رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن السماحة والرحمة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن السماحة والرحمة
بقلم / المفكر العربي خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
نحن في شهر ربيع الأول وتهلّ علينا ذكرَى عطرةٌ وهي ذكرَى مولدِ سيدنا محمد ﷺ ،
ففي شهر ربيع الأول من عام الفيل ، شرف الكون بميلاد سيد الخلق ، وخاتم المرسلين سيدنا “محمد”ﷺ .
قال جلَّ وعلا:
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ آل عمران:164)
أرسله الله رحمة للعالمين وهي أعظم رحمة حظيتْ بها البشريةُ من ربِّها امتن الله بها على عباده
فقال جلا وعلَا
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّارَحْمَة لِلْعَالَمِينَ)الأنبياء:(107 )
فالهدف من بعثة النبي ﷺ نشر الرحمة في العالمين ….
وعن ابن عباس، في قول الله عز وجل
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. (تفسير الطبري) ..
فما من مخلوقٍ على هذه الأرض إلا وقد نال حظًّا من هذه الرحمة المهداة؛
نالها المؤمن بهداية الله له، حتى الكفار رُحموا ببعثته صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخَّر الله عقوبتهم، فلم يستأصلهم بالعذاب، كالخسف والمسخ والقذف والغرق كما حدث للأمم السابقة، إكراماً له ﷺ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال ].
إن ميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم – هو أهم حدث في تاريخ البشرية …. حيث ولد الهدى وأشرق الضياء وعم النور …
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ
قال حَسَّان بنُ ثَابِت في مدح الرسول ﷺ :
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ. كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ
ﷺ .
ولقد كانَت البشريةُ قبلَ بعثةِ النبيِّ ﷺ، تعيشُ في جاهليةٍ جهلاءٍ، وفوضَى عارمةً، قد اشتدَّتْ عليهم الظلمةُ، وتفشَّتْ بينهُم أخلاقُ السوءِ، فلم يعرفُوا للهِ حقًّا،
يقول النبي ﷺ عن ربِّ العزَّة عز وجل: “… وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ” [رواه مسلم ].
فكانوا يعيشون في جاهلية وظلام حتى بعثَ اللهُ جلَّ وعلا لهم نبيَّهُ بالنورِ والهدَى،والرحمة قال تعالى ” قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين “
وقال جلَّ وعلَا واصفًا نبيَّه ﷺ: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128
فدينُنَا هو دينُ الرحمةِ ونبيُّنَا ﷺ نبيُّ الرحمةِ، قال ﷺ:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». (البيهقي والحاكم وصححه).
فهو الرحمةُ المهداةُ وهو السراجُ المنيرُ، وهو نبي الرحمة
قال ﷺ: “أنا محمدٌ، وأحمدُ، والمُقَفِّي، والحاشرُ، ونبيُّ التوبةِ، ونبيُّ الرحمة” .
فكان ﷺ رحمةً للعالمين، أنارَ اللهُ بهِ الدنيا بعدَ إظلامِهَا، وأشرقتْ شمسُ الحياةِ، وابتهجتْ الأرضُ ببعثته ، وأصبحتْ بعدَ طولِ الظلامِ وقد كساهَا النور، ولبستْ ثوبَ الهناءِ والحبورِ،
سعدت بمولد احمد الأزمان وتعطرت بعبيره الأكوان
فأقمت للخلق الكريم منارة وسما بعذب حديثك التبيان
وأتيت بالتوحيد لله خالصا لم يشرك بــــــــــه انسان
صلوا عليه وسلموا تسليما….
. فاختارَهُ اللهُ للنبوةِ و للرسالةِ واصطفاهُ ﷺ، وجعلَهُ رحمةً للعالمين، فهو رحمةٌ للمؤمنين،و للصالحين،
ولقد سُئِلَ ﷺ عن نفسهِ فقالَ:” أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ”.(سيرة ابن هشام).
يقولُ ابنُ رجبٍ:
” وخروجُ هذا النورِ عندَ وضعهِ إشارةٌ إلى ما يجيءُ بهِ مِن النورٍ الذي اهتدَى بهِ أهلُ الأرضِ وأزالَ بهِ ظلمةَ الشركِ، قالَ تعالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}
ثانياً : سماحة النبيِّ ﷺ ورحمتةُ بأمتهِ صورٌ ومظاهر..:
واليوم سنقطفُ زهرةً مِن بستانِ أخلاقِه ﷺ، وهو خلقُ السماحة والرحمة.
لذلك اهتمَّ نبيُّ الرحمةِ ﷺ بذكرِ هذا الخلقِ العظيمِ والتأكيدِ عليهِ في أحاديثَ عدةٍ،
فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاص رضي اللهُ عنهما أنَّهُ ﷺ قال: ” الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ” (البخاري)،
وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ” (البخاري)،
وتوعدَ ﷺ أولئكَ الذين لا يرحمونَ أنَّهُم أبعدُ الناسِ عن رحمةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى فقالَ:” لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ”(متفق عليه)،
وقالَ في أهلِ الجنةِ:” أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ”(مسلم).
أيها الإخوة المسلمون :
لقد بعث الله نبيه محمدًا ﷺ ليكون رحمة للعالمين،
و تجلَّتْ لنَا مظاهرُ رحمةِ النبيِّ ﷺ، حتى شمِلتْ القاصِي والدانِي، والقريبَ والبعيدَ، والصديقَ والعدوَّ، والبرَّ والفاجرَ..، وشملتْ رحمتُهُ الضعفاءَ، والأطفالَ، والنساءَ، والمرضَى، والأصحابَ، وحتّى الشهداء، وحتى الحيوانات، …وتِلْكُم بعضُ مظاهرِ رحمةِ النبيِّ ﷺ بجميع فئات المجتمع:
فمِن مظاهرِ رحمتِهِ ﷺ بأمتِهِ:
فلقد منحَ اللهُ تعالى الأنبياءَ دعوةً مستجابةً، فتعجلوهَا ودعوا بها، أمَّا الرسولُ الكريمُ فقد ادخرَهَا لأمتِهِ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – : «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا )) رواه مسلم.
ومن ذلك أنه يوم القيامة حين يؤذن له في الشفاعة العظمى فيؤذن له ويقال له ( يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع ) فينادي ربه فيقول ” يا رَبِّ، أُمَّتِي يارب أُمَّتِي،
ومن مظاهر رحمته بأمته :
ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص :” أن النبي ﷺ تلَا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: “رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” ( إبراهيم: 36) وَقَالَ عِيسَى عليه الصلاةُ والسلامُ: “إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” ( المائدة: 118)؛ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: “اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي” وَبَكَى
، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟” فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ:”يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ”[ مسلم ]فهل بعد ذلك من رحمة؟!!
فمنها: رحمتُه ﷺ بالخدمِ والعبيدِ:
فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “خَدَمْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ”، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: “مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ “(أخرجهما البخاري ومسلم ).
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بالنساءِ:
فكان ﷺ دائمَ الوصيةِ بالنساءِ، وكان يقولُ لأصحابِهِ: “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”[البخاري]، كذلك رحمتُهُ ﷺ بالإِمَاءِ، وهُنَّ الرقيقُ مِن النساءِ، فقد روى أنسُ بنُ مالكٍ قال: “إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ!”[ البخاري].
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بالأطفالِ والصبيانِ:
فقد كان ﷺ رحيمًا بالأطفالِ، فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ” (متفق عليه).
روي البخاري عن عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: «مَنْ ابتلِي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بشَيْئ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ»
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بالحيوانِ:
فقد تجاوزتْ إنسانيتُهُ ﷺ ذلك كلَّهُ إلى الحيوانِ والبهيمةِ، فرويَ أنَّ النبيَّ ﷺ دخلَ حائطًا لرجلٍ مِن الأنصارِ، فإذا فيه جملٌ فلمَّا رأَى النبيَّ ﷺ حنَّ وذرفتْ عيناهُ، فأتاهُ ﷺ فمسحَ ظفراهُ فسكتَ،
فقالَ ﷺ: “مَن ربُّ هذا الجملِ؟ لِمَن هذا الجملُ؟” فجاءَ فتًى مِن الأنصارِ فقالَ: لي يا رسولَ اللهِ، فقالَ لهُ: ” أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ” (أبو داود)،
( وَتُدْئِبهُ: أَيْ تُكْرِههُ وَتُتْعِبهُ وَزْنًا وَمَعْنًى)،
وقد مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: “اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً” (أبوداود وابن خزيمة بسند صحيح).
وعن عبدِاللهِ بن مسعودٍ قالَ: قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ، فَجَعَلَتْ تُفَرِّشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». (أبو داود والحاكم وصححه).
وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ))
وذكر النبي بغيًّا زانيةً مِن زوانِي بنِى إسرائيل دخلتْ الجنةَ في كلبٍ، مرتْ على كلبٍ يلهثُ الثرَى مِن العطشِ فنزلتْ إلى بئرٍ فيه ماء، فملأتْ خفَّهَا بالماءِ وقدمتْهُ للكلبِ فشربَ فغفرَ اللهُ لهَا بذلك)) وللهِ درُّ القائل:
إذا كانت الرحمةُ بالكلابِ تغفرُ الخطايا للبغايا** فكيف تصنعُ الرحمةُ بمَن وحّدَ ربِّ البرايا؟
وها هو ﷺ يرحم الحيوان حتى في حالة ذبْحه، فيقول: (إن الله كتَب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتُم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِد أحدكم شَفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته)؛ أخرجه مسلم.
ولم تقتصرْ رحمتُهُ ﷺ على الحيواناتِ، بل تعدّتْ ذلك إلى الرحمةِ بالجماداتِ.
ومِن مظاهرِ رحمتِه ﷺ رحمتُهُ بالجماداتِ :
حادثةُ حنينِ الجذعِ ، فإنَّهُ لمَّا شقَّ على النبيِّ ﷺ طولُ القيامِ، استندَ إلى جذعٍ بجانبِ المنبرِ، فكان إذا خطبَ الناسَ اتّكأَ عليه، ثم ما لبثَ أنْ صُنعَ لهُ منبرٌ، فتحولَ إليه وتركَ ذلك الجذعَ، فحنَّ الجذعُ إلى النبي ﷺ حتى سمعَ الصحابةُ منهُ صوتًا كصوتِ البعيرِ ،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ فَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ حَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ وَقَالَ « لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بكبارِ السنِّ:
قال رسول اللهﷺ :
(لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)
(صحيح الجامع .الرقم : 5445)
و جاءَ أبو بكرٍ بأبيهِ عامَ الفتحِ يقودُهُ نحو رسولِ اللهِ ﷺ ورأسهُ كالثَّغامةِ بياضًا مِن شدةِ الشيبِ، فرحمَ النبيُّ ﷺ شيخوخَتَهُ وقال: “هلا تركتَ الشيخَ في بيتِهِ حتى أكونَ أنَا آتيهِ فيهِ، قال أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه: هو أحقُّ أنْ يمشِي إليكَ يا رسولَ اللهِ مِن أنْ تمشِي إليهِ.” [مجمع الزوائد للهيثمي]
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بالمُخطئِ:
فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ أعرَابِّيٌ فَبَالَ في الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ:” دَعُوهُ وَهَرِيْقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ“. (البخاري).
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ:” إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ”(مسلم).
ومنها: رحمتُهُ ﷺ بالكفارِ:
فالرحمةُ في الإسلامِ لم تقتصرْ على المسلمينَ فحسب، فعندمَا قِيلَ له ﷺ ادعُ على المشركين قال: “إنِّي لم أبعثْ لعانًا، وإنّما بعثتُ رحمةً” (مسلم).
وقال في أهلِ مكةَ – لما جاءَهُ ملكُ الجبالِ ليأمرَهُ بمَا شاءَ-:” بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ” (البخاري ومسلم).
ولمَّا أُصيبَ في أُحدٍ قال له الصحابةُ الكرامُ ادعُ على المشركين فقالً:” إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي طَعَّانًا وَلَا لَعَّانًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي دَاعِيَةً وَرَحْمَةً، اللهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (شعب الإيمان للبيهقي)
وفي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا . فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ « اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ » ،
ولنا في قصة ثمامه مثال لخلق الرحمة ….
فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال (أسير) ..
فربطوه بسارية من سواري المسجد ،، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم ،، فقال : ما عندك يا ثمامة ؟؟ (يعني إيه حكايتك)
فقال : عندي خير يا محمد ،، إن تقتلني تقتل ذا دم (يعني أنا من قبيلة كبيرة ومش هيسيبوا تاري) ،، وإن تنعم تنعم على شاكر ،، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت .
فتركه النبي حتى كان الغد .. ثم قال : له ما عندك يا ثمامة؟
قال : ما قلت لك فتركه حتى كان بعد الغد .. فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ..
فقال النبي : أطلقوا ثمامة !! فانطلق إلي ماء قريب من المسجد ،، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..
يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي .
وها هو رسول الرحمة ﷺ عامَ فتح مكة يُقابِل أعداءه الذين طردوه وحارَبوه واتهموه في عقله، يُقابِلهم بالرحمة العظيمة التي مُلِئ بها قلبه، فيقول: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وسمَّى ذلك اليوم بيوم المرحمة.
وهكذا شملتْ رحمةُ النبيِّ ﷺ جميعَ أطيافِ المجتمعِ حتى غيرِ المسلمين، فهو ﷺ رحمةٌ للعالمين .
ثالثاً : دعوةْ إلي التخلق بأخلاقه ﷺ .
إنَّنا يجبُ علينَا أنْ نطبقَ أخلاقَ النبي ﷺ عمليًّا على أرضِ الواقعِ، فيجبُ على رؤساءِ المصالحِ ومديرِي المؤسساتِ وأصحابِ المصانعِ والشركاتِ في كلِّ مكانٍ: أنْ يتقُوا اللهَ في الأجراءِ والعاملين، ولا يذيقونَهُم الذلَّ والهوانَ والقهرَ والاستبدادَ، مستغلينَ ضعفَهُم وحاجتَهُم للمالِ، فاللهُ أقدرُ عليكُم منهُم،
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: “كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ” (مسلم).
كما يجبُ على كلِّ مَن يملكُ البهائمَ والدوابَّ والطيورَ، ولا سيَّما في ريفِ مصرَ، فعن صورِ التعذيبِ والضربِ والفجيعةِ حدثْ ولا حرج، فيستغلونَ عدمَ قدرتِهِم على الكلامِ أو الدفاعِ عن النفسِ، ولكنّهَا بلسانِ حالِهَا تشكُو إلى ربِّهَا،
ويجبُ على كلِّ الآباءِ والقائمين على المساجدِ: أنْ لا تطردُوا الصبيانَ مِن المساجدِ أو تعنفوهُم أو تسبوهُم، إنَّهُم فلذاتُ أكبادِكُم فعاملوهُم برفقٍ ورحمةٍ، وعلموهُم واحتضنوهُم، وليكنْ قدوتكُم نبيُّنَا في ذلك، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا» “(البخاري). فأينَ نحن مِن ذلك؟! قارنْ بمَا يحدثُ الآن!
وبعدُ… فهذه دعوةٌ إلى الرحمةِ: رحمةٌ بالكبيرِ، ورحمةٌ بالصغيرِ، ورحمةٌ بالنساءِ، ورحمةٌ بالضعفاءِ، ورحمةٌ بالحيوانِ، ورحمةٌ بالناسِ في قضاءِ مصالحِهِم ولا سيّمَا في المؤسساتِ والمصالحِ الحكوميةِ، وتيسيرِ حاجاتِهِم،
وبالجملةِ: رحمةٌ بجميعِ أفرادِ الأمةِ، فيعيشُ الجميعُ في توادٍّ وتراحمٍ وتعاطفٍ، حتى يتحققَ فيهم قولُهُ ﷺ:
” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” ( البخاري ومسلم )” .