رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن أسواق العرب فى الجاهلية
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن أسواق العرب فى الجاهلية
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى،
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
أسواقهم هي تجمعات تجارية واجتماعية وثقافية كانت تُعقد في أماكن مختلفة من شبه الجزيرة بطريقة دورية، ويأتيها العرب من كل الأرجاء فيتاجرون ويسمعون المواعظ والخطب ويتنافرون ويتفاخرون ويسعون في فك أسراهم عند القبائل الأخرى، كما كانوا يتناشدون الشعر ويتحاكم مبدعوه إلى كبارهم؛ كالنابغة الذبياني، الذي كانت تضرب له قبة حمراء من أدم فيحكم بين الشعراء، وتكون كلمته هي الفاصلة، وكانت القصائد التي تحوز إعجاب هؤلاء المحكمين تطير في أرجاء الجزيرة ويتناشدها العرب في كل مكان، كما كان للعرب حكام يرجعون إليهم في أمورهم الأخرى ويتحاكمون أمامهم في منافراتهم ومواريثهم ومياههم ودمائهم؛ لأنه لم يكن لهم دين يرجعون إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة، ومنهم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وعامر بن الظَّرب وعبدالمطلب وأبو طالب وصفوان بن أمية وغيرهم، وكان في نساء العرب أيام الجاهلية أيضًا حاكماتٌ اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي، منهن صُحر بنت لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وخصيلة بنت عامر بن الظَّرب العدواني، وحذام بنت الريان، وكان امتناع الناس في الأشهر الحُرُم عن إيذاء بعضهم بعضًا يساعد إلى حد ما في الإقبال على هذه الأسواق، والمقصود هنا الأسواق الكبرى، أما الأسواق المحلية الصغرى التي كانت تُعقد أسبوعيًّا فكثيرة جدًّا، وليست من اهتمامنا في هذا السياق، وقد عرفت الجزيرة العربية عددًا غير قليل من تلك الأسواق الموسمية؛ إذ بلغت أكثر من عشرين سوقًا، من أهمها: سوق دومة الجندل، وكانت تقع عند التقاء عدد من الطرق المهمة بين العراق والشام وجزيرة العرب، وموسمها شهر ربيع الأول إلى نصفه، وموقعها مدينة الجوف الحالية، وكان يعشر من يحضرونها (أي: يأخذ منهم قيمة العُشر من ربح تجارتهم) رؤساء آل بدر في دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب، وكان العُشر يؤخذ عينًا أو نقدًا بحسب الثمن، ولما كان النقد قليلًا إذ ذاك كان الدفع عينًا هو الغالب في أداء هذه الضريبة، ثم سوق المشقر، والمشقر حصن بالبحرين قرب مدينة هجر، وتعقد سوقه في جمادى الآخرة، ثم سوق هجر من أرض البحرين، وهي سوق التمر الذي يُضرب به المثل فيقال: “كجالب التمر إلى هجر”، وهو يساوي المثل المصري: “يبيع الماء في حارة السقائين”، وكانت تعقد في ربيع الآخر، وكان يعشر مرتاديها المنذر بن ساوى أحد بني عبدالله بن دارم، ثم سوق عُمان، وكانت تقصدها العرب بعد الفراغ من هجر، ويقيمون بها حتى آخر جُمادى الأولى، وتجتمع فيها تجارة الهند وفارس والحبشة والعرب، ثم سوق حُباشة، وهي سوق تهامة القديمة، وكانت تُقام في رجب، وقد ورد أن الرسول دخل إليها بتجارة السيدة خديجة رضي الله عنها ذات مرة هو وغلامها ميسرة أيام أن كان يشتغل عندها قبل البعثة فربحَا ربحًا حسنًا، ثم سوق صُحار، وهي مدينة عمانية تقع على البحر، وكانت سوقها تعقد في رجب، ثم سوق الشِّحْر على الساحل الجنوبي بين عدن وعمان، وكانت سوقًا لتجارة البحر والبر، وتعقد في منتصف شعبان، ثم سوق عدن، وينتقل إليها العرب بعد انتهائهم من سوق الشحر، وتقام في الأيام العشر الأوائل من رمضان، ثم سوق صنعاء، وتستمر من منتصف رمضان إلى آخره، ثم سوق حضرموت، وكان انعقادها في منتصف ذي القعدة، وربما أقيمت هي وعُكاظ في يوم واحد، فيتوجه بعضهم إلى هذه، وبعضهم إلى تلك.
أما أشهر هذه الأسواق على الإطلاق فأربعة، هي:
سوق عكاظ، وكان مكانها بين مكة والطائف، وإن كانت إلى الطائف أقرب، وكانت تستمر عشرين يومًا، من أول ذي القعدة إلى العشرين منه، وهي أشهر أسواق العرب وأعظمها شأنًا، ولم تكن عكاظ سوقًا تجارية فحسب، بل كانت أيضًا سوقًا أدبية يجتمع فيها الشعراء من كل صُقع، ولهم محكمون كالنابغة الذبياني تُضرب لهم القباب، وقولهم في الشعر والأدب لا يُرد، كما كانت كذلك مكانًا لأصحاب الدعوات الإصلاحية، مثل: قُس بن ساعدة الإيادي، الذي كان يخطب في الناس ويذكرهم بعظمة الخالق، وورد أن الرسول رأى قُسًّا في تلك السوق على جمل أحمر، ومن خطبائها المشهورين أيضًا سحبان وائل، الذي ضرب به المثل، فقيل: “أخطب من سحبان”، ويقال: إنه إذا خطب سيل عرقًا، ولا يعيد كلمة، ولا يتوقف ولا يقعد حتى ينتهي من كلامه، وكان الخطباء يخطبون وعليهم العمائم، وبأيديهم المخاصر، ويعتمدون على الأرض بالقسي ويشيرون بالعصا والقنا راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض، وكانت شؤون هذه السوق لقيس بن عيلان وثقيف، وهي سوق عامة ليس فيها عشار، وكانت تحضرها قريش وخزاعة وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أحياء العرب يؤمونها من العراق والبحرين واليمامة وعمان واليمن وغيرها، ثم هناك سوق مجنة، وتعقد بأسفل مكة بمر الظهران، وكان الناس يقبلون إليها بعد عكاظ ويقيمون بها الليالي العشر أو العشرين المتبقية من ذي القعدة حتى يروا هلال ذي الحجة فينتقلوا إلى ذي المجاز للحج، وهي، وإن كانت أقل شأنًا من عكاظ وذي المجاز، تساويهما في نظر المحرمين من العرب، وتتمتع باحترامهم جميعًا، حتى كانت قريش وغيرها من العرب تقول: “لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج”، ثم سوق ذي المجاز، وهي على مسافة ثلاثة أميال من عرفات بناحية جبل كبكب، أو كانت تعقد بمنى بين مكة وعرفات، على خلاف في ذلك، وكانت تنعقد في ديار هُذيل حين يهل ذو الحجة فينصرف الناس من سوق مجنة إليها، ويقيمون بها حتى اليوم الثامن ذلك الشهر، وهو يوم التروية، وهذه السوق تتلو عكاظ في الأهمية، وكانت تؤمها وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق الأخرى أو لم يشهدها، ويجري فيها ما يجري في غيرها من البيع والشراء وتناشد الأشعار والمفاخرة والمفاداة، ورُوي أن الرسول عليه السلام كان يؤمها لبث دعوته إلى الإسلام، وكان للأسواق دور كبير في التقريب بين قبائل العرب لغة وأدبًا، فضلًا عما كانت تحدثه من انتعاش اقتصادي بينهم.
ولعل مِن المستحسن أن نتريث قليلًا عند عكاظ، أهم أسواق العرب كلها، لتقديم صورة لها مفصلة بعض الشيء: لقد كانت تقع في الجنوب الشرقي من مكة، وعلى بعد عشرة أميال من الطائف ونحو ثلاثين ميلًا من مكة في وادٍ فسيح فيه نخيل وأعشاب وماء، وتكمن أهميتها في وقوع الحج بعدها مباشرة وفي قربها كذلك من مكة، فمن أراد الحج من العرب سَهُل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانه سوق عكاظ وبين الغرض الديني بالحج، كما كانت تنعقد في شهر من الأشهر الحرم لا تقرع الأسنة فيه حتى ليلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يزعجه؛ تعظيمًا له، وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم وأموالهم، وكان يأتي إلى عكاظ قبائل قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء العرب، فتنزل كل قبيلة في مكان خاص بها، وفي التاريخ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب مع العباس بن عبدالمطلب إلى عكاظ ليرى منازل القبائل فيها، ويروى كذلك أنه عليه السلام جاء كندة حيث ينزلون بعكاظ، كما كان يشترك فيها أهل اليمن والحِيرة، ويقول الأزرقي: كانت في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب؛ إذ كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد، فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته، ويروي ابن الأثير أن النعمان بن المنذر لما ملَّكَهُ كسرى إبرويز على الحِيرة كان يجهز كل عام لطيمة، وهي القافلة من التجارة، لتباع بعكاظ، فترى من هذا أن بلاد العرب جميعًا كانت تشترك في هذه السوق.
فإذا كان الحجُّ، خرج الناس إلى عكاظ فيصبحون به يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة تنعقد فيها أسواقهم، ويقوم على كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، فإذا مضت أيام السوق انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرًا يتاجرون، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز، ثم إلى عرفة، وكانت قريش وغيرها من العرب تقول: لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذا المجاز إلا محرمين بالحج، وكانوا يستعظمون أن يرتكبوا شيئًا من المحارم أو يعتدي بعضهم على بعض في الأشهر الحرم، وكانت لسوق عكاظ عدة وظائف؛ فهي متجر تُعرض فيه السلع على اختلاف أنواعها من السيوف والأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والسمن، إلى جانب الرقيق وغيره، ولم تكن السلع التي تُعرض في تلك السوق مقصورةً على منتجات جزيرة العرب وحدها، بل تباع فيها كذلك حاصلات الحِيرة وفارس ومصر والشام والعراق، ويروون أنه قبل البعث بخمس سنين حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد، وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق.
وكانت للسوق، إلى جانب ذلك، وظائف اجتماعية مختلفة: فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ، وكانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر هناك، فيقوم رجل فيخطب قائلًا: ألا إن فلان بن فلان غدر فاعرِفوا وجهه، ولا تصاهروه ولا تجالسوه، ولا تسمعوا منه قولًا، فإن أعتب، وإلا أقام شاخصًا يشبهه على رمح منصوب، فلعنه الناس ورجموه، ومن كان له دَين على آخر أنظره إلى عكاظ، ومن كان له حاجة استصرخ القبائل بعكاظ، ومن ذلك ما ذكره الأصفهاني من أن رجلًا من هوازن أسر فاستغاث أخوه بقومه فلم يغيثوه، فركب إلى موسم عكاظ وأتى منازل قبيلة مذحج يستصرخهم، وكثيرًا ما تتخذ السوق وسيلة للخطبة والزواج، فيروي صاحب “الأغاني” أنه اجتمع يزيد بن عبدالمدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر، فتردد أبوها، ففخر كل منهما بقومه وعدد فعالهم شعرًا، ومَن كان صعلوكًا فاجرًا خلعته قبيلته في سوق عكاظ وتبرأت منه ومن تصرفاته، مثلما فعلت خزاعة حين خلعت قيس بن منقذ بسوق عكاظ وأشهدت الناس على ذلك معلنة أنها لا تطالب بأية جريرة يرتكبها ضد أي إنسان، ومن كان داعيًا إلى إصلاح اجتماعي أو ديني وجد فرصته في عكاظ؛ حيث تجتمع القبائل من أنحاء الجزيرة كلها، وكثيرًا ما وقف قُس بن ساعدة بسوق عكاظ يعظ ويخطب على جمل له، فيرغِّب ويرهِّب، ويحذِّر وينذِر، وعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم اتجه إلى دعوة الناس بعكاظ؛ لأنها مجمع القبائل؛ إذ كانت قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين وعدنانيين تنزل بها، ويبعث ملك الحيرة تجارته إليها، ويأتي التجار من مصر والشام والعراق، وكان ذلك الاجتماع أيضًا وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتقارب اللهجات وأخذ العرب بعضهم من بعض ما يرون أنه أليق بهم وأنسب لهم، كما كان التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق يطلعون العرب على أشياء من أحوال تلك الأمم الاجتماعية، وفوق هذا كانت عكاظ معرضًا للبلاغة ومدرسة يُلقى فيها الشعر والخطب؛ إذ كانت بها منابر يقوم عليها الخطيب فيعدد مآثره وأيام قومه من عام إلى عام، وكانت كل قبيلة تنزل في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات المختلفة أو عند شجرة أو حول خطيب يخطب على منبر أو في قباب من أدم تقام هنا وهناك، وكان أشراف القبائل يتوافدون بالأسواق مع التجار؛ لأن الملوك كانوا يخصون كل شريف بسهم من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ؛ فإنهم يتوافون بها من كل أوب.