رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فلسفة الرقابة

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فلسفة الرقابة
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرقابة هي الوظيفة الرابعة من وظائف الإدارة، وتعرف بأنها “متابعة تنفيذ العمليات الإدارية والمنفذين لها، وتقويم عملهم أولاً بأول؛ للوصول إلى الهدف المرسوم على أفضلِ وجه، وأقصر وقت، وأكبر دِقَّة، وأقل خطأ وتكلفة”[1].
ويعرفها الدكتور سعود النمر وآخرون بأنَّها: “وظيفة إدارية، وأنَّها مثلُ وظائف الإدارة الأخرى: عملية مستمرة متجددة، يتم بمقتضاها التحقُّق من أنَّ الأداء يتم على النَّحو الذي حددته الأهدافُ والمعايير الموضوعة، وذلك بقياس درجة نَجاح الإدارة الفِعْلي في تَحقيق الأهداف والمعايير بغرض التقويم والتصحيح”[2].
كما ذكر (هنري فايول) أنَّ الرقابةَ “تنطوي على التحقُّق عما إذا كان كلُّ شيء يَحدث طبقًا للخطة الموضوعة، والتعليمات الصَّادرة، والمبادئ المحددة، وأنَّ غَرضها هو الإشارة إلى نقاط الضَّعف والأخطاء؛ بغرض مُعالجتها، ومنع تَكرار حُدوثها، وهي تطبق مع كلِّ شيء: الأشياء، والناس، والأفعال”[3].
أمَّا الرقابة في “الإدارة الإسلامية”، فيعرفها الدكتور حزام المطيري بأنَّها: “تلك الرقابة الشاملة، سواء كانت علوية، أم ذاتية، أم إدارية (رئاسية)، أم خارجية، والتي تَسعى إلى التأكُّد من أنَّ الأهدافَ المرسومة، والأعمال المراد تنفيذُها قد تَمَّت فعلاً وفقًا للمعايير والضوابط الشرعية الإسلامية”[4].
أنواع الرقابة
في الإدارة الإسلامية يمكن تمييز أربعة من أنواع الرقابة، وهي:
أولاً: الرقابة الربَّانية.
ثانيًا: الرقابة الذاتية.
ثالثًا: الرقابة الرئاسية.
رابعًا: رقابة الحسبة.
أولاً: الرقابة الربَّانية:
ويطلق عليها بعض الكتَّاب “الرقابة العلوية”، وهي رقابة الله – عزَّ وجل – لعباده ومخلوقاته، فالله – سبحانه وتعالى – رقيبٌ على جميعِ الخلق، يَعلم سِرَّهم وعلانِيَتهم، ظاهرهم وباطنهم، وما تُخفيه صدورهم من خيرٍ أو شر، فالإنسانُ المؤمن كلما زاد إيمانُه بالله – عزَّ وجل – زاد إيمانه بأهميةِ رقابة الله – سبحانه وتعالى – مِمَّا يَدفعه إلى مَخافة الله؛ طمعًا في ثوابه، وخوفًا من عقابه[5]؛ يقول – تعالى -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52]، ويقول في آية أخرى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، ويقول – عزَّ وجل -: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]؛ لهذا فالرقابة الربانيَّة هي أساسُ الرقابة في الإدارة الإسلامية، وهي رقابة أزلِيَّة ودائمة، مصدرها الله – سبحانه وتعالى – عكس الرقابة الوضعية، التي هي من صُنع البشر، وترتبط بمدى إيمان الإنسان المسلم بالله – عزَّ وجل – وقدرته، وإذا رجعنا إلى السُّنة النبوية نَجدها أيضًا زاخرةً بالأحاديث، التي تؤكِّد على الرقابة الربانية أو العلوية، منها قول الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))[6]، وقوله: ((لا تزول قدما ابن آدمَ يومَ القيامة من عند ربه حتى يُسْأَل عن خمس: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيماعلم؟))[7].
ثانيًا: الرقابة الرئاسية:
وهذا النوع من الرقابة حسب التدرُّج الرئاسي، قال – تعالى -: {﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾ [الزخرف: 32]، وتتضح الرقابةُ الرِّئاسِيَّة في قول الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((كلكم راعٍ، وكلكم مَسؤول عن رعيته، فالإمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده، ومسؤول عن رعيته، ألاَ كلكم راعٍ، ومسؤول عن رعيته))[8].
وقد كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يراقب ولاته وعمَّاله، رَغم أنَّ صحابته من المشهود لهم بالرقابة الذاتية، فهم يخافون الله في السرِّ والعلانية، إلاَّ أن الإنسان مخلوق ضعيف، ليس معصومًا من الخطأ.
وقصة الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع ابن اللُّتْبِيَّةِ مَشهورة، فقد جاء في الصحيحين أن أبا حميد الساعدي قال: “استعمل النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – رجلاً من الأزد، يقال له ابن اللُّتْبِيَّةِ على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إليَّ، فقال النبي – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((ما بالُ الرجلِ نستعمله على العمل بما ولاَّنا الله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، أفلا قعد في بَيْتِ أبيه وأمه، فنظر أيُهْدَى إليه أم لا، والذي نفسي بيده، لا يأخذ منه شيئًا إلاَّ جاء به يومَ القيامة يَحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعِر، ثم رفع يديه، وقال: ((اللهم هل بلغت ثلاثًا))[9]، وقوله: ((من استعملناه منكم على عمل، فكتَمَنا مخيطًا فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يومَ القيامة))[10].
أمَّا الخليفه أبو بكر الصديق، فكان يقومُ بزيارَاتٍ تَفقدية للمُدن الإسلامية، فذهب إلى مكة بعد مُبايَعَتِه في المدينة، وبعد أنْ طاف بالبيت، جلس قريبًا من دارِ النَّدوة، فقال: هل من أحد يَشتكي من ظلامة أو يطلب حقًّا؟ فما أتاه أحد، وبهذا اطمأن على الرَّعِيَّة، وأنَّهم بخير وراضون عن واليهم، ومن مَواقفه – رضي الله عنه – مُحاسبته لمعاذ بن جبل الصحابي الجليل، عندما قدم من اليمن بعد وَفاة الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – حيث قال: “ارفع حسابك”، فقال معاذ: “حسابان: حساب من الله، وحساب منك”[11].
أمَّا الخليفة عمر بن الخطاب، فيتجلى أسلوبه الرقابي الرئاسي في الأعمال التالية[12]:
1- مُحاسبة الوُلاة والعُمَّال عند انتهاء عملهم أو خدماتِهم، ومن الصَّحابة الذين حاسبهم – رضي الله عنه – أبو هريرة عامله على البحرين، وأبو موسى الأشعري عامله على البصرة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة… وغيرهم.
2- اتباع أسلوب التفتيش وتقصي الحقائق في بعض القضايا، منها شكوى أهل حمص واليهم سعيد بن عامر؛ حيث ذكروا عنه أنَّه لا يَخرج للناس حتى يرتفعَ النهار، ولا يُجيب أحدًا بليل، وله في الشهر يوم لا يخرج فيه، وقد أثبت التحقيق فيما بعد إخلاصه ونزاهته، وكذلك إرساله لمحمد بن مسلمة إلى الكوفة للتحقيق في القصر الذي بناه سعد بن أبي وقاص؛ حيث أصبح يسمى قصر سعد، وأمره بأنْ يَحرق بابه، ففعل ذلك، ثم أرسله مرة أخرى نتيجة شكوى جاءته بأنَّ سعدَ بن أبي وقاص لا يقسم بالعدل والسويَّة، فلما حقق محمد بن مسلمة في الموضوع وجد أن الناسَ راضون عنه.
3- الزيارات التفقدية للشام؛ للتعرُّف على أحوال ولاتها، وتنظيم أموالها بعد طاعون عمواس، الذي فتك بالمسلمين، ويقال: إنَّه استقبل بطريقة فيها شيء من الأبهة، فغضب منهم ورماهم بالحجارة، إلاَّ أنَّ مُعاوية برَّر ذلك بتبريرٍ قَبِله الخليفة، وعندما وجد عمر أنَّ هذه الزيارة مفيدة مثمرة، عقد العزم على القيام بزيارةِ جميع الولايات الإسلامية.
4- مُقابلة الولاة والعمال في مَوسمِ الحج؛ حيث أمر عمرُ ولاتَه وعماله أن يلتقوا به في مؤتمر سنوي في مَوسم الحج؛ للمُحاسبة وتدارُس الأمور.
وقد اتَّبع الخليفةُ عثمان بن عفان أسلوبَ عمر بن الخطاب، من حيث إرسال مَن يتقصَّى الحقائقَ، والاهتمام بالزيارات الميدانية للتفتيش، والاستفادة من مَوسم الحجِّ الذي يُعَدُّ بِمَثابة مؤتمر سنوي، كما كان الخليفة علي بن أبي طالب يقوم بما يشبه ذلك، وقد مَرَّ بنا خطابه المشهور للأشتر النخعي حين ولاَّه على مصر.
ثالثًا: الرقابة الذاتية:
ويعرفها عبدالرحمن الضحيان بأنَّها: “رقابة الموظف على نفسه مؤمنًا ومستشعرًا رقابة الله – تعالى – وأنَّ ما يقوله وما يعمله مسجَّلٌ له أو عليه؛ لذا فهو يُراجِع أقوالَه وأعماله، ويزنُها بميزان الشرع الإسلامي”[13]، كما يعرفها مَحمود عساف بأنَّها “رقابة تنبع من داخل النفس الإنسانية؛ خشيةَ غضب الله، وسعيًا إلى مرضاته، والعمل على راحة النفس، وهي رقابة الضمير، وفي هذا يقول الله – تبارك وتعالى -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 – 10]، فإذا كان ضمير المسلم مسيطرًا على أعماله وأقواله وفكره، فإن الرقابة الإدارية، ورقابة المجتمع، ورقابة القضاء – تتقلص إلى أدنى حد”[14].
والرقابة الذاتية من الصِّفات الفريدة التي تتميز بها الإدارة الإسلامية، ويُرجع فهد السلطان هذه الصفةَ التي تتميز بها الإدارة الإسلامية إلى مبدأ عظيمٍ يشمل الأعمال الإدارية وغيرها من الأعمال الفردية والجماعية، وهذا المبدأ هو أنَّ وجود الإنسان في هذه الحياة أساسًا لعبادة الله – عزَّ وجل – ومن ثَمَّ فإن كلَّ أعماله وأفعاله – بما فيها الأعمال الإدارية – عبارة عن ابتلاء من الله – عزَّ وجل – لِمَعرفة مدى طاعته لأوامره واجتنابه لنواهيه، ومِنْ ثَمَّ محاسبته على أعماله من قِبل خالقه خَالِقِ هذا الكون[15].
وقد عَدَّ محمد طاهر عبدالرحمن الرقابةَ الذاتية بمثابة خطِّ الدفاع الأول في مواجهة الانحراف الإداري، وذلك بقوله: “تَجرى الرقابة الإدارية الذاتية من خلال قيامِ عضو الإدارة الموظف بإعادة النظر في أعماله وتصرُّفاته الإدارية التي أنهاها؛ ليتحقق بنفسه من مدى مشروعيتها، وعدم مُخالفتها لقواعدِ وأحكامِ الشريعة الإسلامية، ويهتم النظام الإداري الإسلامي بهذا النوعِ من الرقابة الإدارية اهتمامًا كثيرًا، ويعده خَطَّ الدِّفاع الأول في مُواجهة الانحراف الإداري” [16].
والرقابة الذاتية هي رقابةُ الموظف لنفسه في سِرِّه وعَلانيته، يَحدوه في ذلك مَخافة الله في أعماله، والله – تعالى – لا يَعزُب عن علمه شيء، بل يعلم السرَّ وما خفي في الصدور، وأنَّ الموظفَ إذا آمن بقدرة الله عليه، وبأنه يُراقبه في أعماله ويُحاسبه عليها، هانتْ عليه وصغرت أمامه جميعُ أنواع الرقابة[17]، والقرآن الكريم يزخَر بالآيات التي تُؤكِّد على إحاطة الله – عزَّ وجل – بكل أعمال وأفعال المخلوق؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وقوله – تعالى -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، وقوله: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران: 156]، وقوله: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 – 8].
وقد كانت الرقابة الذَّاتِيَّة في عهد الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – واضحة وجلية، فهو القدوة الحسنة؛ لشِدَّة خشوعه وخوفه من الله – عزَّ وجل – حيث كان يقوم الليلَ حتى تتفطر قدماه، فلما سألتْه عائشةُ – رضي الله عنها -: “لِمَ تصنع هكذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا))”.
ولقد عمل الرسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – على ترسيخِ الرقابة الذاتية في نفوس المسلمين، وتربَّى أصحابُه على توجيهاتِه وتَعليماته، ومن التوجيهات في هذا الشأن قوله – عليه الصَّلاة والسَّلام – لابن عباس – رضي الله عنهما -: ((يا غلام، إنِّي أعلمك كلمات: احفظ الله، يَحفظك، احفظ الله، تَجده تُجاهَك، إذا سألتَ، فاسألِ الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أنْ يَضروك بشيء، لَم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصُّحف))[18].
وتتجلى الرِّقابة الذَّاتِيَّة فيما ما يُروى عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – عندما كان يفتش جيشه، فوجد جنديًّا خارجًا عن الصف، فوكزه في بطنه؛ ليستقيمَ مع الصف، فتأَلَّم الجندي، فما كان من النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلا أنْ طلب من الجندي أن يقتصَّ لنفسه، وكشف بطنه له، فبادر الجندي إلى تقبيل بطنِه – عليه الصَّلاة والسَّلام – وقد أطلق الضحيان[19] على هذا النوع من الرقابة: الرقابة الذاتية التلقائية؛ حيث كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – وهو الرئيس الأعلى قدوةً للمسلمين حين مَكَّن صاحبَ المظلمة من القصاص منه، على الرغم من أن ذلك العمل كان على سبيل التوجيه للجند، والحزم في مواقف الجِدِّ.
ولقد سار على مَنهجِ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – الخليفةُ أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وقد اتَّضح ذلك من الخطبة التي ألقاها عند توليه الخلافة، وقد سبق ذكرها؛ حيث وضح فيها أسلوبه، الذي ينبع من المنهج الإسلامي في الرقابة الذاتية، التي يَجب أن تتوفر في الوُلاة والعُمَّال، أمَّا الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فتتجلى الرقابة الذاتية عنده من خطبته التي ألقاها، عندما اختير خليفةً؛ حيث جاء فيها: “ثم إنِّي وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أنَّ تلك الشدة قد أضْعِفت، ولكنَّها إنَّما تكون على أهلِ الظُّلم والتعدي على المسلمين، فأما أهلُ السلامة والدين والقصد، فأنا ألينُ لهم من بعضهم لبعض، فلستُ أدَعُ أحدًا يظلم أحدًا، أو يَعتدي عليه، حتى أضَعَ خَدَّه على الأرض حتى يذعن للحق، وإنِّي بعد شدتي تلك أضَعُ خدي على الأرض لأهل العفاف والكفاف…”[20].
ويُروى عن عمر – رضي الله عنه – أنَّه اتَّخذ قرارًا بمنع المغالاة في المهور، فاحتجَّتْ عليه امرأة بقول الله – تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [النساء: 20]، فما كان منه إلاَّ أن رجع عن قراره بعد أنْ سَمِعَ كلامها، وقد عَدَّ الضحيان[21] هذا العمل نوعًا من الرقابة الذاتية؛ بناءً على تظلُّم المظلوم، وهي – أي: الرقابة الذاتية – من المزايا العظيمة التي يتميَّز بها هذا الدين العظيم، باعتبارها وازعًا دينِيًّا لا يوجد في الأنظمة الوضعية الأخرى، التي هي من وضع الإنسان، وقابلة للتبديل والتغيير.
رابعًا: الحسبة:
وقد أطلق عليها بعضُ الكُتَّابِ: الرقابَةَ الشعبية، والحسبة تعني: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وهناك في الإسلام نوعان من المحتسبين:[22]
الأول: المحتسب الرسمي، الذي تعينه الدولة الإسلامية للقيام بالمهام الموكلة إليه.
والثاني: المحتسب المتطوع، وهو مَن يرى أنَّ قولَ كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – واجبٌ في غياب المحتسب الرسمي؛ قال – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، وقال الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((الدين النصحية))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[23]، كما قال الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإِنْ لَم يستطع، فبقلبه، وذلك أَضعف الإيمان))[24].
ولقد عرف الماوردي الحسبة بأنَّها: “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونَهي عن المنكر إذا ظهر فعله”[25]، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن: “الأمر بالمعروف والنَّهيُ عن المنكر هو الذي أنزل الله به كُتُبَه، وأرسل به رُسُلَه، وهو الدين، فإنَّ رسالة الله إخبار وإنشاء؛ فالإخبار: عن نفسه، وعن خلقه، مثل التوجيه والقصص، الذي يندرج فيه الوَعْد والوعيد، والإنشاء: الأمر، والنهي، والإباحة…”[26].
ومن المفاهيم المعاصرة للمُحتسب ما ذكره مُحمد الأغبش: “فالحسبة كنظام رقابي في الدولة الإسلامية تستهدف الحفاظَ على الشرعية الإسلامية في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ تقويمًا لسلوك الأفراد، سواء كانوا موظفين أم مواطنين عاديِّين، وهو ما يقابل دَوْرَ المدعي العام في الدول الاشتراكية”[27].
________________________________________
[1] عبدالرحمن الضحيان، “الرقابة الإدراية: المنظور الإسلامي المعاصر، والتجربة السعودية”، ص21.
[2] سعود بن محمد النمر وآخرون، “الإدارة العامة: الأسس والوظائف”، مرجع سابق ص295.
[3] بشير عباس العلان، “الإدارة: مبادئ، وظائف، تطبيقات”، ص157.
[4] حزام ماطر المطيري، مرجع سابق، ص192.
[5] د. عبدالله عبدالرحمن الفايز، “الفكر الإداري في الإسلام، وانعكاساته على الإدارة التربوية”، مرجع سابق، ص113-114.
[6] رواه الترمذي.
[7] رواه الترمذي.
[8] رواه الشيخان.
[9] صحيح البخاري.
[10] صحيح مسلم.
[11] حزام ماطر المطيري، مرجع سابق، ص204.
[12] المرجع السابق، ص207، 209.
[13] عبدالرحمن الضحيان، “الرقابة الإدارية: المنظور الإسلامي المعاصر، والتجربة السعودية”، ص92.
[14] محمود عساف، “المنهج الإسلامي في إدارة الأعمال”، ص100.
[15] فهد صالح السلطان، “النموذج الإسلامي في الإدارة: منظور شمولي للإدارة العامة”، مرجع سابق، ص128.
[16] د. محمد طاهر عبدالرحمن، “الرقابة الإدارية في النظام الإداري الإسلامي”، ص245 – 246.
[17] د. عبدالرحمن الضحيان، “الإدارة في الإسلام: الفكر، والتطبيق”، مرجع سابق، ص129.
[18] سنن الترمذي.
[19] عبدالرحمن ضحيان، “الرقابة الإدارية”، مرجع سابق، ص285.
[20] أكرم رسلان ديرانية، “الحكم والإدارة للإسلام”، مرجع سابق، ص93.
[21] عبدالرحمن الضحيان، “الرقابة الإدارية”، مرجع سابق، ص67.
[22] عبدالرحمن الضحيان، مرجع سابق، ص90.
[23] رواه مسلم وأبو داود.
[24] رواه مسلم.
[25] الماوردي، مرجع سابق، ص299.
[26] حزام ماطر المطيري، مرجع سابق، ص215.
[27] محمد رضا الأغبش، “مبادئ التخطيط الإداري في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة”، ص453.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *