نسائم الإيمان ومع الخليفه المأمون ( الجزء الأول )

إعداد / محمــــد الدكـــرورى

يجب علينا أن نتعرف على العباسيون ويقال أن انحدارهم من سلالة العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه، وهو عم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أسس العباسيون دولة إسلامية بعد قضائهم على الأمويين الذين حكموا البلاد الإسلامية قبل العباسيين، والخلافة العباسية هي الخلافة الإسلامية الثالثة في تاريخ الإسلام بعد الراشدية والأموية، وقد حكم العباسيون قرابة ثمانية قرون، ونقلوا فيها مركز الخلافة الإسلامية من دمشق إلى بغداد، واشتهر في هذه الفترة عدد كبير من الخلفاء العباسيين، وكان أشهرهم أبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والخليفه المأمون.

والخليفة المأمون هو الخليفة أبو العباس عبد االله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وهو سابع خلفاء بني العباس، وهو من أفاضل خلفائهم وعلمائهم وحكمائهم، وكان فطنًا، شديدًا، كريمًا، وقد شهد عهده ازدهارا بالنهضة العلمية والفكرية في العصر العباسي الأول، وذلك لأنه شارك فيها بنفسه، واتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، وهو الذي أظهر القول بخلق القرآن وامتحن الناس عليه، وبه كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأم المأمون كانت أم ولد اسمها مراجل الباذغيسية وقيل أنها قد ماتت في نفاسها به.

وقد ولد في شهر ربيع أول سنة مائه وسبعين من الهجره، في نفس الليلة التي توفى فيها عمه موسى الهادي الخليفة، ولذلك يقال لتلك الليلة: إنها ليلة الخلفاء، لأن فيها مات خليفة، وولد خليفة، وتولى خليفة، وقد ولد أخوه الأمين ابن السيدة زبيدة بعده بأربعة أشهر في شوال سنة سنة مائه وسبعين من الهجره، وقد نشأ المأمون في حجر الخلافة، وقد تهيأ له أفضل وسائل التربية والتثقيف في عصره، فقد نشأ في بيت الخلافة وكان مربيه وأستاذه هو يحيى البرمكي، وبانت نجابته وذكائه من صغره ورشحته صفاته لأن يعقد له أبوه الرشيد البيعة للخلافة بعد أخيه الأمين.

وعلى الرغم مما عرف عن هارون الرشيد من ذكاء وبعد نظر، فإنه وقع فيما وقع فيه أسلافه، فقد لجأ تحت ضغط من زوجته زبيدة والقوة العربية في الدولة إلى تعيين الأمين وليًا للعهد سنة سنة مائه وخمسه وسبعين من الهجره، وجعل له ولاية العراق والشام حتى أقصى المغرب، وما لبث سنة مائه واثنين وثمانين من الهجره، أن عين المأمون في ولاية العهد الثانية على أن تكون له ولاية خراسان وما يتصل بها من الولايات الشرقية، وأعقب ذلك البيعة لابنه القاسم بعد المأمون ودعاه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور، وقد اتُبع هذا الاتجاه نحو تقسيم الدولة إلى قسمين شرقي وغربي منذ قيام الدولة العباسية.

فكان الخلفاء يقلدون كل قسم لأحد القادة المتنفذين أو المظفرين أو أولياء العهود، فإذا كانوا صغار السن عين الخليفة من ينوب عنهم، وهؤلاء بدورهم كانوا يستخلفون العمال على ولاياتهم، وقد وضع الرشيد بتصرفه هذا وباختياره ثلاثة من أبنائه لولاية العهد بذرة التفكك السياسي وأوقع الدولة في خضم حرب أهلية كبيرة كانت لها نتائجها الخطيرة على مستقبل الدولة، فقد تكتل العرب بزعامة الفضل بن الربيع إلى جانب الأمين، في حين انضم الفرس بزعامة الفضل بن سهل إلى جانب المأمون، وهذه الفعلة من الرشيد رحمه الله أدت لنشوب الخلاف بين الأمين والمأمون ووقوع القتال أكثر من أربعة سنوات.

وقد توفي الخليفة العباسى هارون الرشيد عام سنة مائه وثلاثه وتسعين من الهجره، في خراسان، وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقا لوصية والده التي نصت أيضا أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سريعا ما خلع أخاه من ولاية العهد وعين ابنه موسى الناطق بالحق وليا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما علم بأن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد، أخذ البيعة من أهالي خراسان وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وحدثت فتنة عظيمة بين المسلمين، وقد استمرت الحروب بينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغداد.

والتغلب على الأمين وقتله عام سنة مائه وثمانيه وتسعين من الهجره، ظافرا بالخلافة، وكان المأمون محظوظًا في وجود عدة شخصيات قوية من حوله ساعدته على الحصول على الخلافة والانتصار على أخيه الأمين، من أمثال هذه الشخصيات القائدين الحربيين الكبيرين طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والوزير صاحب الدور المشبوه الفضل بن سهل، وقد اتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، فكان يميل إلى الفرس تارة، ثم إلى العلويين تارة أخرى، ثم يميل إلى أهل السنة والجماعة تارة ثالثة.

فاستطاع بتلك السياسة المرنة أن يجمع بين المواقف المتناقضة وأن يرضي جميع الأحزاب ويتغلب على معظم الصعاب، وقد بويع بالخلافة أثناء وجوده في خراسان ولهذا لم ينتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، بل ظل مقيما في مدينة مرو بخراسان مدة ست سنوات تقريبا، وكان من الطبيعى أن يفضلها بعد أن انفرد بالخلافة، لأنها تضم أنصاره ومؤيديه، وكان الفرس يودون أن يبقى بمرو لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهى أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة، وقد تسبب عن بقاء المأمون بعيدًا عن عاصمة دولته بغداد بعض الأزمات السياسية.

وخصوصا أنه فوّض إدارة البلاد إلى وزيره الفضل بن سهل وأخيه الحسن بن سهل، وأثار تحيز المأمون إلى الفرس غضب أهل العراق من بني هاشم ووجوه العرب، فأشاعوا أن بني سهل قد حجبوا الخليفة واستبدوا بالرأي دونه، واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك مرو للقضاء على هذه التحركات فى مهدها، فانتقل بعدها إلى بغداد في منتصف شهر صفر من سنة مائتان وأربعه من الهجره، وكان معظم أعوان المأمون من الفرس، ومعظمهم من الشيعة، ولهذا اضطر المأمون لممالأه الشيعة وكسبهم إلى جانبه، فأرسل إلى زعماء العلويين أن يوافوه فى عاصمته .

وكانت مدينة ” مرو ” فى ذلك الوقت، فلما جاءوه أحسن استقبالهم، وأكرم وفادتهم، وكان الوزير الفضل بن سهل قد استولى تماما على المأمون وحجبه عن الناس وحجب الناس عنه وعزل كل الأخبار عنه، وكان غرضه من ذلك إسقاط الخلافة العباسية وإسنادها للطالبيين إذ كان من الشيعة المغالين، وفي سنة مائتان وواحد من الهجره، استطاع الفضل بن سهل أن يقنع المأمون أن يجعل ولاية العهد من بعده للإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق الإمام الثامن عند الإمامية الاثني عشرية، ولقبه بالرضا من آل محمد، وكتب بذلك إلى سائر أنحاء المملكة، وهى خطوة جريئة.

لأن فيها نقلا للخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى، ولم يكتفِ بهذا، بل خلع السواد شعار الدولة العباسية ولبس الخضرة مكانها وهي شعار العلويين، ورغم اعتراض أقاربه من العباسيين، فإن المأمون كان مصرًّّا على هذا الأمر، إذ كان يعتقد أن ذلك من بر علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وجاءت عمة أبيه زينب بنت سليمان بن على، وكانت موضع تعظيم العباسيين وإجلالهم، وسألته، ما الذى دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت على؟ فقال: يا عمة، إنى رأيت عليّا حين ولى الخلافة أحسن إلى بنى العباس، وما رأيت أحدًا من أهل بيتى حين أفضى الأمر إليهم، وصل إليهم، كافأه على فعله.

فأحببت أن أكافئه على إحسانه، فقالت: يا أمير المؤمنين إنك على بِرِّ بنى علىّ والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم، وهذه الأمور كلها جعلت الفترة من مائه وثمانيه وتسعين حتى سنة مائتين واثنين من الهجره، كلها اضطرابات عليه وعلى خلافته، وحينما بلغ الخبر العراق نقم أهل بيته والناس وهاجوا وثاروا، ورفضوا مبايعة علي الرضا وخلعوا المأمون وبايعوا عمه إبراهيم المهدي خليفة عليهم، وتضيف الرواية أن أخبار هذه الفتنة لم تصل إلى المأمون وأن الفضل بن سهل كان يتعمد إخفاءها، ولم ينتبه المأمون للخطر المحدق به إلا بعد أن تجرأ علي الرضا ولي عهده على إخباره بأمر هذه الفتن.

عندئذٍ خرج المأمون من مرو متجهًا نحو مدينة طوس، وفي طريقه إليها قتل وزيره الفضل بن سهل وهو في الحمام بمدينة سرخس، وحينما بلغ طوس مات ولي عهده علي الرضا من جرّاء اضطراب في الجهاز الهضمي، فدفن في طوس في جوار هارون الرشيد، فكتب المأمون إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم بموت علي بن موسى ويسألهم الدخول في طاعته ثم جدّ السير إلى بغداد فوصلها سنة مائتين واربعه من الهجره حيث أقبل الناس على مبايعته والترحيب به، وعفا المأمون عن عمه إبراهيم المهدي وأمر الناس بلبس السواد ثانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *