد أن يمس جلده جلد النبي – صلى الله عليه وسلم -))، [ابن هشام /ج 2 ص، 202)].
ومفهوم العدل ومعناه أن لا يكون هناك ظلم، وأن يعطي كل ذي حقٍ حقه في جميع أمور الحياة، وهو بذلك لا يقتصر على أمور الحكم والقضاء وحسب بل إن العدل يشمل كذلك العدل مع النفس والأهل والأولاد والموظفين والعمال والطلاب، وهو مطلوب كذلك عند أداء الشهادة وكتابة العهود والمواثيق وفي الأقوال وما ينطق به اللسان، وفي الصلح بين المتخاصمين، حتى أمر الإسلام بالعدل مع المخالفين في الدين والعقيدة والنسب والرحم.. عن النعمان بن بشير قال: ((تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فأنطلق أبي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليشهد على صدقتي، فقال له رسول الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة)) [رواه مسلم، (ج 11، ص 67)].
وفي جانب العدل بين الزوجات قال – تعالى -: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)[[النساء/3]..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ))[رواه أبو داود (2133)، والنسائي (3942)، وصححه الألباني في “صحيح الترغيب” (3 / 79)].
والعدل المطلوب بين الزوجات ليس في الحب وميل القلب تجاه هذه أو تلك، فهذا مما لا يقدر عليه المرء ولا يؤاخذ عليه، ولكن العدل المطلوب في المعاملة، والعدل في القسمة، والعدل في المبيت، والعدل في النفقة، والعدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه، والكلمة الطيبة باللسان، وهذا هو المطالب به الأزواج.. عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه” [رواه: البخاري (9/387) مسلم (15/209)].
وهذا من تمام عدله – صلى الله عليه وسلم -.. وفي جانب العدل في الأقوال والشهادات ينبغي للمسلم أن لا يقول إلا حقاً وصدقاً مع القريب والبعيد، وأن يربأ بنفسه عن قول الزور وشهادة الزور، قال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) [الأنعام: 152)].
وفي جانب الإصلاح بين المتخاصمين قال – تعالى -: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات9)].
وهناك العدل المطلوب من المدير تجاه موظفيه فلا يظلم أحداً من موظفيه، ولا يتعدى على حقوقه، ولا يحمله فوق طاقته، ولا يحرمه من ترقية أو درجة كان جديراً بها.. ومن ذلك عدل المعلم مع طلابه في تربيتهم وتعليمهم، وقد أورد ابن سحنون بإسناده عن الحسن قال: “إذا قوطع المعلم على الأجرة فلم يعدل بينهم – أي الصبيان – كتب من الظلمة” [آداب المعلمين لابن سحنون. المطبوع في نهاية كتاب المذهب التربوي عند ابن سحنون (115)].
وقال في موضع آخر: “وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائناً”..
وفي جانب العدل مع المخالفين في الدين والعقيدة لم ترَ البشرية عدل كعدل الإسلام وسمو أخلاق أتباعه عندما التزموا دينهم.. هذا ابن عمرو بن العاص والي مصر يضرب ابن القبطي بالسوط وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني. ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: “يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”؟.
وهكذا ما من جانب من جوانب الحياة إلا ويملئه الإسلام عدلاً ورحمة وحياة.. وإن قومًا يفشو فيهم الظلم والتظالم، وينحسر عنهم الحق والعدل إما أن ينقرضوا بفساد، وإما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم يسومونهم خسفًا، ويستبدون بهم عسفًا، فيذوقون من مرارة العبودية والاستذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
:
ومن جوانب العدل في الإسلام العدل في الحكم والقضاء بين الناس، قال – تعالى -: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [الحجرات58)].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم الإمام العادل.. ))[رواه مسلم. (ج 7 ص 121)].
فما أحوج الأمة إلى هذا الإمام العادل يقيم الدين، ويرسي قواعد العدل، وينصف المظلوم، ويأخذ على يدي الظالم، ويحفظ الأمن، ويرعى الحقوق والحريات، ويصون العرض، ويحمي الأرض، ويكون سبباً في نزول الرحمات، وحلول البركات، وتتابع الخيرات من رب الأرض والسماوات، قال – صلى الله عليه وسلم – ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال))[مسلم (2865)].
وحذر الإسلام من الانحراف عن هذا العدل من قبل الحاكم المسلم ومن ولي من أمر المسلمين أمراً.. فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسًا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابًا إمام جائر))[الترمذي 1329، والبغوي في شرح السنة (ج10 ص65)، وقال: حسن غريب].
وقال – تعالى -: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) [طه: 111]
عباد الله: العدل أساس الملك وسبب لبقاء الدول وازدهار الحضارات وسعادة الناس، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم))[سنن البيهقي ح19655)]. وذلك أن العدل نظام كل شيْ.. )[مجموع الفتاوى م28/ ص146)].
وإن صلاح حياة الناس لا يكون إلا بالعدل، وإن الشدة والعنف والقوة لا تبني مجتمعاً ولا تصلح وضعاً ولا تؤسس حكماً.. عندما كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز يشتكي من أهل خراسان فقال: إن أهل خراسان قومٌ ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن في ذلك… فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم. والسلام. [تاريخ الخلفاء]..
ألا فلنسعى جميعاً لنشر ثقافة العدل وقيم العدل في حياتنا وسلوكنا وأعمالنا ومؤسساتنا، ولنتخلق بهذا الخلق العظيم لتستقيم أحوالنا وتسعد مجتمعاتنا وتنهض أمتنا..