نسائم الإيمان ووقفه مع حادثة البرامكه ( الجزء الثالث )

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

نكمل الجزء الثالث ومع حادثة البرامكه مع هارون الرشيد ، وقيل أن أسباب نكبة البرامكة هو أن البرامكة في عهد هارون الرشيد غرّهم ما كان لهم من نُفوذ وسلطة، وقيل أيضا إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرفٍ في أمور ملكه، ولم يغفل الرشيد عن استبداد البرامكة، ولكنه أراد أن يحفظ الودّ الذي كان بينه وبينهم.

ولكنهم تمادوا، وقام جعفر بن يحيى بمحاولة إيقاع العداوة بين ولي عهد الرشيد، الأمين والمأمون، حتى يزرع في قلوبهم حُب السيطرة مما يؤدي إلى أن يكون الحكم سببا لعداوتهم، وقام بمنع الرشيد من المال بحجة حفظ مال المسلمين، حتى وصل به الحال إلى أن يحاسب الرشيد على ما يقوم به، وكان الرشيد بارعا في كظم غيظه، ورغم عدم قبوله لما يحدث، لم يكن يحدّث إلا خاصته، ولكن حديثه عن البرامكة وصل إليهم، فقاموا بعدّة تدابير لحماية أنفسهم، فقام والي الجانب الشرقي الفضل بن يحيى بجعل خُراسان مقرا له

وأعد جيشا يتألف من خمسمائة ألف جندي، فلما وصل خبر الجيش إلى الرشيد، أمر الفضل بالقدوم إليه، فجاء الفضل ومعه فرقة من الجيش أطلق عليها اسم: الكرمينية، لحمايته، والعودة إلى بغداد، ولكن البرامكة قاموا بإدخال هذه الفرقة إلى بغداد، ثم إلى القَصر؛ بحجة حماية الرشيد وأهله، حتى يجعلوا نهايته بين أيديهم، فأحس الرشيد أنه يواجه انقلابا عسكريا، يُوشك أن ينهي مُلكه ومملكته، وقد نقل قول جعفر البرمكي لأحد أخصّاء الرشيد على إثر عتاب وجهه إليه.

وقال والله لئن كلّفنا الرشيد بما لا نحب، ليكونن وبالا عليه سريعا، وكان الرشيد صاحب إيمان ورجولة عندما قرّر القضاء على الانقلاب، وبرع في التخطيط لذلك، وأن الرشيد لم يكن غافلا عن أعمال البرامكة التي توجب محاسبتهم، ولكنه أغمض عينيه فترة غير قصيرة عنهم، وفاء لخدماتهم، وحرصا على صفاء الجو بينه وبينهم، وأملا في أن يعودوا إلى رشدهم، ولكن أمر البرامكة تفاقم، وسلطانهم ظهر على سلطانه، والنعرة الفارسية والشعوبية تكالبت على قوميته، واستبد “يحيى بن خالد” بكل أمور الدولة.

وتدخل “جعفر بن يحيى” في خاصة شؤونه، حتى أوقع بين ولى عهده الأمين والمأمون، وغرس الحقد بينهما بما يهدد مستقبل الخلافة إذا تنازعا عليها، ومنع المال عن الرشيد بحجة المحافظة على أموال المسلمين، التي راح هو وجماعته يرتعون فيها بغير حساب، وبلغ الأمر إلى أن بات جعفر يحاسب الرشيد على تصرفاته، ولا يأبه إلى اعتراضاته، وقد كان الرشيد يعاني ضيقًا شديدًا من هذه التصرفات، ولكنه كان قوي الاحتمال، عظيم الصبر، واسع الحيلة، ومن أمهر الناس في التظاهر بالرضا.

وهو في أشد سورة غضبه إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان ينفس عما في صدره بهمسات يهمس بها في آذان بعض خاصته، ولكن نبأ هذه الهمسات وصل إلى البرامكة، وتيقنوا منها أن الرجل ضاق ذرعًا بأعمالهم، وأنه قد تغير في السر عليهم، فبدل أن يعدلوا أمورهم ويسلكوا سبيل الإنصاف، عولوا على اتخاذ الحيطة لأنفسهم بما يحول دون تمكنه منهم، ويجعله دائمًا في قبضة أيديهم، فقام الفضل بن يحيى الذي عين واليًا على الجانب الشرقي للدولة باتخاذ “خراسان” مقرّا لولايته، وكوَّن بها جيشًا عظيمًا من العجم.

وكان قوامه خمسمائة ألف جندي دون أخذ رأي الرشيد وسماه العباسية، وجعل ولاء هذا الجيش للبرامكة وحدهم، ولما علم الرشيد بذلك الحدث الخطير، استقدم الفضل إلى بغداد من غير أن يعزله، فحضر إليها ومعه فرقة من هذا الجيش عددها عشرون ألف جندي مسلح من الأعاجم، وقد ثارت الهواجس في نفس الرشيد من تكوين هذا الجيش، ولكنه استطاع أن يحبس هواجسه عن البرامكة وعن الناس، وراح يترقب أخبار هذه الفرقة الأعجمية التي سماها البرامكة بفرقة الكرمينية.

والتي كان عليها أن تعود إلى موطنها بعد أن أدت واجبها في حراسة موكب الفضل بن يحيى من خطر الطريق، فوجد البرامكة يُنزلون هذه الفرقة في معسكر الرصافة، لتكون تحت إمرتهم في قلب بغداد، وبعد فترة قصيرة من إقامتها أخذوا عددًا من جنودها وأسكنوهم رحبة من رحاب قصر الخلد؛ ليكونوا حرسًا لشخص الرشيد وأسرته، وبذلك يضعون مصير الرشيد والخلافة العباسية في قبضة أيديهم، وذلك هو السبب المباشر لنكبتهم، فقد رأى الرشيد أنه أصبح أمام انقلاب مسلح .

وشيك الوقوع يطيح به وبدولته وبقوميته، ولقد كان الخليفة الرشيد في قمة الإيمان والرجولة حين قرر في نفسه تحطيم هذا الانقلاب، كما كان بارع الذكاء في تدبير الخطة التي مزق بها جيش العباسية في خراسان، وإضعاف شوكة البرامكة فيها، دون إحداث ضجة تستفز الخصوم، وتُحدث المشاكل، إلى أن جاءت الساعة الفاصلة في أمرهم، وقد كان هارون الرشيد حكيما بليغا، فعندما أراد أن بعلم ولده، فقال خلف الأحمر: بعث إليَّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين.

فقال: يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أَقرئْهُ القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تَمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *