نسائم الإيمان ومع الإمام البزار
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
الإمام الجليل أبو بكر البزار هو أحد الرجال الذين حفظ الله على أيديهم سنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأحد علماء الحديث الذين بذلوا كل جهودهم لبيان صحيح السنَّة من سقيمها، ومن آثاره في ذلك مسنده الكبير الذي ألفه وسماه البحر الزاخر وبيَّن فيه علل الأحاديث.
فهو الشيخ الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، المعروف بالبزّار، وهو من علماء الحديث بالبصرة ، وهو صاحب المسند الكبير، ولقد سمع البزار الحديث من نخبة كبيرة من المحدثين في عصره وروى عنهم .
والإمام البزار هو صاحب المسند المعلل ، فبعد تطواف في جمع السنة وخدمتها ، استقر في أواخر عمره في مصر ، وكان من أشهر أئمة النقد بها ، حتى جاءها الإمام النسائي وهو أجل من البزار علما ، وخاصة في علم علل الحديث .
وقيل أنه بلغت النسائي بعض أخطاء البزار ، فأنكرها عليه ، وكأنه اشتد عليه ، فانتصر طلبة العلم من أهل مصر للنسائي ، وأساؤوا للبزار ، وما حفظوا حقه فيهم ، حتى يقال إنهم طردوه من الجامع الذي كان يعلمهم فيه ، وغسلوا مكان جلوسه ، وكأنه نجس .
ويقال خرج البزار من مصر غاضبا على أهلها ، منتقصا لهم ، وحلف أن لا يحدثهم ، وخرج إلى الرملة في فلسطين مغموما ، وحدث أهلها ، ثم مات بعد سنتين من خروجه .
ولم يذهب هذا الظلم للبزار هدرًا ، ومع أن الإمام النسائي كان متأولا فيما قال ، لكنه خرج في آخر حياته إلى دمشق ، وحدث أهلها بخصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان في أهل دمشق نصب أى بغض لآل البيت ، فطلبوا منه أن يحدثهم بفضائل معاوية رضي الله عنه ، فرفض ذلك .
وذلك كله في قصة مشهورة ، لأنه لم يكن يصحح حديثًا خاصا في فضائله ، فقاموا بضربه ، حتى كاد يهلك ، فحملوه إلى الرملة ، فمات بها ، فكما تدين تدان ،وهذا ما أشبه ما فعل أهل دمشق بالنسائي بما فعل أهل مصر بالبزار بسببه .
وقال مغلطاي : كان أحفظ الناس للحديث، حج بعد الخمس وثمانين، فدخل إلى مصر ، في رجوعه من الحج فأقام بها إلى سنة تسعين، وأملى مسند الحديث، فبين الصحيح وتكلم على السقيم، ثم اختلف هو والنسائي، فخرج منها متنقصا لأهلها وحلف ألا يحدثهم، فنزل الرملة فكتبوا عنه حتى مات في سنة اثنتين وتسعين ومائتين .
وهناك قصه عجيبه مع الإمام البزار وهى قصة العقد المفقود ، وهى في كتاب ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز المشهور بقاضي المارستان، الحافظ المتوفي عام خمسمائه وخمسه وثلاثين للهجرة، وقعت له قصة عجيبة فيها أيما عبرة، فقد قال : كنت مجاورا مكة حرسها الله فأصابني يوم من الأيام جوع شديد ولم أجد شيء ادفع به عني ذلك الجوع وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد .
فوجدت كيسا من حرير مشدودا برباط من حرير . قال : فأخذته وجئت به إلى بيتي وحللته فوجت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله قط ، قال : فربطته وأعدته كما كان ثم خرجت أبحث عن طعام فإذا بشيخ ينادي ويقول : ومن وجد كيسا صفته كذا وكذا وله خمسمائة دينار من الذهب .
فقلت في نفسي : أني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد له كيسه ، فقلت : له تعالى إليّ ، قال : فأخذته إلى بيتي وسألته عن علامة الكيس وعلامة اللؤلؤ وعدد الؤلؤ المشدود به ، فإذا هو كما كان ، قال : فأخرجته ودفعته إليه ، فسلم إليّ خمسمائة دينار الجائزة ، التي ذكرها .
فقلت له : يجب علي أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاء ، فقال لا بد أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا وأنا أحوج ما أكون ، قال : فقلت : والذي لا إله إلا هو ما آخذ عليه جزاء من أحد سوى الله ، فلم أقبل الدنانير ، فتركني ومضى ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده ، وأما ما كان منى ( الكلام للإمام البزاز ) فإنني خرجت من مكة وركبت البحر وسط أمواجه المتلاطمه وأهواله .
وتكسر المركب وغرق الناس وهلكت الأموال ، قال : وسلمني الله ، إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسره ولا أدري إلى أين تذهب بي ، وبقيت مدة في البحر يتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى قذفني إلى جزيرة فيها أميّون لا يقرؤون ولا يكتبون .
قال : فجلس في مسجدهم وقمت أقرأ ، قال : فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا علي فلم يبق في الجزيرة أحدا إلا قال علمني القرآن ، قال : فعلمتهم القرآن وحصل إليّ خير كثير من جراء ذلك ، قال : ثم رأيت في المسجد مصحفا ممزقا فأخذته وأوراقه لأقرأ بها : فقالوا : أتحسن الكتابه ، فقلت نعم ، قالوا : علمنا الخط .
فقلت : لا بأس ، فجاؤوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم ، وحصل لي خير كثير ورغبوا فيه ،فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم ، عندنا جارية يتيمة ومعا شيء من الدنيا ونريد أن نزوجها لك وتبقى معنا في هذه الجزيرة ، وقال : فتمنعت ، فألحوا عليّ وألزموني فلم أجد أمامي إلا ألحاحهم وإصرارهم ، فأجبت طلبهم .
فجهزوها لي وزفها محارمها ، وجلست معهم وإذا بي أنظر إليها وإذا العقد الذي رأيته بمكة بعينه ، معلقة بعنقها ، دهشت وما كان لي بشغل إلا النظر إلى العقد فقال محارمها : يا شيخ كسرت قلب اليتيمة لم تنظر إليها وإنما تنظر إلى العقد .
قلت : إن في هذا العقد قصة ، وقالوا ما هي قصته ، فقصصتها عليهم ، فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة ، فقلت سبحان الله ما بكم ، قالوا إن هذا الشيخ الذي رأيته وأخذ العقد في مكة هو أبو هذه الصبية .
وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائما : والله ما رأيت على وجه الأرض مسلما كهذا الذي رد علي العقد بمكة ، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي ، وتوفي ذلك الرجل وحقق الله دعوته .
يقول : فبقيت معها مدة من الزمن فكان خير امرأة ورزقت منها بولدين ثم توفيت فعليها رحمة الله فورثت العقد المعهود أنا وولداي ، وقال : ثم توفي الولدان واحدا واحدا قال : فورثت العقد منهم قال : فبعته مئة ألف دينار ، ويحدث بعد مدة ويقول هذا من بقايا ثمن العقد فرحمهم الله جميعهم.
وارتحل البزار في شيخوخته ناشرًا لحديثه، فحدَّث بأصبهان وبغداد واجتمع عليه حفاظها، وتبركوا من يديه، وكتبوا عنه، ثم خرج إلى مصر ومنها إلى مكة وظل بها عدة أشهر، ثم خرج إلى الرملة وفيها أدركته وفاته، فمات سنة مائتين واثنين وتسعين من الهجره