نسائم الإيمان ومع الصحابى خباب بن الأَرَتّ ( الجزء الأول )
إعداد / محمــــد الدكــــــرورى
إن الصحابي هو الذي لَقى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وآمن به، ومات وهو مؤمن برسالته، وقد لازم الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دعوته، وساعدوا في نشر الدعوةِ الإسلامية، وجاهدوا وضحوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل ذلك كله، وكانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب، وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء .
فهو الصحابى الجليل خباب بن الأَرتّ بن جندلة التميمي، ويقال الخزاعي أبو عبد الله، سُبِي في الجاهلية فبيع في مكة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، وقد حالف بني زهرة، وكان من السابقين الأولين، وقد دفعت أم أنمار غلامها إلى أحد الحدادين في مكة ليعلمه صناعة السيوف، فما أسرع أن أتقن الغلام الصنعة، وتمكن منها أحسن تمكن، ولما اشتد ساعد خباب وصلب عوده استأجرت أم أنمار دكانا، واشترت له عدة، وجعلت تستثمر مهارته في صنع السيوف، ولم يمض غير قليل على خباب حتى شهر في مكة.
وجعل الناس يقبلون على شراء سيوفه، لما كان يتحلى به من الأمانة والصدق وإتقان الصنعة، وكان خباب بن الأرت، على حداثة سنِّه، كان يتحلى بعقل الكلمة وحكمة الشيوخ، فكان كثيرا ما يفكر في هذا المجتمع الجاهلي الذي غرق في الفساد من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، راجيا أن يرى بعينه مصرع الظلام، ومولد النور.
ولم يطل انتظار خباب كثيرا، فقد ترامى إليه أن خيطًا من نور قد تألق من فم فتى من خيرة بني هاشم، يُدعى محمد بن عبد الله، فمضى إليه وسمع منه فغمره سناه، فبسط يده إليه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فكان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض، وقد أسلم خباب رضى الله عنه، قبل أن يدخل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
وذات يوم كثر التعذيب على خباب وإخوانه المسلمين المستضعفين، فذهب مع بعض أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان متكئا في ظل الكعبة، وقالوا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لهم رسول الله : ” قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” رواه البخاري.
فزاد كلام النبي صلى الله عليه وسلم، خبابًا وأصحابه إيمانا بنصر الله، وإصرارا على دعوتهم، فصبروا واحتسبوا ما يحدث لهم عند الله عز وجل، وكانت أم أنمار تأخذ الحديد الملتهب ثم تضعه فوق رأس خباب الذي كان يتلوى من شدة الألم، ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب ؟
لا شيء الا أن يثبته ويدعو له ، هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال : ” اللهم انصر خبّابا ” ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، وقد أخذ الله عز وجل بحق خباب من هذه المرأة المشركة حيث أصيبت بسعار جعلها تعوي مثل الكلاب، ولا علاج لها إلا أن تكوى رأسها بالنار، فكان الجزاء من جنس العمل.
وروى البخاري أيضا عن قيس قال: أتينا خباب بن الأرت رضى الله عنه، نعوده وقد اكتوى سبعا، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، وقد تعرض خباب لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر في سبيل الله، فقد كانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يوما عما لقى من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لي نار، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).
ولم يكتم خباب بن الأرت رضى الله عنه، إسلامه عن أحد، فما لبث أن بلغ خبره أم أنمار فاستشاطت غضبا وتميزت غيظا، وصحبت أخاها “سباع بن عبد العزى” ولحق بهما جماعة من فتيان خزاعة ومضر جميعا إلى خباب، فوجدوه منهمكًا في عمله، فأقبل عليه “سباع” وقال: لقد بلغنا عنك نبأ لم نصدقه. فقال خباب: وما هو؟ فقال سباع: يشاع أنك صبأت، وتبعت غلام ابن هاشم، فقال خباب في هدوء: ما صبأت، وإنما آمنت بالله وحده لا شريك له، ونبذت أصنامكم، وشهدت أن محمدا عبد الله ورسوله.
فما أن لامست كلمات خباب مسامع “سباع” ومن معه حتى انهالوا عليه، وجعلوا يضربونه بأيديهم ويركلونه بأقدامهم، ويقذفونه بما يصلون إليه من المطارق وقطع الحديد، حتى هَوى على الأرض فاقد الوعي والدماء تنزف منه، ومع كل ما تعرض له من التعذيب الشديد على يد مشركي مكة، فإنه رضى الله عنه، ثبت على الحق كالجبال، ورفض جميع أنواع الإغراءات ليرتد عن دينه.
ويروي البخاري بسنده عن خباب رضى الله عنه، قال: كنت قَيْنًا بمكة، فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفا، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: إذا أماتني الله ثم بعثني ولي مال وولد. فأنزل الله: ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) سورة مريم.
وقد اغتنى خباب بن الأرت رضى الله عنه، في الشطر الأخير من حياته بعد فقر، وملك ما لم يكن يحلم به من الذهب والفضة، غير أنه تصرف في ماله على وجه لا يخطر ببال أحد؛ فقد وضع دراهمه ودنانيره في موضع بيته، يعرفه ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين، ولم يشدد عليه رباطا، ولم يحكم عليه قفلا، فكانوا يأتون داره ويأخذون منه ما يشاءون دون سؤال أو استئذان، ومع ذلك فقد كان يخشى أن يحاسب على ذلك المال وأن يعذب بسببه.
وعن عبد الله بن خباب بن الأَرتّ عن أبيه رضى الله عنهما،وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أجل، إنها صلاة رغب ورهب.
فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: سألت ربي فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي سبحانه وتعالى، أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي سبحانه وتعالى، أن لا يظهر علينا عدوًا من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها ” وقد أحب خباب العلم، وحرص على سماع القرآن ونشره بين إخوانه المسلمين، ففي أيام الدعوة الأولى كان خباب يدرس القرآن مع سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، عندما دخل عليهم عمر بن الخطاب.