العمق نيوز
جريدة أخبارية شاملة

نسائم ال‘يمان ومع الصحابى سعيد بن المسيِّب ( الجزء الأول )

0

إعداد / محمــــد الدكــــــرورى

إن خير أتباع المرسلين والنبيين بعد الصحابة أجمعين، التابعون وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، فإنهم آمنوا بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم لم يروه، وتحروا ما بعثه الله عز وجل به من الهدى ودين الحق، فعلموه وحفظوه وعملوا به، وبلغوه، وعرفوا منزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأنهم ومنهاجهم، فأحسنوا صحبتهم وذكرهم، وأحبوهم وأحسنوا الاقتداء بهم، واستغفروا لهم، وهدوا الأمة إلى منهاجهم، وقرروا فضلهم وفضائلهم.

وها هو سعيد بن المسيب ابن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة، وهو الإمام العلم أبو محمد القرشي المخزومي عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل لأربع مضين منها بالمدينة وقد رأى عمر بن الخطاب، وسمع عثمان وعليا وزيد بن ثابت وأبا موسى وسعدا وعائشة وأبا هريرة وابن عباس ومحمد بن سلمة وأم سلمة وخلقا سواهم، وكان زوج بنت أبي هريرة وأعلم الناس بحديثه.

وقد ولد أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي سنة خمسة عشره من الهجره، في المدينة المنورة في خلافة عمر بن الخطاب، وهو قرشي مخزومي النسب، وقد أسلم أبوه المسيب وجده حزن، وكانت لهما صحبة، وكان أبوه المسيب ممن حضر بيعة الشجرة، أما جده فكان ممن قُتل يوم اليمامة، وأم سعيد هي أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلميه، وقد نشأ سعيد في المدينة المنورة، واجتهد في طلب العلم من علمائها.

ولقد كان الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله من سادات التابعين، وعلمًا من أعلام المسلمين، ممن كمل حاله وجمع الله عز وجل فيه من خصال الخير كله من العلم والعمل، فلقد كان بحق عالمًا عاملًا، لا يخاف في الله لومة لائم، صادعًا بالحق أمارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يهاب خليفة ولا أميرًا، مجافيًا لأبوابهم معتزًا بعلمه، صائنًا لعرضه، شديد الانتقاد لأي مظهر من مظاهر الخروج على الشرع والحق.

ومن كانت هذه خصاله فحري به أن يمتحن ويتعرض للمحنة تلو الأخرى، ومع ذلك لا ينال البلاء من عزيمته ولا تلين المحنة شيئًا من صلابته في الحق، حتى أن الحجاج بن يوسف الثقفي على جبروته وطغيانه كان يهاب من الإمام سعيد، ولا يجرؤ على تحريكه أو حتى مخاطبته، ولقد عاصر الإمام سعيد بن المسيِّب عهد الخلفاء الراشدين، عثمان وعليًّا رضي الله عنهما ومن بعدهما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

وجالس الصحابة وعاشرهم، ونال من علومهم، ثم رأى بعد ذلك تبدُّل الأحوال وتغيُّر الناس، ورأى الاقتتال على الملك فلم يرضَ على سياسة بني مروان، فآلى على نفسه ألا يسكت على ظلم يراه ومنكر يظهر، ورفض أن يأخذ عطاءه من بيت المال، واستغنى عن ذلك كله، وكان يقول: لا حاجة لي فيه، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان.

وكان أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي، كان من الممتحنين، امتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم، صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً، وكانت أولى محنه مع الظالمين سنة ثلاثه وستين من الهجره، عندما وقعت فاجعةُ الحرة بأهل المدينة، وانتهك جيش يزيد بن معاوية، بقيادة مسلم بن عقبة المرِّي حرمة المدينة.

وأخذ الطاغية مسلم بن عقبة المرِّي في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيد بن المسيِّب بين يديه، فقال له: بايِع، فقال سعيد: أُبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فغضب الطاغيةُ من ذلك، لأن الطغاة عبر العصور تؤرِّقهم وتقُض مضاجعهم سيرة العمرين، وأخبار العدل والإحسان في عهدهما، فغضب الطاغية وًامر بضرب عنقه، فقام أحدُ أعيان المدينة، وشهد أن الإمام سعيد مجنون لا يُقبل منه، فأعرض عنه الطاغية وتركه.

ولما استوثق الأمر لسيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما سنة أربعه وستين من الهجره، أرسل جابر بن الأسود واليًا من طرفه على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيِّب: لا، حتى يجتمع الناس، ويقصد في جميع الأمصار، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، ويقول: ما لنا ولسعيد، وفي سنة أربعه وستين من الهجره، تُوفِّي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان ولي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، فدعا الناس إلى مبايعة ولديه الوليد وسليمان بالعهد.

ولما طلب من سعيد المبايعة رفض بشدة لعدم صلاحية الوليد للولاية، بحسب رأي الإمام سعيد، فقام والي المدينة هشام بن المغيرة بجلد الإمام سعيد في محضر عام من الناس، وقام بتشهيره على حمار، وقد ألبسوه ثوبا من شعر وطافوا به في المدينة، ثم ردّوه إلى السجن، وكان الإمام وقتها قد جاوز الستين سنة، ومع ذلك لم يُعط بيعته وصمم على رأسه، ولو هددوه بالقتل ما تغير موقفه أبدا.

وبعد أن ضربوه وشهروه وحبسوه، منعوه من إلقاء الدروس بالمسجد النبوي، ومنعوا أحدًا من الجلوس إليه، فكان الإمام العلم الذي يفتقر الناس إلى علمه، أفقهَ فقهاء المدينة، والمعول عليه عند نوازل الأمور، يجلس وحيدًا في المسجد، لا يجرؤ أحد على مجالسته، وكان هو يشفق على الغرباء أن ينالَهم أذى إذا طلبوا الحديث معه، فيقول لمن جاءه: إنهم قد جلدوني ومنعوا الناس أن يُجالسوني.

ولما تولى الخلافة الوليد بن عبد الملك سنة سته وثمانين من الهجره، قام بزيارة المدينة، ودخل المسجد النبوي، فوجد حلقة علم سعيد بن المسيِّب، فأرسل يطلبه فرفض الإمام سعيد بعزة العالم واستعلاء المؤمن الحق أن يفض درس علمه ويذهب للخليفة، فغضب الوليد بشدة وهم بقتله، وكان الوليد يبغض الإمام سعيد بن المسيِّب بوجه خاص لسببين: أولهما رفض سعيد مبايعته بولاية العهد من قبل.

ثانيهما رفض سعيد طلب خطبة الوليد لابنته التي زوجها على ثلاثة دراهم، لتلميذه كثير بن أبي وداعة، ولما رأى الناس عزم الوليد على الفتك بالإمام سعيد، قالوا له: يا أمير المؤمنين، فقيهُ المدينة، وشيخُ قريش، وصديقُ أبيك، وأخذوا في تهدئته حتى صرفوه عنه، وكان سعيد بن المسيب يتتبع المسائل والفتاوى حتى قال عن نفسه: ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر مني، فكان يُفتي والصحابة أحياء.

وقد شهد له ابن عمر بقوله: هو والله أحد المفتين، وكما كان إذا سُئل عن شيء، فيُشكِل عليه يقول: سَلُوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين، وقال علي بن الحسين عن سعيد: ابن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه، وقال قتادة: ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام من سعيد بن المسيب، وكما عدّه سليمان بن موسى أفقه التابعين، فأصبح سعيد مُقدما في الفتوى في زمانه، ولُقب بفقيه الفقهاء.

فما كان عمر بن عبد العزيز حين تولى إمارة المدينة المنورة يقضي بقضية، حتى يسأل سعيد بن المسيب، وقد ذكر يحيى بن سعيد الأنصاري أنه لو مهابة الناس في عهده تدوين الحديث والفقه، لكتب الناس من علم سعيد ورأيه في المسائل الكثير، وقد اعتمد سعيد بن المسيب في منهجه الفقهي على القرآن والسُنّة والإجماع والقياس، فإن لم يجد فيها حُكما، تخيّر من أقوال الصحابة، كما امتاز سعيد بن المسيب بميزة القدرة على تعبير الرؤى التي اكتسبها من أسماء بنت أبي بكر، التي أخذتها أسماء عن أبيها رضى الله عنهم أجمعين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد