نسائم الإيمان ومع الحجاج بن يوسف الثقفى ( الجزء الثالث )

إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى

نكمل الجزء الثالث مع الحاج بن يوسف الثقفى والذى ولد في سنة مائه وواحد وستين ميلادى، ونشأ في ظل عائلة كريمة من عائلات ثقيف، وكان والده رجلا مميزا، إذ كان مطلعا على العلم وفضائل الآداب، حتّى أنه كرّس حياته لتعليم أبناء الطائف القرآن الكريم، دون تلقي أجر على عمله هذا، ومن هذا المنطلق حفظ الحجاج كتاب الله على يد والده، ثم ولج إلى حلقات أئمة وكبار العلم من الصحابة والتابعين.

أمثال: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، وبعد ذلك انخرط في تعليم الصبيان شأنه في ذلك مثل شأن والده، وقد أثرّت نشأة الحجاج في الطائف على فصاحته، فقد اتصل بقبيلة هذيل التي كانت تُعد أفصح العرب، وبرع في مجال الخطابة، وفي عام سته وسبعين من الهجره، وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي لقتال شبيب الشيباني، فكانت الغلبة لشبيب، وفي السنة التي تليها بعث الحجاج لحرب شبيب: عتاب بن ورقاء الرباحي، والحارث بن معاوية الثقفي، وأبو الورد البصري، وطهمان مولى عثمان.

فاقتتلوا مع شبيب في سواد الكوفة، فقتلوا جميعا، وعندها قرر الحجاج الخروج بنفسه، فاقتتل مع شبيب أشد القتال، وتكاثروا على شبيب فانهزم وقتلت زوجته غزالة، الحرورية وكانت تقود النساء الخارجيات، ويروى أنها نذرت أن تصلي ركعتين في مسجد الكوفة والحجاج بها تقرأ فيهما سورتي البقرة وآل عمران ووفت بنذرها في حماية 70 من جند الخوارج ولم يستطع الحجاج منعها وقيل في ذلك الكثير من أبيات الشعر .

ومن أشهرها: “وفت غزالة نذرها رب لا تغفر لها”، فهرب شبيب إلى الأهواز، و تقوى فيها، غير أن فرسه تعثر به في الماء وعليه الدروع الثقيلة فغرق، وقضى الحجاج على من بقي من أصحابه، وفي تسعه وسبعين أو عام ثمانين من الهجره قُتل قطري بن الفجاءة رأس الخوارج، و أُتي الحجاج برأسه، بعد حرب طويلة، وفى وقتها، ولى الحجاج عبد الرحمن بن محمد الأشعث على سجستان، فلما استقر بها خلع الحجاج، وخرج عليه.

وكان ذلك ابتداء حرب طويلة بينهما، وفي واحد وثمانين من الهجره، قام مع الأشعث أهل البصرة، و قاتلوا الحجاج يوم عيد الأضحى، وانهزم الحجاج، فقيل كانت أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، وثلاث وثمانون على الحجاج و الباقية له، وفي عام اثنين وثمانين من الهجره، استعرت الحرب بين الحجاج و ابن الأشعث، وبلغ جيش ابن الأشعث مبلغاً كبيراً من القوة و الكثرة، ثم جاءت سنة ثلاثه وثمانين من الهجره، وفيها وقعة دير الجماجم بين الحجاج و ابن الأشعث.

وكانت من أكثر الوقائع هولاً في تاريخ الحجاج، و فيها كان له النصر على الثوار من أصحاب ابن الأشعث، وقُتل خلق كثير فيها، وغنم الحجاج شيئاً كثيرا، وفيها ظفر الحجاج بكل أصحاب ابن الأشعث، بين قتيل وأسير، إلا ابن الأشعث، فقد هرب، لكن أصحاب الحجاج ظفروا به في سجستان فقتلوه، وطيف برأسه في البلدان، وبعد وقعة دير الجماجم، كان هناك من حاولوا الدس للحجاج عند عبد الملك بن مروان.

لكن الحجاج احتج على عبد الملك بحسن بلاغته، ثم مات عبد الملك بن مروان في عام سته وثمانين من الهجره، وتولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، وقربه منه أكثر، فاعتمد عليه، وكان ذلك على كره من أخيه وولي عهده سليمان بن عبد الملك، وابن عمه عمر بن عبد العزيز، وفي ولاية الوليد هدد سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له ولمظالمه.

وإذ ذاك كان قتيبة بن مسلم يواصل فتوحه في المشرق، ففتح بلاداً كثيرة في تركستان الشرقية وتركستان الغربية واشتبكت جيوشه مع جيوش الصين وكان الحجاج من سيره إلى تلك البلاد، وفي نفس الوقت قام ابن أخ الحجاج بفتح بلاد السند التى هى باكستان اليوم، وقد تطلع الحجاج بعد أن قطع دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة.

وكان يأمل في أن يقوم الجيش الذي بعثه تحت قيادة ابن الأشعث بهذه المهمة، وكان جيشا عظيما أنفق في إعداده وتجهيزه أموالا طائلة حتى أُطلق عليه جيش الطواويس، لكنه نكص على عقبيه وأعلن الثورة، واحتاج الحجاج إلى سنوات ثلاثة حتى أخمد هذه الفتنة العمياء، ثم عاود الحجاج سياسة الفتح، وأرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان سنة خمسه وثمانين من الهجره.

وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد، فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانة، والشاس، وكشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.

وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا صغير السن لا يتجاوز العشرين من عمره، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات، في أن يفتح مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن “سر فأنت أمير ما افتتحته” وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: “أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها” .

وكان الحجاج يتابع سير حملات قادته يوفر لها ما تحتاجه من مؤن وإمدادات، ولم يبخل على قادتها بالنصح والإرشاد، حتى حققت هذه النتائج العظيمة ووصلت رايات الإسلام إلى حدود الصين والهند، وقد أعاد الحجاج حفر قنوات الماء التي طُمرت في الحروب والمعارك، وقد وحد الموازين والمكاييل، وحوّل لغة دواوين الحكومة من اللغة الفهلوية (الفارسية القديمة) إلى اللغة العربية، وأيضا سك العملة باللغة العربية، ونظم عمل الجيش، وجعل خدمة الوطن إجباريّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *