نسائم الإيمان ومع عبد الله بن الزبير ( الجزء الثانى )
بقلم / محمــــد الدكـــرورى
عبد الله بن الزبير ،هو أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة للمهاجرين، فحنَّكه رسول الله بتمرة لاكها في فِيه، ثم حنّكه بها، فكان ريق رسول الله أول شيء دخل جوفه، وسمّاه عبد الله، وكناه أبا بكر بجدِّه أبي بكر الصديق.
وكان لعبد الله بن الزبير موقف مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، حيث تنبَّأ له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمستقبل باهر، لما رأى من رباطة جأشه وثبات قلبه واعتداده بنفسه؛ فقد مر عمر بعبد الله وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبة لعمر وإجلالا له .
في حين ثبت عبد الله بن الزبير، ولزم مكانه، فقال له عمر رضي الله عنه: ما لك لم تفر معهم؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.
وكان هناك موقف لعبد الله بن الزبير مع معاوية بن أبي سفيان ، فكان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه مزرعة بمكة بجوار مزرعة معاوية رضي الله عنه، وكان عمال معاوية رضي الله عنه يدخلونها، فكتب ابن الزبير رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه خطابا
كتب فيه: من عبد الله بن الزبير ابن ذات النطاقين وابن حواري الرسول إلى معاوية ابن هند بنت آكلة الأكباد، إن عمالك يدخلون مزرعتي، فإن لم تنههم ليكونن بيني وبينك شأن، والسلام .
فلما وصل الخطاب لمعاوية رضي الله عنه كتب له خطابا ذكر فيه: من معاوية ابن هند آكلة الأكباد إلى ابن الزبير ابن ذات النطاقين وابن حواري الرسول، لو كانت الدنيا لي فسألتها لأعطيتكها، ولكن إذا وصلك خطابي هذا فضم مزرعتي إلى مزرعتك، وعمالي إلى عمالك، فهي لك، والسلام.
فلما قرأها بلها بالدموع، وركب من مكة إلى معاوية في الشام، وقبل رأسه، وقال له: “لا أعدمك الله عقلا أنزلك هذه المنزلة”.
وكان هناك موقف لعبد الله بن الزبير مع يزيد بن معاوية ، فلما تولى يزيد بن معاوية رضي الله عنه الخلافة سنة ستون هجريا حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية، فلبت نداءه وبايعته دون تردد، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد رضي الله عنه .
وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، غير أن يزيد بن معاوية رضي الله عنه ألحَ في ضرورة أخذ البيعة منهما، ولو جاء الأمر قسرا وقهرا لا اختيارا وطواعية، ولم يجد ابن الزبير رضي الله عنه مفرا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة، والاحتماء ببيتها العتيق، وسمى نفسه العائذ بالبيت، وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة.
وبعد استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في معركة كربلاء ، في العاشر من المحرم سنة واحد وستون هجريا التف الناس حول ابن الزبير رضي الله عنه، وزاد أنصاره سخطا على يزيد بن معاوية رضي الله عنه، وحاول يزيد رضي الله عنه أن يضع حدا لامتناع ابن الزبير رضي الله عنه عن مبايعته .
فأرسل إليه جيشا بقيادة مسلم بن عقبة، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة، فتولى قيادة الجيش الحصين بن نمير، وبلغ مكة وحاصر ابن الزبير رضي الله عنه أربعة وستين يوما، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية رضي الله عنه في سنة أربعه وستون هجريا ، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد رضي الله عنه.
وكان موقف عبد الله بن الزبير مع الحصين بن نمير، هو أن توقف القتال بين الفريقين، وعرض الحصين بن نمير ، على ابن الزبير رضي الله عنه أن يبايعه قائلا له: إن يك هذا الرجل قد هلك أي يزيد، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلُم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان .
لكن ابن الزبير رضي الله عنه رفض هذا العرض، الذي لو قبله لربما تم له الأمر دون معارضة ، لأن بني أمية اضطرب أمرهم بعد موت يزيد بن معاوية رضي الله عنه ورفض ابنه معاوية بن يزيد تولي الأمر، ثم لم يلبث أن توفى هو الآخر بعد أبيه مباشرة.
وأعلن ابن الزبير رضي الله عنه نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية رضي الله عنه، وبويع بالخلافة في السابع من رجب سنة أربعه وستون من الهجره ، ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردن على ولائه لبني أمية بزعامة حسان بن بَحدل الكلبي .
ولم يلق ابن الزبير رضي الله عنه تحديا في بادئ الأمر، فهو صحابي جليل تربى في بيت النبوة، واشتهر بالتقوى والصلاح والزهد والورع، والفصاحة والبيان والعلم والفضل، وحين تلفت المسلمون حولهم لم يجدوا خيرا منه لتولي هذا المنصب الجليل.
ويروي عروة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير رضي الله عنه عند النبي في شِرَاج الحرَة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِح الماء يمر ، فأبى عليه، فاختصما عند النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: “اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك”.
فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك ، فتلوَن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر”. فقال الزبير رضي الله عنه: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) سورة النساء.
وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوما لابن أبي مليكه ، صِف لنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، فقال: والله ما رأيت نفسا رُكّبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليه، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله، لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا أو ثوبا مطروحا .
ولقد مرَت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحس بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجل ركوعه ، وسئل عنه ابن عباس رضي الله عنه فقال على الرغم مما بينهم من خلاف: كان قارئا لكتاب الله، متبعا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، قانتا لله، صائما في الهواجر من مخافة الله .
فهو ابن حواري رسول الله، وأمه أسماء بنت الصديق، وخالته عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله ، وقيل أنه كان لابن الزبير مائة غلام، يتكلم كل غلام منهم بلغة أخرى، وكان الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته .
وكانت وفاة عبد الله بن الزبير ، عندما توجّه الحجاج الثقفي بعد مقتل مصعب بن الزبير على رأس جيش كبير من عشرين ألفا من جند الشام إلى الحجاز، وضرب حصارا على مكة، فأصاب أهل مكة مجاعة كبيرة ، وراح عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يسأل أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها .
ماذا يفعل وقد تخلّى عنه الناس؟ فقالت له: “إن كنت على حق فامض لشأنك، لا تمكن غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ومن معك ، القتل أحسن”. فقال: “يا أُمى، إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي”. قالت: “إن الشاة لا يضرُها سلخها بعد ذبحها”.
فخرج من عندها، وذهب إلى القتال، فاستشهد في المعركة في السابع عشر من جمادى الأولى لعام ثلاثه وسبعون من الهجره ، وبوفاته انتهت دولته التي استمرت نحو تسع سنين. وكان عُمره ، عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يوم استشهاده اثنين وسبعين سنه .