مكانة الصين فى الشرق الأوسط لدعم نظام دولى متعدد الأقطاب وتحجيم الهيمنة الأمريكية عالمياً

مكانة الصين فى الشرق الأوسط لدعم نظام دولى متعدد الأقطاب وتحجيم الهيمنة الأمريكية عالمياً

تحليل للدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
تتلخص الإستراتيجية الصينية فى منطقة الشرق الأوسط والعالم من خلال مبدأ الإقتصاد يقود السياسة، وهو ما إتضح من خلال نجاح مبادرة الحزام والطريق الصينية فى تعزيز الوجود السياسي الصينى الحتمى فى المنطقة تبعاً لمبادرتها الإقتصادية للحزام والطريق، لذا بات التعويل عليها كثيراً لتعزيز الوجود السياسى للصين فى الشرق الأوسط، ولاسيما فى دول الصراع فى المنطقة، كالعراق، سوريا، لبنان، اليمن. وهنا تطرح الصين نفسها كلاعب أساسى فى منطقة الشرق الأوسط، وذلك فى إطار نظام تسعى فيه كافة القوى الدولية بإستثناء الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن يكون نظاماً دولياً متعدد الأقطاب. فالتدخل الصيني بالمنطقة لم تعد مسألة إختيارية فى حقيقة الأمر لبكين، بل بات مسألة ضرورية لحماية مصالحها مع حصول الصين على أكثر من نصف وارداتها النفطية من منطقة الشرق الأوسط وإيران، والتى تأتى أغلبها من دول الخليج العربى. لذا تأتى رغبة الصين القوية في توطيد وتوسعة علاقاتها التجارية بالمنطقة كغطاء أولى للإنخراط الأمنى والسياسى بكثافة. وهذا الوجود الصينى المتزايد فى منطقة الشرق الأوسط من خلال مبادرتها للحزام والطريق أتى تدعيماً وتعزيزاً لسياسة الصين بالتقدم غرباً كإستراتيجية أمن قومى بالنسبة لبكين تتيح لها تحقيق توازن إقليمى داخلى عن طريق التوجه شرقاً وغرباً لإختراق عمق سياسة التطويق البحرية الأمريكية فى منطقة المحيطين الهندي والهادئ أو الإندو-باسيفيك بالمفهوم الأمريكى وآسيا المحيط الهادئ بالمفهوم الصينى. ومن هنا بدأت الصين بالفعل فى تنفيذ مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق لإعادة إعمار عراق وسوريا ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية لداعش، وربط كلاً من العراق وسوريا بطريق الحرير الصينى الجديد. مع حرص الصين كذلك على المشاركة عبر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة فى لبنان، وتعيين عدداً من المستشارين العسكريين للصين في سوريا.
وبعد إقرار الصين أول قانون لمكافحة الإرهاب فى الدولة الصينية فى ديسمبر ٢٠١٥، مهد ذلك لها الطريق لمشاركة عسكرية نشطة فى بعثات مكافحة الإرهاب فى الداخل والخارج، وعلى الأخص بمنطقة الشرق الأوسط. لذا جاء دعم الصين لجهود العراق فى حربها ضد تنظيم داعش الإرهابى، من خلال تبادل المعلومات وتقديم التدريب بين بكين وبغداد. بالإضافة إلى ذلك، توسع التعاون العسكرى الصينى مع إيران، بإجراء الدولتين عدة تدريبات عسكرية مشتركة. كما عقدت الصين تدريبات عسكرية مشتركة كذلك لمكافحة الإرهاب مع المملكة العربية السعودية فى مدينة تشونغتشينغ الصينية تلتها الإمارات ودول عربية أخرى.
ومن هنا جاء تعهد الرئيس الصينى “شي جين بينغ” فى شهر يوليو ٢٠١٨، بضخ ٢٣ مليار دولار في شكل قروض مساعدات لعدة دول عربية، في خطوة تعكس إنخراطاً صينياً أوسع في ملفات سياسية بالشرق الأوسط من بوابة الإستثمار الخارجي والمساعدات الإنسانية. وأكد الرئيس الصيني أمام مؤتمر شارك فيه ممثلو ٢٢ دولة عربية في العاصمة الصينية بكين خلال شهر يوليو ٢٠١٨، بأن القروض الصينية لهم، ستخصص لمشاريع ستوفر فرص عمل جيدة وسيكون لها تأثير إجتماعى إيجابى فى عدة دول عربية لديها حاجات لإعادة الإعمار، كالعراق وفلسطين وسوريا واليمن. وهنا أبدت بكين فى أوج الحرب السورية عن إستعدادها للمساعدة في التوصل إلى حل سياسي وشكلت إلى جانب موسكو جبهة معارضة داخل مجلس الأمن لمشاريع قرارات أمريكية وأوروبية ضد النظام السوري، وهو ما شكل وقتها بداية لإنفتاح صينى قوى على القضايا الإقليمية والدولية فى المنطقة. ومن هنا بات التركيز الصينى على إستثمار جوانب ضعف النفوذ الأمريكى فى المنطقة نتيجة الحرب الأمريكية الفاشلة فى العراق وأفغانستان، والفشل فى إيجاد تسوية للصراع العربى – الإسرائيلى، والموقف الشعبى المعادى للولايات المتحدة الأمريكية فى كافة أنحاء الوطن العربى، وذلك للحد من النفوذ الأمريكى وتوسيع دائرة النفوذ الصينى فيه.
وفي وجه النزاعات والصراعات المتشابكة والمعقدة في منطقة الشرق الأوسط، تلعب الصين بنشاط دورها كدولة مسؤولة كبيرة، وتطبق بجدية (المفهوم الصينى الجديد للأمن المشترك والمتكامل والتعاوني والمستدام)، وذلك من خلال العمل على تعزيز التعاون والتنسيق مع الدول العربية، للدفع نحو إيجاد حل سياسى للقضايا الساخنة فى المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهنا يشمل ذلك الإنخراط الأمنى للصين فى المنطقة هو ذلك الدعم الصينى المتواصل لمواقف “الجامعة العربية” حول النزاع الإسرائيلى – الفلسطينى، فإحدى عادات الصين للتصويت فى الأمم المتحدة، هى دعم جميع القرارات المعادية لإسرائيل والوقوف لصالح القضية الفلسطينية فى مواجهة الإسرائيليين. كما إستطاعت الصين أن تضمن لنفسها مكاناً كبيراً فى منطقة الشرق الأوسط كوسيط ذو نفوذ عالمى كبير، مما هدد الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ويأتى نجاح بكين فى إعادة العلاقات بين الغريمين الإقليميين: السعودية وإيران، وإتفاقهما على إعادة فتح السفارتين بعد سبع سنوات على القطيعة، بمثابة نجاح دبلوماسى وإنخراط أمنى صينى كبير فى المنطقة ومهدداً حقيقياً للهيمنة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط والخليج العربى.
كما تحركت الصين بالفعل ناحية العديد من بلدان المنطقة فى إطار مبادرتها للحزام والطريق، خاصةً تحركها الإستراتيجى المحسوب نحو لبنان والإستحواذ الصينى على مشاريع إقتصادية ضخمة فيه، وذلك ضمن مسار بكين الأوسع للدخول إلى عمق منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد مناشدة الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” فى نوفمبر ٢٠١٩ للصين لإنقاذ لبنان الذى يعانى إقتصاده من تدهور كبير. وقد إمتد ذلك الدعم الصينى كذلك إلى سوريا والرئيس “بشار الأسد”، حيث سعت روسيا منذ فترة طويلة للحصول على دعم صينى لإعادة إعمار سوريا. كما عينت الحكومة الصينية مبعوثها الخاص للمسألة السورية عام ٢٠١٦، والذى عمل على الإتصال بكافة الأطراف المعنية بالمسألة السورية وبذل جهوداً كبيرة لدفع مفاوضات السلام بين الأطراف المتصارعة، مما أسهم بالحكمة والحلول الصينية فى حل المسألة السورية. كما إمتد النفوذ الصينى فى الوقت الحالى لدوائر أخرى كالأردن، خاصةً مع توقيع الصين على إتفاقية لتشييد وصيانة (المفاعل النووى الأردنى)، وهو ما يمكن إعتباره بمثابة خطوة كبيرة ومهمة من وجهة نظرى لتعزيز التواجد الصينى فى كل بلدان المنطقة. كما زادت وتيرة العلاقات العسكرية بين الصين وبلدان المنطقة، من خلال تقديم الصين للعديد من أنظمة التسلح الجديدة لبلدان الشرق الأوسط، حتى وإن كان ذلك على نطاق ضيق. كما عملت الصين من خلال جيش التحرير الشعبى الصينى على توفير تدريب عسكرى للجيش السعودى، وعمل الشئ نفسه مع الجيش الإماراتى.
وحتى على المستوى الثقافى، جاء إلتزام الصين بالتعاون الثقافى مع كافة بلدان الشرق الأوسط فى إطار ما يعرف بالقوة الناعمة، مكملاً لجهودها السابقة فى دائرة الإنخراط الأمنى والسياسى فى الشرق الأوسط، وهو ما إتضح من مشاركة الصين فى العديد من المبادرات الثقافية والأكاديمية فى المنطقة، مثل: (السنة الصينية – العربية، ومركز الأبحاث الصينى – العربى، برنامج “ترجمة كتاب طريق الحرير”، برامج التبادل للباحثين، والمنح الدراسية للطلاب العرب والفنانين لزيارة الصين والدراسة فيها)، وغيرها. كما طرحت الصين عدة مبادرات عملية فى مفهوم (الأمن العالمى والإقليمى)، وعلى رأسها “مبادرة الأمن العالمى” فى إبريل ٢٠٢٢، والتى تنص على إحترام مصالح جميع الأطراف وتراعيها، وهى تصرح من حين إلى آخر بأنه لا يمكن الوصول إلى الأمن العالمى من دون تحقيق الأمن فى منطقة الشرق الأوسط بالأساس.
ومن هنا نصل لنتيجة هامة مفادها، بوجود علامات بارزة على التغييرات فى مشاركة بكين بكثافة فى منطقة الشرق الأوسط فى ظل إدارة الرئيس “شى جين بينغ” وإستمراريتها فى العصر الجديد، وهو ما حاولت الصين تطبيقه بعد نجاح المؤتمر الوطنى العشرين للحزب الشيوعى الحاكم فى بكين فى ١٦ أكتوبر ٢٠٢٢، من خلال لعب دور أكثر مصداقية وثقة لدى جميع الأطراف المعنية فى الشرق الأوسط. والحفاظ على “علاقات متوازنة” مع الجميع، وإنتهاج سياسة خارجية سلمية مستقلة بثبات، فضلاً عن تأكيدها منهج عدم التدخل فى الشؤون الداخلية لأى دولة أخرى، وخلو تاريخها من الإستعمار أو التدخل فى شؤون الشرق الأوسط. لذلك، تنظر إليها دول المنطقة جميعاً بصفتها مقدماً للحلول الأمنية عند السعى لإحلال السلام بين بلدان المنطقة، وهو ما تمثل فى ذروة النجاح الدبلوماسى لبكين من خلال إتمام المصالحة السعودية الإيرانية فى المنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *