رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الطاقات المهدرة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الطاقات المهدرة
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الله – عز وجل – خلق جميع خلقه، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ومن كمال خلق الله للإنسان أن جعل له عقلاً يعي به، وقدرة وإرادة لا تخرج هذه القدرة والإرادة عن إرادة الحي القيوم.
وعند إدراك نعمة الله على العبد من إحسانه له تصويره، وإتمامه له في عقله، وتقويمه له في ذاته، وخلقه في أحسن تقويم، فإنه يدرك أن هذه النعم لابد من شكر الله عليها، ومن شكر الله عليها صرفها فيما يرضى الله – عز وجل – من الأقوال والأفعال والمقاصد.
عندما كنت أتأمل في واقع الأمة عموماً، وفي واقعنا خصوصاً كنت أقول لماذا هذا الضعف الواضح في جميع مشاريع الأمة سواءً السياسية، أو الدعوية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية؟! فتوصلت إلى أن الأمة لا ينقصها أعداد بشرية، ولا موارد مالية، ولا مساحات أراضية، ولا عقول فكرية، ولا إمكانات تكنولوجية، إنما ينقصها: استثمار الطاقات، والمحافظة عليها.
إنك عندما تنظر في أحوال الأمة في هذه الأيام لتدرك بعين البصر والبصيرة أنَّ الأمة تعيش أزمة طاقات مهدرة، وجهود مبعثرة، وفوضوية عارمة، سواءً على مستوى السياسات العليا، أو الشعوب، أو الأفراد.
إن الحديث عن طاقات الأمة، وعما تمتلكه من إمكانات لهو غاية في الأهمية، كيف لا؟! ونحن أمة العلم والعمل، والفقه والنضج، والتقدم والرقي، والبروز والحضارة.
أمتنا هي أمة متبوعة لا تابعة، متقدمة لا متخلفة، سبَّاقة للمعالي، أمتنا ليس موضعها الساقة، إنما موضعها المقدمة؛ لكن لما حل بالأمة الضعف العام، والتخلي عن بعض ثوابتها، وتمكين السفهاء من التسلط والعبث ببعض الثوابت كان له الأثر السيئ في تخلف الأمة، وكثرة تعثرها، وقلة نجاحها.
إن هذا الموضوع – حقيقة – الأصل: أن يُناقش في مراكز الدراسات والبحوث، والمجامع العلمية، والمنتديات الثقافية، وغيرها ممن يستشعر مثل هذا الأمر المهم، والخطير أيضاً.
ولعل هذه المقالة ما هي إلا إشارة – لطيفة – لهذا الأمر المهم الخطير، لِيَلْتَفِتَ إليه أهل التخصص والخبرة، وأهل المعرفة والنظر، ليولوه أهمية قصوى، ويسعوا في بناء ما تم بناؤه، وعلاج ما ينبغي علاجه.
وسأسلط الضوء على الطاقات المهدرة لدى الأفراد، من حيث أسبابها ومسبباتها، وأشارك بعد ذلك في علاجها وذلك ضمن طرح الأسباب.
أسباب هدر الطاقات يعود إلى ما يلي:
أولاً: ضعف التربية: إن ضعف التربية التي يتلقها الفرد هو من أعظم الأسباب التي تؤثر سلباً عليه، فينتج عنها سلبيات كثيرة من أهمها الهدر الواضح لطاقته التي ينبغي أن تستثمر فيما يعود عليه بالنفع؛ لذلك يجب علينا أن نراجع مناهجنا التربوية، وأساليبنا في تربية الأفراد وتوجيههم التوجيه السليم، ولعل من البرامج الناضجة الناجحة التي ساهمت وبشكل جيد لحل مثل هذه الأزمة ما تبنته مؤسسة المربي في إصدارها كتاب:” نماء ” الذي يهتم بتربية النشء من الولادة إلى ما بعد الجامعة، والاهتمام بجميع النواحي التربوية والعلمية والنفسية والسلوكية لمعالجة هذا الضعف التربوي، فيقدم منهجاً مدروساً لبناء الشخصية المسلمة.
ثانياً: البيئية الضعيفة: إن البيئة الضعيفة الهشة لا تخرج إلا مخرجات ضعيفة هشة، لا تنفع نفسها، ولا تنفع مجتمعها، ولذلك الاهتمام بالبيئات الناضجة، والناجحة هي من الأسباب المهمة لحفظ الطاقات وتوجيهها التوجيه السليم، لذلك على الفرد أن ينظر إلى البيئة العلمية، والبيئة العاملة فيجالس أهلها، ويخلط أفرادها لكي يرتقي بذاته، وينجح في توظيف طاقاته.
ثالثاً: سوء القصد: إن سوء القصد من أعظم الأسباب المذهبة لبركة العمر، والمهدرة لجهد العبد، بل حياته كلها تضيع هدراً، ولذلك كان السلف يحرصون أشد الحرص على نياتهم، وخلوص أعمالهم لله تعالى، فآتت جهودهم ثمارها، وبلغ سعيهم تمام بنيانه، وحسن في الناس ذكرهم، وكثرة بركة علمهم.
ولذلك من حسنت نيته، بلغ مقصده، ومن ساءت نيته حُرِمَ الوصول ولو وصل.
رابعاً: ضعف التوجيه: أحياناً يكون عند الفرد طاقة، ويملك قدرة على التحرك والتفكير لكنه يُبتلى بموجه ضعيف، لا يملك الأهلية في توجيه ذاته أصلاً، ثم يتسلط على من تحت يده بالتوجيه، فيؤثر ذلك سلباً على الفرد مما يفقده بعد ذلك النجاح المرجو منه، أو يكون له إنتاجية لكنها ضعيفة ليست على ما وهبه الله من النعم؛ وبناءً عليه فإن على الفرد أن يدرس صفات المربي الناجح، ثم يقيس ذلك الموجه والمربي على تلك الصفات ومن خلال التأمل يظهر له جلياً هل هذا المربي أو الموجه موجه مناسب، أو يحتاج إلى توجيه غيره، ومناصحة سواه.
خامساً: قلة الخبرة: إن قلة الخبرة مما يفوت على الإنسان كثيرًا من الفرص، ويؤخر كثيرًا من النجاحات، ولذلك فينبغي للفرد أن يهتم بالخبرات السابقة له في أي مجال؛ إن الاستفادة من الخبرات السابقة يعتبر من أهم مقومات العمل، حيث التعرف على أدوات العمل لدى المتقدم له يوفر عليه الكثير من الجهد والوقت، ويساعد في التطوير السريع، والنجاح المستمر.
سادساً: جلد الذات، واحتقار النفس: إن جلد الذات، واحتقار الشخص لنفسه منهي عنه شرعاً، كما أن الغرور والعجب مني عنه، وليس هذا موطن تحرير هذه المسألة لكن نريد أن نقرر أن كثيراً من الطاقات أهدرت بسبب جلد الفرد لذاته، واحتقاره لنفسه، فكم نسمع من عبارات فيها سب ونقد لاذع من بعض الأشخاص لذواتهم، وقد ينكرون فضل الله عليهم، ونعمه الوافرة لديهم.
نحن يجب أن نفرق بين جلد الذات، وبين نقد وتقويم الذات، فالأول: مذموم، والثاني: محمود، وهو الذي نريد.
وهنا أريد أن أقرر حقيقة وهي: أنه لا يوجد إنسان خلقه الله لا يحسن شيئاً، بل كل إنسان على هذه البسيطة قد خلقه الله في أحسن تقويم، وهيئ له من الأسباب ما يجعله يحسن شيئاً من الأشياء، لكن بعض الناس قد يجحد نعمة الله عليه سواءً بجهله، أو بعدم رضاه بما قضاه الله وقدره.
ومما يجعل الفرد يحتقر ذاته أنه قد يرى غيره ممن أنعم الله عليهم بنعم أكثر منه، ويسر لهم أسباباً لم تتيسر له فيحمله الخور والعجز، والضعف والجبن إلى الاعتراض على قضاء الله وقدره، فينعكس ذلك عليه بأن يترك العمل بالكلية، ولذلك لما يتأمل المسلم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [الليل:4]، وقوله – صلى الله عليه وسلم -:”اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ” أخرجه البخاري (4666)، ومسلم (2647)، يوقن أنه يجب عليه أن يعمل، وأن يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم ليشكر الله عليها.
ولذلك من دعاء القنوت الذي علمه النبي – صلى الله عليه وسلم – للحسن بن علي – رضي الله عنهما – : “وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ” أخرجه أحمد (1/199)، وابن نصر في قيام الليل (ص:134)، وابن الجارود في المنتقى (ص:142)، والبيهقي في السنن (2/210)، والطبراني في الكبير (1/130)؛ فكل إنسان أعطاه الله عطاءً فعليه أن يدعو الله أن يبارك له فيه.
وهنا أنقل كلمة نفيسة للإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – وهو يرد على عبدالله بن عبدالعزيز العُمَرِي العابد حينما كتب إليه يحضه على الانفراد، قال الإمام مالك – رضي الله عنه -: (إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر) سير أعلام النبلاء (8/114).
سابعاً: الاعتماد على الذات: وهذا عكس ما سبق فإن الغرور بالقدرات، والاعتماد على الذات، وترك الاعتماد على المنعم سبحانه هو أول طريق الهلاك، وهدر الطاقات، وصدق من قال:
إِذَا لَم يَكُن عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى فَأَوَلُ مَا يَجْنِي عَلِيْهِ اجْتِهَادُهُ
ولذلك فمتى اعتمد الفرد على ذاته، خانته ذاته وهو في أحوج الأوقات لها، ومن اعتمد على الله يسر الله أمره، وأعانه في أحرج الأوقات، فعلى كل فرد مسلم أن يكثر من دعاء الله التوفيق والتسديد، والعون والتأييد، فإن الله تعالى إذا رأى من عبده التذلل له، والاعتراف بالعجز والتقصير، والرغبة فيما عنده أعطاه فوق سؤله، وبلغه غاية مناه.
إن تلك الأعمال، والبرامج والمشاريع التي يقوم به الأفراد ما هي إلا فتح من الله تعالى للعبد، فمتى ظن العبد أنها من جهده وتخطيطه أمسك الله نعمه، وحرم العبد البركة والتوفيق، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر:2].
ثامناً: التخطيط السيئ: إن التخطيط السيئ هو التخطيط الذي يقوم على عدم وجود رؤية واضحة، ولا أهداف محددة، فيكون مخبطاً متخبطاً، بين المناهج والأعمال، فيضيع عمره، وتذهب طاقته هدراً.
إن الرؤية هي: أول شيء يجب على الفرد تحديده، أي ماذا أريد في النهاية؟ وما هي الغاية التي أريد أن أصل إليها؟
فالرؤية تجعل الفرد يرى غايته، ثم يصيغُ بعد ذلك أهدافه للوصول إلى غايته.
إن عدم وجود الرؤية الواضحة للفرد العامل لا يمكن بحال أن يصل إلى ما يريد، ولذلك ينبغي أن يركز كثيرًا على الرؤية الواضحة، فإذا حدد رؤيته فإنه بعد ذلك يحدد أهدافه التي ستوصله إلى غايته التي حددها في رؤيته، فيكون بذلك منتجاً إيجابياً في حياته.
تاسعاً: التخذيل المقيت، والتحطيم المذموم: كم أُهدرت من طاقة؟ وكم صُدَّ كثيرٌ عن كثيرٍ من البرامج الفاعلة بسبب ممارسة بعض النَّاس لهذا الأسلوب الرديء وهو أسلوب تحطيم الغير، والنقد المحطم.
يقول لي أحدهم: وهو ممن أتاه الله معرفة علم من العلوم، يقول: (عندما وفقني الله لهذا العلم وأخذت أعلم الناس بهذا العلم، كان بعضهم – وهو من يكبرني سناً – يقول: فلان أصبح من أهل هذا العلم؟! الأفضل له أن يستريح ويريح، فهو لا يصلح لشيء)، يقول صاحبنا: ( فوقعت في نفسي موقعاً عظيماً، لكن من رحمة الله – عز وجل – بي أني لم ألتفت لهذا التحطيم المباشر، وهذا النقد المثبط، فاستعنت بالله وواصلت فيما بدأت به، وكان كلامه ذلك دافعاً لي للثبات والازدياد من هذا العلم، حتى وفقني الله لبلوغ ما بلغت فيه، وبعد مدة يسيرة إذا صاحبي الذي ينال من قدراتي، ويقول: أني لا أصلح لشيء، يتصل عليَّ، ويريد أن يستفيد مما أعطاني الله من هذا العلم، فأجبته، ثم قلت في نفسي: يا سبحان الله! لو أنني سمعت كلامه وانجرفت وراء قوله لفاتني خير كثير)، فهذه الصورة صورة لكثير من الناس المخذلين.
إن بعض الناس لا يجيد إلا فن التحطيم، والاستخفاف بالآخرين، وهنا يجب على المسلم أن لا يسخر من أحد بقول أو فعل أو غمز أو لمز، ويقف دائماً عند قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات:11].
أخي المبارك: لتعلم أن التخذيل من أعظم صفات المنافقين، فهم يخذلون ويحطمون أهل الإسلام، فهم أكثر الناس شكاية، وأكثرهم خوراً وتخذيلاً لغيرهم، ولذلك هم أفشل الناس، وأكذب الناس، ويريدون من جميع الناس أن يكونوا مثلهم.
وهنا أوجه رسالة لكل فرد: إذا سمعت مثل هذه العبارات المحطمة، ولاحظت التحطيم المقيت فلا تلتفت لمثل هذه الأقاويل المثبطة، وهذه الأساليب المحطمة، بل عليك أن تمشي واثق الخُطى، مستعيناً بالله تعالى، متوكلاً عليه، فإنك ستصل إلى غايتك، وستبلغ مُناك، فبشيء من الصبر واليقين، والبذل والتضحية، يدرك المرء مراده، ويحقق مبتغاه، وهناك تذكر عبارتين واجعلهما أمام عينيك: الأولى: (رضا الناس غاية لا تدرك) فلا تحرص عليه؛ الثانية: (من راقب الناس مات هماً) فراقب الله تعالى.
عاشراً: استعجال النتائج: إن مما يهدر كثير من الطاقات، ويفسد كثيرًا من البرامج، ويعطل كثيراً من الأعمال، هو: استعجال النتائج؛ إن النتائج السريعة والعاجلة في تحقيق الأمور بأنواعها لا يكون في غالب التقدير الإلهي؛ بل التقدير الكوني يدل على أن الحياة الدنيا مرحلة تحتاج إلى تدرج، ولهذا كان الشارع الحكيم لا ينظر فقط إلى ما يمكن أن يعمله الإنسان الآن؛ وإنما ما يستقيم عليه ويعمله باستمرار.
وحين ننظر في جوانب التشريع والطلب: نرى التوازن بين العمل الحاضر والاستمرارية عليه، ويدل لذلك ما جاء من حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي- صلى الله عليه وسلم – دخل عليها وعندها امرأة فقال:” مَنْ هَذِهِ؟ ” قَالَت: فُلاَنَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا. قَالَ – صلى الله عليه وسلم -:”مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا”، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. أخرجه البخاري (43)؛ فنجد هذا الحديث وغيره أنه حتى في أمور العبادة لابد من الاقتصاد في فعلها؛ وعدم الاستعجال، حتى لا يكون الانقطاع، وترك الاستمرارية مصيرها، فعلى الفرد عدم استعجال النتائج وإن طال الزمن، فعليه بالمثابرة على العمل والاستعانة على وعثاء الطريق بطول الصبر، وحسن التأسي برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وصدق الاعتماد على الله – سبحانه – فإنه طريق النجاح، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف:90].
الحادي عشر: الفوضوية في الوقت: إن الذي لا يرتب وقته حسب الأولويات فإنه سيضيع بين كثرة المشاغل، وبين تداخل المواعيد، ولن ينجز شيئاً، إن الفوضوية في الوقت تتسبب في تراكم الأعمال والواجبات والمهمات دون القدرة على إنجازها في الزمن المفترض، وهذا يشكل عبئاً نفسياً يؤدي إلى تأثر نشاط الفرد، ويحمله بعد ذلك على ترك العمل، ولذلك ترتيب الوقت وتنظيمه حسب الأولويات الهامة، ثم المهمة ثم ما بعدها، وإعطاء كل ذي حق حقه مما يساعد على الإنتاجية، ونجاح العمل.
الثاني عشر: عدم الإفادة من الأخطاء السابقة: إن كثيرًا من المواقف التي تهدر فيها الطاقات هي أخطاء متكررة، ولو تأمل العامل في أخطاء من سبقه، أو في أخطائه هو ثم لا ينتفع من أخطائه، فإن ذلك مدعاة لتكرر الخطأ، وهدر الطاقة، وضياع الوقت، فعلى الفرد أن يفيد من أخطائه، وأن لا يكررها، ولذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ” أخرجه البخاري (5782)، ومسلم (2998) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
الثالث عشر: العجز والكسل: إن كثيراً من الناس قد تتوفر لهم جميع الوسائل المعينة لأن يستثمروا طاقاتهم، ويحققوا رغباتهم، لكن يحجزهم عن استثمار طاقاتهم وقدراتهم العجز والكسل، ولذلك استعاذ منه النبي – صلى الله عليه وسلم – لخطورته فقال:”اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ” أخرجه البخاري (2668)، ومسلم (2706) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
إن العجز والكسل قد صَدَّى كثير من الناس عن معالي الأمور، ولذلك يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (من نام على فراش الكسل، أصبح ملقي بوادي الأسف) بدائع الفوائد (2/234).
الرابع عشر: ضعف الهم والهمة، إن ضعف الهمة، ودنوها وسُفْلِهَا تفوت على الفرد مصالح عليا، وتضيع طاقته، وتفسد عليه حياته، ولذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: (لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته) محاضرات الأدباء للأصفهاني (ص:108)، ويقول المتنبي:
وَلَمْ أَرَ فِيْ عِيُوْبِ النَّاسِ عَيْبَاً كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ عَلى الْتَّمَام
إن النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة ترضى من الأشياء بالدني، فتكون كالذباب الذي لا يقع إلا على القذر.
الخامس عشر: عدم انتهاز الفرص: إن ترك الفرص تفوت، وعدم انتهازها يؤخر الفرد تأخيراً عظيمًا، بل قد يحرمه من خير عظيم، ويكون سبباً لهدر طاقته، وإن عدم انتهاز الفرص يعود إلى أمرين:
الأول: عدم التصور الواضح لما يريد الفرد أن يقوم به ويعمله، فلذلك تمر عليه الفرصة فلا ينتبه لها، ولا يشعر بأنها فرصة ثمينة إلا بعد ذهابها.
الثاني: الكسل: وكم ضيع الكسل على كثير من الأفراد الفرص الثمينة، فيحمله كسله على ترك العمل، وعدم الاستفادة مما يُعرض له، ولذلك يقول ابن الجوزي – رحمه الله تعالى -: (إياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس) صيد الخاطر (ص:193).
وهنا أذكر مثالاً فيه انتهاز للفرص، فكانت نتيجة ذلك التصرف هو: فوزٌ لهذا المستغل لهذه الفرصة فوزاً عظيماً، إن الفرصة كانت من النبي – صلى الله عليه وسلم -، والمنتهز لها هو ربيعة بن كعب الأسلمي – رضي الله عنه -، يقول ربيعة – رضي الله عنه -: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: “سَلْ”؛ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: “أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ”. قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: “فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ” أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (489)؛ فهذا كعب – رضي الله عنه – استغل واستثمر هذه الفرصة فكانت ثمرة استثمار هذه الفرصة: الفوز بالجنة، وليس الجنة فقط بل مرافقة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها.
وبعد: فإن هذا الموضوع مهم للغاية كما أسلفت في أوله، وإن ذكر الأسباب والعلاج كان على عجل، وإلا كل واحد من هذه الأسباب يحتاج إلى طرح مستقل وبحث مطول، لكن كان المقصود الإشارة لا الإطالة، ويكفي من القلادة ما أحاط العنق.
وختاماً: ما أجمل أن نقف مع هذه الآية وقفة تدبر وتأمل، وعظة وتفكر: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ [النساء: 66-69].
أسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يعيننا على مرضاته، وأن يعلق قلوبنا به،