العمق نيوز
جريدة أخبارية شاملة

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه اللغة

0
رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه اللغة
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مفهوم اللغة:
تعريف اللغة: قال أبو الفتح ابن جني (ت 391هـ): حدُّ اللغةِ: أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ثم قال: وأما تَصْريفها، فهي فُعْلة من لَغَوْت؛ أي: تكلَّمت، وأصلها لغوة، ككُرَة وقُلَة وثُبَة، كلُّها لاماتها واوات؛ لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأنَّ ثبة كأنَّها من مقلوب ثاب يثوب، وقالوا فيها: لُغاتٌ ولُغُون، كثُبَات وثُبُون، وقيل منها لَغِيَ يَلْغَى إذا هَذَى… وكذلك اللَّغو؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]؛ أي: بالباطل، وفي الحديث: ((مَن قال في الجمعة: صَهْ، فقد لَغَا))؛ أي: تكلَّم[1].
وقال إمامُ الحرمين في “البرهان”: اللغةُ من لَغِي يَلْغَى، من باب رَضِي، إذا لهِج بالكلام، وقيل: مِن لَغَى يَلْغَى[2].
قال الإسنوي في شرح “منهاج الأصول”: اللغاتُ: عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي[3].
قال ابن خلدون: اعلم أنَّ اللغةَ في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بُدَّ أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم، وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات، وأوضحها إبانة عن المقاصد؛ لدلالةِ غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعيِّن الفاعل من المفعول من المجرور؛ أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال – أي: الحركات – إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى، وليس يوجد ذلك إلاَّ في لغة العرب، وأما غيرها من اللغات، فكل معنى أو حال لا بُدَّ له من ألفاظ تَخصه بالدلالة؛ ولذلك نجد كلامَ العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوتيت جوامعَ الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا)).
فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيئات – أي: الأوضاع – اعتبارٌ في الدلالة على المقصود، غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها، إنَّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا، فلما جاء الإسلام، وفارقوا الحجاز لطلب المُلك الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمعُ من المخالفات التي للمستعربين، والسمعُ أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها؛ لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخَشِيَ أهل العلوم منهم أن تفسدَ تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائرَ أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه؛ مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك[4].
طبيعة اللغة: اللغة نظام من الرموز الصوتية، يتفق عليها بين الأطراف التي تتعامل به، وقيمة الرمز اللُّغوي تقوم على علاقة بين متحدث مؤثِّر ومخاطب متلقٍّ، فهي وسيلة نقل الأفكار بين المؤثر والمتلقي.
وتتم عمليةُ الكلام بإصدار الجهاز العصبي أوامِرَه إلى الجهاز النطقي عنده، فتصدر اللغة وتَمضي على شكل موجات صوتية في الهواء، فيتلقاها المخاطب بجهازه السمعي، ثم تنتقل بعد ذلك إلى جهازه العصبي، فتترجم هذه الرموز الصوتية اللُّغوية إلى معانيها المرتبطة بها.
الطريق إلى معرفة اللغة: قال فخر الدين الرَّازي (544 – 606 هـ): الطريقُ إلى معرفة اللغة، إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل، كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا أنَّ الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذٍ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم، وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.
قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد[5].
وقال ابنُ فارس في “فقه اللغة”: باب القول في مأْخذ اللغة: تُؤخَذ اللغة اعتيادًا، كالصبيِّ العربيِّ يسمعُ أبويه أو غيرهما، فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرِّ الأوقات، وتؤخذ تلقُّنًا من مُلَقِّن، وتؤخذُ سماعًا من الرُّواة الثِّقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقَى المظنون.
وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك، ويؤْخذ من كلامهما أن الضابطَ الصحيح من اللغة: ما اتَّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه، على حدِّ الصحيح من الحديث.
وقال الزَّرْكَشِيّ: قال أبو الفضل بن عبدان في “شرائط الأحكام”، وتبعه الجيلي في “الإعجاز”:ولا يلزم اللغة إلا بخمس شرائط:
أحدها: ثُبُوت ذلك عن العرب بنقل صحيح بوجوب العمل.
والثَّانِي: عدالة الناقلين كما يعد عدالتهم في الشرعيات.
وَالثَّالِثُ: أن يكون النقل عمن قوله حُجَّةٌ في أصل اللغة، كالعرب العاربة، مثل: قحطان، ومعد، وعدنان، فأمَّا إذَا نقلوا عمن بعدهم بعد فساد لسانهم واختلاف المولدين، فلا.
وقال ابْنُ جِنِّي: يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْمُوَلَّدِينَ فِي الْمَعَانِي، كَمَا يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْعَرَبِ فِي الْأَلْفَاظِ.
وَالرَّابِعُ: أن يكون الناقل قد سمع منهم حِسًّا، وأما بغيره فلا يثبُت.
وَالْخَامِسُ: أن يسمع من الناقل حِسًّا[6].
الخلاف في أصل اللغة:
تنازع الباحثون حول أصل اللغة، فخاض في البحث الفلاسفةُ والمتكلمون والأصوليون واللغويون، ولهم في ذاك مسالك لإثباتِ آرائهم، ودَحْضِ أقوالِ غيرهم.
وهم في الغالب على ثلاثة أقوال: التوقيف، والوضع، والمحاكاة، ورابع هو الجمع بين التوقيف والوضع.
قال ابن جني: هذا موضع محوج إلى فضل تأمُّل، غير أنَّ أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنَّما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف… واحتجَّ للتوقيف بقوله – سبحانه -: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا، وجب تلقِّيه باعتقاده، والانطواءُ على القول به[7].
قال إمام الحرمين: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات، فذهب ذاهبون إلى أنَّها توقيفٌ من اللَّه – تعالى – وصار صائرون إلى أنَّها تثبتُ اصطلاحًا وَتَوَاطُؤًا، وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهَم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف[8].
وقال أبو الفتح ابن برهان في كتاب “الوصول إلى الأصول”: اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفًا أو اصطلاحًا؟
• فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحًا.
• وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفًا.
• وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفراييني: “أنَّ القَدْرَ الذي يدْعو به الإنسان غيرَه إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفًا، وما عدا ذلك يَجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين”.
• وقال القاضي أبو بكر: يَجوز أن يثبت توقيفًا، ويَجوز أن يثبت اصطلاحًا، ويَجوز أن يثبت بعضه توقيفًا، وبعضه اصطلاحًا، والكلُّ ممكن.
وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودًا لم يعرض لوجوده محال، ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض لوجودها محال، فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.
وعمدةُ المعتزلة أنَّ اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية؛ ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها، ولو ثبتت توقيفًا من جهة اللَّه – تعالى – لكان ينبغي أن يخلقَ اللَّه العلم بالصِّيغَة، ثم يخلق العلْمَ بالمدلول، ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلاً على ذلك المدلول، ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته، لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته، ولو خلق لنا العلم بذاته، بَطَل التكليف، وبَطَلَت المحنة.
وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفًا قولُه – تعالى -: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31].
وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: “أن القَدْر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحًا، لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له”[9].
أي: إنَّ المرحلةَ الأولى للُّغة توقيفية، وتمثل جزءًا من لغة التخاطُب بين الناس، الذين سيضطرون إلى تسمية أشياء لا اسمَ لها في لغتهم، فيتفقون بالتواضع على تسمية ما لم يكن مُسَمًّى؛ كيما يتفاهموا حالَ ذكر الاسم المتواضع عليه على قصد المسمى الذي أرادوه حالَ تواضُعِهم على تسميته، فحتى لو قلنا بأنَّ اللغةَ أصلها بالتواضُع، لزم ضمنًا جزءٌ من لغة المتواضعين قُبَيْلَ عملية التواضع سابق لكل ما تواضعوا عليه، فمن أين أتى؟ لا بد أن يكون توقيفًا، وما دون ذلك مختلط بينهما.
وقال فخر الدين الرازي في “المحصول”، وتبعهُ تاج الدين الأرموي في “الحاصل”، وسراج الدين الأرموي في “التحصيل”، عن مذاهب الناس في أصل اللغة، ما ملخَّصه[10]:
الأول: تدل الألفاظُ على المعاني بذواتها، مذهب عباد بن سليمان.
الثاني: تدل الألفاظُ على المعاني بوَضْع اللَّه إياها، مذهب أبي الحسن الأشعري، وابن فُورَك.
الثالث: تدل الألفاظُ على المعاني بوَضْع الناس، مذهب أبي هاشم.
الرابع: تدل الألفاظُ على المعاني ابتداء من الناس والتَّتِمَّة من اللّه، وهو مذهب قوم.
الخامس: تدل الألفاظُ على المعاني ابتداء من اللَّه والتتمة من الناس، مذهب أبي إسحاق الإسفراييني.
والمحققون متوقفون في الكل، إلاَّ في مذهب عباد، ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات، لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات؛ لعدم اختلاف الدلالات الذاتية، واللازمُ باطلٌ، فالملزوم كذلك.
معنى التوقيفي: هو تفعيل من الوقف، والياء للنسبة، والوقف في اللغة: مادة تدل على الحبس والمنع، ومنه التوقيف هنا؛ إذ المراد به الوقوف على نصِّ الشارع، فلا يَجوز الكلام في هذا الباب بطريقِ القياس أو الاشتقاق اللُّغوي، بل يكتفى بما وردت به نصوصُ الشرع لفظًا ومعنى، فعلم بذلك أنَّ التوقيف هو الاقتصار في الوصف والتسمية على ما وردت به الآيات القرآنية والآثار النبوية لفظًا ومعنى[11].
احتجَّ القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها: قوله – تعالى -: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، فالأسماء كلها معلَّمة من عند اللَّه بالنَّص، وكذا الأفعالُ والحروف؛ لعَدم القائل بالفَصْل، ولأنَّ الأفعال والحروف أيضًا أسماء؛ لأن الاسم ما كان علامةً، والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة، لا منَ اللغة؛ ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذِّر.
وثانيها: أنه – سبحانَه وتعالى – ذَمَّ قومًا في إطلاقهم أسماء غيرَ توقيفيَّة في قوله – تعالى -: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ [النجم: 23]، وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.
وثالثها: قوله – تعالى -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ [الروم: 22]، والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها، ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ، فالمراد هي اللغات.
ورابعها – وهو عقليٌّ -: لو كانت اللغاتُ اصطلاحية، لاَحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ، ويعودُ إليه الكلامُ، ويلزم إما الدَّوَر أو التسلسلُ في الأوضاع، وهو محال، فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.
الطريق إلى علم اللغة التوقيفية: من قال: إنَّ اللغات توقيفيَّة ذكر في الطريق إلى علمها مذاهب، حكاها ابنُ الحاجب وغيره:
أحدُها: بالوَحْي إلى بعض الأنبياء.
والثاني: بخَلق الأصوات في بعض الأجسام.
والثالث: بعلمٍ ضروري خلَقه في بعضهم حَصَل به إفادةُ اللَّفظِ للمعنى.
قال الزَّرْكشِي في “البحر”: حكى الأستاذ أبو منصور قولاً: إنَّ التوقيف وقعَ في الابتداء على لُغَة واحدة، وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من اللَّه – تعالى – في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض، قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أولُ مَن تكلم بالعربية المحضة إسماعيل، وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن، وأما عربية قَحْطان وحِمْير، فكانت قبلَ إسماعيل – عليه السَّلام[12].
ماذا علم آدم – عليه السَّلام – من اللغات؟ قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31].
في تفسيرها ثلاثة أقوال:
الأول: كل الأسماء، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وعطاء.
الثاني: أسماء معدودة لمسميات مخصوصة، وفيه خمسة أقوال:
1- أسماء الملائكة، وهو قول أبي العالية، والربيع بن أنس.
2- أسماء الأجناس والأنواع؛ قول عكرمة.
3- ما خلق من الأرض؛ الكلبي، ومقاتل، وابن قتيبة.
4- أسماء ذريته؛ ابن زيد.
5- أسماء النجوم؛ حميد الشامي.
الثالث: صفات الأشياء ونعوتها وخواصها؛ الرازي.
معنى الوضع: من قال: اللغة لا تكون وحيًا، ذهب إلى أنَّ أصل اللغة لا بدَّ فيه من المواضعة، وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سِمة ولفظًا إذا ذكر عرف به ما مسماه؛ ليَمْتَاز من غيره، وليُغْنَى بذكره عن إحضاره إلى مَرْآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخفَّ وأسهل من تكلف إحضاره؛ لبلوغ الغرض في إبانة حاله، بل قد يَحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يُمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني، وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد، كيف يكون ذلك لو جاز، وغير هذا مما هو جارٍ في الاستعالة والبعد مجراه، فكأنَّهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه، وقالوا: إنسان؛ فأي وقت سمع هذا اللفظ، علم أنَّ المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سِمة عينه أو يِده أشاروا إلى ذلك، فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك، فمتى سُمِعت اللفظة من هذا، عُرِفَ معناها، وهلم جَرًّا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف، ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها، فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مَرْد، والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سَرْ، وعلى هذا بقيَّة الكلام، وكذلك لو بدئَت اللغة الفارسية، فوقعت المواضعة عليها، لجاز أن تنقل ويوَلَّدمنها لغات كثيرة من الرومية والزنجية وغيرهما، وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصُّناع لآلات صنائعهم من الأسماء كالنجَّار والصائغ والحائك والبناء وكذلك الملاَّح، قالوا: ولكن لا بُدَّ لأوَّلِها من أن يكون متواضعًا بالمشاهدةِ والإيماء.
احتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:
أحدهما: لو كانت اللغاتُ توقيفيةً، لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف، والتقدُّمُ باطلٌ، وبيانُ الملازمة أنَّها إذا كانت توقيفيةً، فلا بُدَّ من واسطة بين اللَّه والبشر، وهو النبيُّ؛ لاسْتِحالة خطابِ اللَّه – تعالى – مع كلِّ أحد، وبيانُ بُطْلاَن التَّقَدُّم قوله – تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [إبراهيم: 4]، وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.
والثاني: لو كانت اللغاتُ توقيفيةً، فذلك إما بأن يَخْلُق اللَّه – تعالى – عِلمًا ضروريًّا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا، أو في غير العاقل، أو بألاَّ يخلقَ علمًا ضروريًّا أصلاً، والأولُ باطلٌ، وإلاَّ لكان العاقلُ عالِمًا باللَّه بالضرورة؛ لأنَّه إذا كان عالِمًا بالضرورة بكَوْن اللَّهِ وضَع كذا لِكَذا، كان علمُه باللَّه ضروريًّا، ولو كان كذلك، لبطَلَ التكليفُ، والثاني باطلٌ؛ لأن غيرَ العاقل لا يُمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ، والثالثُ باطل؛ لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريًّا، احتيج إلى توقيفٍ آخر، ولَزِم التسلسل[13].
أثر الخلاف في أصل اللغة:
الصحيحُ أنه لا فائدةَ لهذه المسألة، وهو ما صحَّحه ابنُ الأنباري وغيرُه؛ ولذلك قيل: ذِكْرُها في الأصول فضولٌ، وقيل: فائدتها النظرُ في جواز “قَلْب” اللغة، فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقًا، فلا يَجوزُ تسمية الثَّوْب فَرَسًا، والفَرَس ثوبًا، وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه، وأما المتوقِّفون، قال المازَرِي: فاختلَفوا، فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح، وأشار أبو القاسم عبدالجليل الصَّابوني إلى المَنْع، وجوَّزَ كونَ التوقيف واردًا على أنه وجبَ ألاَّ يقعَ النطقُ إلاَّ بهذه الألفاظ.
قال ابن السبكي: والحقُّ عندي – وإليه يشيرُ كلامُ المازَري – أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق؛ فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا، حتى لا يُنْطَق بسِواه، فإن فُرِض حجرٌ، فهو أمرٌ خارجي، والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع، فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه، وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.
قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحقِّقين لا يُحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشَّرع بتحريمه، وإنَّما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه؛ قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط، فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى، وهذا كلُّه فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام، وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام، فإن أدَّى إلى ذلك، فلا نَختلفُ في تحريم قَلبِه، لا لأَجل نفسه؛ بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه[14].
الملخص: في مسألة أصل اللغة أربعة أقوال:
1- توقيفية: إما بالتلقين أو الإلهام.
التلقين: بعرض المسميات واحدة واحدة، وتسمياتها سماعًا، وهو قول ابن عباس، والأشعري، والجبائي، والكعبي، وابن فارس، وابن الحاجب، وابن فورك.
الإلهام: بإلقاء علم ضروري في نفسه، فيعلم اسم المعروض عليه مباشرة، وهو قول ابن تيمية وجماعة.
2- الاستعداد الفطري: بأنْ خلق الله – تعالى – في آدم غريزةً تَحمله على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة، وغريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تَحمله على القياس بحركات وأصوات خاصَّة، لكن بعد النشأة الأولى للغة انقرضت؛ لعدم استعمالها، فأصبحت بالنظر والاكتساب،فهنا الإنسان ألهم التعبير لا العبارة.
3- الوضع والاصطلاح: والوضع سابق للاصطلاح؛ أبو هاشم المعتزلي.
4- المحاكاة والتطور: فاللغة ناشئة من مُحاكاة الأصوات الطبيعِيَّة، أو من التطوُّر الطبيعي للانفعالات البشرية مع الأصوات الحيوانيَّة والطبيعية، فاستعان بادئَ الأمر بالإشارات والحركات الجسمية للتعبير، ثُمَّ طور وسائل التعبير إلى أنْ وصل للنطق ثم الكتابة، وذي نظريةٌ تُحاكي تطوُّر اللغة لدى الطفل في شيء منها، والفرضيات الدارونية النافية للغيب والجنة والأصل الآدمي، وربط الإنسان بسلالة الحيوان “القرد”، فيكمن تطور اللغة في تطور الكائن الحي من الأدنى “الخلية الأحادية” إلى الأعلى “القرد”، ثم إلى الأرقى “الإنسان”، وبداية تحول القرد للإنسان تقتضي نطق خصائص القرد الأولى “عدم النطق”.
رجَّح ابن تيمية اعتبار اللغة إلهامًا في الأصل، فالإنسان يلهم الكلام كما يلهم الحيوان الأصوات التي يتفاهم بها.
فإذا كان للنوع الحيواني منطق يتواصل به غريزة وإلهامًا، كما في قوله – تعالى -: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ﴾ [النحل: 68]، وقوله حكاية عن سليمان: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 16].
فالنوع الإنساني لا يَخرج عن هذه السنة التي تَجري على الحيوان، فقد ألْهِم هو الآخر أن يُعبِّر عما يريده ويتصوَّره بواسطة الألفاظ؛ مصداقًا لقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 – 4]، فالإلهامُ كافٍ للنطق باللُّغات من غير مواضعة متقدمة، وإذا سُمِّي هذا توقيفًا، فليسمَّ توقيفًا، وحينئذٍ فمَنِ ادَّعى وضعًا متقدمًا على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علمَ له به، وإنَّما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال[15].
وخلاصة القول الذي ذهب إليه ابن تيمية يترجح من وجوه، أهمها:
1- أنَّ نصوصَ الوحي تكاد توحي بأنَّ الأصوات الموجودة هي من تعليم الله للإنسان، وهذا لا يتم إلاَّ بطريق الوَحْي المباشر أو بطريق الإلهام والقذف في القلب.
2- أنَّ الإلهامَ لا يتنافى مع التوقيف، فاللغة توقيف في الأصل، وإلهام بعد ذلك، كما أنه لا يتنافى مع التواضع والاصطلاح – عند القائلين به – لأنَّ أيَّ تواضع لا بد أن يكون مسبوقًا بالإلهام، الذي هو من دواعيه.
وقوله – تعالى -: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ﴾ [البقرة: 31]، فيه دلالة على أنَّ الله – سبحانه وتعالى – عَلَّم آدمَ اللغة الدالة على حقائق الأشياء أو صورها الذِّهنية المأخوذة عن وجودها؛ ذلك أنَّ الاسم من المفهومات التي يتوقف تعقُّلها على تعقل مسماها؛ إذ لا يكون الاسم بلا مسمى، فكان ذاك مُشْعِرًا أو متضمنًا للمسمى، والذي علمه آدم أعم من أنْ يكونَ مُجرد اللغة أو الألفاظ، بل يشمل المعاني الأولية السابقة للمعرفة أيضًا.
فالذي علمه آدم أعمُّ من أن يكون علمًا ضروريًّا، وأعم من أن يكون بطريق التلقين فحسب، أو بخلق القوة الناطقة فيه التي تضع الاسم إزاء المسمى، أو بالنظر والاستدلال؛ ذلك أنَّ الله – تعالى – إنَّما يؤهل آدم للتعامُل مع المخلوقات على وجه الأرض، وللقيام بدور الخلافة فيها، وذا مقامٌ يقتضي تأهيلَ القائم به؛ إذ هو في أول بداية له مع الأرض ومَن فيها، فهو مرسل لأداء مُهمة في غير المكان الذي خلق به، فيقتضي إلمامه بما يَجب عليه وما يُعينه على أداء واجبه، وإلا كلف بما لا طاقةَ له به، فاختيار الخليفة من مقام المستخلف، والتعيين سِمَة للمُعين، فضمنا آدم منح ما يؤهله للنُّزول للأرض، والاستمرار فيها، والإعمار والخلافة، وكلها يلزمها معارف سابقة رأسُ مربطِها اللغةُ، وأولُ الكلام بين آدم وحواء، وبينهما وبين ذريتهما، فإن كان التلقين والنظر والاكتساب والمواضعة ثم الاصطلاح – قائمًا في مَن بعد آدم، فهل هو جارٍ معه؟
ويُمكن الجمع بين هذه الأقوال جميعًا – وهو الأولى – بالقول بأنَّ اللغة توقيف وإلهام في الأصل، ثم تواضع الناس عبر التاريخ على وضع ألفاظ معينة، ولا مانعَ مِنْ وَضْع بعض الألفاظ مُحاكاة للأصوات الموجودة في الطبيعة، فجاز لأجل ذلك كله اختلافُ اللغات وتبايُنُها، وبهذا الرأي تندفع القوادح التي تلزم كل رأي على حِدَة.
________________________________________
[1] “الخصائص”، لابن جني 1/ 33.
[2] “البرهان في أصول الفقه”، الجويني، ج1، ص135.
[3] “نهاية السول شرح منهاج الوصول”، جمال الدين عبدالرحيم الإسنوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط (1)، 1999م، ج1، ص160.
[4] “المقدمة”: ابن خلدون، ج2، ص 295.
[5]”المحصول في علم أصول الفقه”، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، دراسة وتحقيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (2)، 1992، ج2، ص183.
[6] “البحر المحيط”، الزركشي، ج2، ص154.
[7] “الخصائص”: ج1، ص 42.
[8] “البرهان في أصول الفقه”؛ عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني أبو المعالي، دار الوفاء: المنصورة، ط (4)، 1418.
تح : عبدالعظيم محمود الديب. ج1، ص130.
[9] “الأشباه والنظائر”، تاج الدين عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط(1)، 1991م، ج2، ص113.
[10] “المحصول”، الرازي، ج3، ص34.
[11] “المجلى في شرح القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى”، كاملة الكواري، دار ابن حزم، بيروت، ط (1)، 2002م، ص 118.
[12] “البحر المحيط”، الزركشي، ج2، ص144.
[13] “المزهر”، عبدالرحمن بن أبي بكر، ص 5.
[14]”المزهر في علوم اللغة”: عبدالرحمن بن أبي بكر، ص 8.
[15] “مجموع الفتاوى”، مج 7، ص 97.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد