نسائم الإيمان ومع السيده هاجر أم إسماعيل
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
السيدة هاجر هي الزوجة الثانية لسيدنا إبراهيم عليه السلام ، وكانت جارية لزوجته الأولى السيدة سارة فزوَّجته إياها لكي تقرَّ عينه بولدٍ، وبعد أن تزوَّج سيدنا إبراهيم عليه السلام ، من هاجر رزقه الله بأوَّل ولدٍ له وهو سيدنا إسماعيل عليه السلام ، وقد ذكر ابن كثير أنَّها كانَت أميرةً من العماليق وقيلَ أيضًا من الكنعانيين الذين حكموا مصر قبل الفراعنة .
وأنَّها بنتُ زعيمهم الذي قتلَهُ الفراعنةُ، ومن ثمَّ تبنَّاها فرعونُ ، وعندما أرادَ فرعونُ سوءًا بسارةَ دعَت اللهَ فشلَّت يداه، فقالَ فرعونُ: ادعي ربَّك أن يشفي يدايَ وعاهَدها أن لا يمسَّها، ففعلتْ فشفى اللهُ يديه، فأهدَى إليهَا الأميرةَ القبطيَّةَ المصريَّةَ “هاجر” إكرامًا لها وليسَ خادمةً .
واختلفت الروايات التاريخية حول وضع السيدة هاجر الاجتماعى، حيث ذكر بعض اليهود أنها كانت جارية لدى فرعون، وقيل أنها كانت ابنة لفرعون مصر، وتنادى بعض الأصوات النوبية بأن مسقط رأسها فى بلاد النوبة، جنوبى مصر، مستندين إلى أصل التسمية وأن (ها) بالهيروغليفي معناها زهرة اللوتس، وكلمة (جر) معناها أرض جب بالمعنى التوراتى (مصر)، أى أن اسمها زهرة اللوتس وكنيتها المصرية .
كما أن اسم هاجر يقابله نفس النطق بالنوبية كلمة هاقجر التى تعنى الجالس أو المتروك، فى إشارة إلى تركها وحيدة فى مكة، فضلاً عن أنه من الثابت أن السيدة هاجر كانت تلبس ثوباً طويلاً فضفاضاً ليخفى آثار أقدامها، وهذا الوصف ينطبق على “الجرجار” وهو اللباس النسائى النوبى المعروف المستخدم حتى اليوم.
ولكن ماذا عن حياة السيدة هاجر قبل زواجها من نبى الله إبراهيم عليه السلام، وكيف سارت بعد واقعة بئر زمزم، ومتى توفيت؟ وعلى الرغم من ذكرها فى عدة مواضع بالسنة النبوية، إلا أن القرآن الكريم اكتفى بالإشارة إليها، دون ذكر اسمها صراحة، مثنياً على صبرها وقوة إيمانها فى المحن التى ألمت بها، وأبرزها عندما تركها نبى الله إبراهيم مع ابنها الرضيع فى الصحراء، فصبرت واستعانت بربها، ففجّر لها بئر زمزم، الذى تأتيه الوفود من كل صوب وحدب، وعاشت فى أمن وسلام بجانب بيت الله الحرام .
وما لبث أن زادها الله تكريماً بعدما نجحت فى الاختبار الثانى والأصعب على أى أم ترى ابنها يقدم كذبيح، حينما أمر الله نبيه إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، فصبرت بقوة إيمانها راضية بقضاء الله بنفس مطمئنة، ففدى الله ولدها بذبح عظيم، وتحولت إلى سنة مطهرة يفعلها المسلمون كل عام تقرباً إلى الله تعالى.
وبعد أن ولدت السيدة هاجر إسماعيل عليه السلام كان سيدنا إبراهيم عليه السلام ، في السادسة والثمانين من عمره، وزوجته سارة قد بلغت سنَّ اليأس من الإنجاب وأصبحت عجوزًا، وازدادت غيرةُ سارة، وكانت قد أدركت السيدة سارة، زوجة سيدنا إبراهيم الأولى وكانت أحد أقاربه أو ابنة عمه، كما يحكى كتاب السير، أن نفسه تشتاق إلى الولد، ولم يكن الله قد رزقهما، فأرادت، بحكمتها البالغة ومراعاة لمشاعر زوجها وإدراكها للأمور جيداً، أن تختار له زوجة أخرى، فكانت “هاجر” التى أنجبت له نبى الله إسماعيل عليه السلام.
وحسب كتاب التاريخ والسير أيضاً، وجدت الغيرة طريقها إلى قلب سارة، وربما أحست تراجع مكانتها فى قلب زوجها، فطلبت منه أن يأخذ هاجر بعيدًا، وهو ما حدث، فاصطحبها إلى صحراء مكة، بأمرٍ من الله، ليتركها بصحبة رضيعها فى تلك الصحراء وتمتثل هاجر لأمر ربها بصدق .
وبدأ إبراهيم يناجي ربَّه ليساعده ويعينه على التوفيق بين الزوجتين، فبشَّره الله تعالى بولدٍ آخر من سارة، فقال تعالى: ( فبشَّرنَاهَا بإِسحَاقَ ومِنْ ورَاءِ إسحَاقَ يعقُوبَ ، قالَت يَا ويلَتَا أأَلِدُ وأنَا عجوزٌ وهذَا بعلِي شيخًا إنَّ هذَا لشيْءٌ عجٍيب ، قالُوا أتَعجَبِينَ منْ أمْرِ اللَّه رحمَةُ اللَّه وبرَكَاتُهُ علَيكُمْ أهلَ البَيتِ إنَّهُ حمِيدٌ مجِيدٌ )، وبعد أن أصبح عمر إسماعيل عليه السلام خمس سنين أنجبَت السيدة سارة سيدنا إسحاق عليه السلام .
فصار لإبراهيم ولدان، إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة عليهم السلام أجمعين، بعد ذلك أمرَ الله سبحانه وتعالى ، إبراهيم الخليل لحكمة يعلمها تعالى أن يُخرجَ إسماعيل وأمَّه هاجر إلى مكانٍ بعيدٍ عن سارة التي ازداد غمُّها وهمُّها بسبب هاجر وولدها بعد أن أصبح عندها ولدًا أيضًا، فأطاع إبراهيم أوامر ربِّه وخرج بزوجته وولده وكان كلَّما وصل إلى مكان فيه زرعٌ وشجر .
قال: هاهنا يا ربِّ؟، فيقول جبريل: امضِ يا إبراهيم. وظلَّ يمشي هو ومن معه حتى وصلوا إلى مكَّة المكرمة في وادٍ غير ذي زرعٍ كما قال تعالى، وعندما أراد إبراهيم أن يتركهما في ذلك المكان القاحل، حيثُ لا ماء ولا كلأ، وليس معهم إلا كيس تمر وقربة ماء، فخافت هاجر كثيرًا على نفسها وعلى ولدها من الهلاك .
فصارت تتمسَّك بإبراهيم لتمنعه من الذهاب وتقول له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الذي لا أنيس فيه ولا زرع ولا ماء، ألا تخاف أن نهلك هنا جوعًا وعطشًا؟، فرقَّ قلبه عليهما ولكنَّ هذا أمر ربِّه وليس له حيلةٌ في هذا الأمر، ولكنَّ هاجر ألحَّت عليه كثيرًا في السؤال، فقال لها: إنَّ الله هو الذي أمرَني بتركِكم في هذا المَكان، ولَن يضيِّعكم الله تعالى ، فسكتت السيدة هاجر وقالت بعد ذلك: إذن لا يضيعنا.
ففى صحراء مكة القاحلة، مترامية الأطراف، تركها زوجها بصحبة طفلها الرضيع ومضى فى طريق عودته، تاركاً لهما تمراً وماءً، وعندما سألته أتتركنا فى هذا الوادى دون أنيس، لم يلتفت إليها، متيقناً أن الله لن يضيعهما أبداً، إنها السيدة “هاجر” زوجة نبى الله إبراهيم عليه السلام.
فمنذ اللحظة الأولى أيقنت “هاجر”، رضى الله عنها، المعنى الحقيقى للإيمان بالله تعالى، وصدق وعده لنبيه عليه السلام، فقدمت أروع الأمثلة فى الطاعة عندما قالت دون تردد، “إذن فإن الله لن يضيعنا”، فاستحقت المكافأة الإلهية بأن وفاها الله وأجزل فضله عليها فعطر ذكرها وأعظم ذكراها ودفنها بجوار بيته وآنسها فى وحشتها ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب، وتحول مكان سعيها بين الصفا والمروة إلى ركن من أركان الحج، وجعل خاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلق أجمعين محمد، صلى الله عليه وسلم، من نسلها المبارك.
ثمَّ رفعَ إبراهيم يديه داعيًا متضرِّعًا إلى الله عز وجل، كما وردَ في كتاب الله العزيز على لسان إبراهيم عليه السلام ( ربَّنَا إنِّي أَسكَنْتُ منْ ذرِّيَّتِي بوَادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عنْدَ بيتِكَ المحَرَّمِ ربَّنَا ليُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجعَلْ أَفْئدَةً منَ النَّاسِ تهوِي إِلَيهِمْ وارزُقْهُمْ منَ الثَّمرَاتِ لعَلَّهُمْ يَشكُرُونَ) ثمَّ عاد إلى بلاد الشام وليس في يده حيلة إلا الدعاء والتضرع ، وبعد أن نفدَ التمر والماء منهما وبدأ الجوع والعطش يسري في العروق ويزداد، وصار إسماعيل يتلوَّى ويتمرغ بالتراب من الألم .
هرعت إلى الجبل حيث الصفا ، علَّها أن ترى أحدًا ليساعدها لكنَّها لم ترَ أحدًا، ثمَّ عادت إلى تلَّةٍ أخرى وهي المروة وهكذا انتقلت من هذه التلة إلى تلك سبع مرات وعندما يئست من ذلك عادت إلى طفلها فوجدت الماء ينبع من تحت قدميه، حيثُ أرسل الله تعالى الملائكةَ لتشقَّ نبعًا عند إسماعيل، وهو ماء زمزم الذي شملت بركاته الناس أجمعين من ذلك اليوم وإلى يومنا هذا.
وفي قصة السيدة هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام ، الكثير من العبر والمواعظ التي يجب على المسلمين أن يعتبروا منها، فأولى سمات هذه القصة المؤثرة الصبر الذي ظهرَ في سلوك سيدنا إبراهيم عليه السلام ، عندما صبر على أمر ربِّه وأطاع راضيًا، وفي صبر السيدة هاجر عليها السلام عندما تركها إبراهيم مع ولدها وعاد إلى الشام .
فقد صبرت هي وإبنها على الوحشة والجوع والعطش استجابة لأوامر الله تعالى، ومن مضامين قصة السيدة هاجر أيضًا التوكُّل على الله تعالى، ففي فعلِ إبراهيم صورةٌ عظيمة من صور التوكُّل على الله تعالى عندما ترك زوجته وولده وحيدين في مكان لا ماء ولا زرع فيه وقال لهما: لن يضيعكم الله تعالى ، فقالت السيدة هاجر مردِّدةً: إذن لا يضيعنا .
وفيها أيضًا الرضى بقضاء الله وقدره خيره وشرِّه وألا يعترض المؤمن على ما ارتضاه الله له، وأنَّ طاعة الله تعالى مقدَّمة على النفس والزوجة والولد ومع الطاعة يأتي الفرج في النهاية مثلما أخرجَ لهما ماء زمزم ورزقهما بعد ذلك من كلِّ الثمرات، فقال تعالى: ( فإنَّ مع العسر يسرا ، إنَّ مع العسر يسرا .
وأتفق المؤرخون حول مسقط رأس السيدة هاجر وأنها ولدت فى مصر، بمنطقة تل الفرما التى تبعد عن محافظة بورسعيد بعدة كيلو مترات، وبحسب ابن هشام فى سيرته فإنها ولدت فى قرية الفرما، وهى مدينة مصرية فى أقصى الدلتا على مقربة من بحيرة تنيس، ويذكر العرب أن أبوابها المشهورة التى قال عنها نبى الله يعقوب “يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ” .
وكانت المدينه تعنى بالقبطية بيت آمون، وذكرت فى التوراة باسم “سين” أى قوة مصر، وأصبح اسمها الفرما، وتعرضت لعدوان الروم البيزنطيين، وبنى فيها الخليفة العباسى المتوكل حصناً يطل على البحر ليحميها من تلك الهجمات عام 239 هجرية ، وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، ” إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما”، فأما الرحم التى ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم؟ كانت هاجر أم إسماعيل منهم”.
وبعد قصة بئر زمزم ، أيقنت رضى الله عنها أن وراء هذا الاختبار فرجاً، ولكنها لم تكن تدرى كيف السبيل لذلك، وقد نأى عنها زوجها وتركها فى تلك الصحراء الواسعة، فجلست تضم صغيرها وتدعو الله أن يغفر لها، وما لبثت أن نفد منها الزاد والماء، وبدأ صغيرها فى البكاء عطشا، فقامت تبحث له عن الماء، وكان سعيها بين جبلى الصفا والمروة سبعة أشواط تعتلى فى كل مرة جبلاً وتنظر حولها، لعلها تجد أثراً للماء، فلم تجده .
حتى كان فرج الله الذى أرسل جبريل فضرب بعقبه الأرض ففجر نبعاً، وعادت الأم لتجد نبع الماء عند ولدها، فجعلت تزم التراب حوله ليتجمع، ولذلك سمى زمزم. ويقول عنه النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، “يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ ـ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ – لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا » ” رواه البخارى .
وبعد أيام مرّ على السيدة هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس من قبيلة “جُرْهُم”، وأرادوا البقاء فى هذا المكان بعدما رأوا ماء زمزم، فسمحت لهم بالسكن بجوارها، واستأنست بهم، وشبَّ الطفل الرضيع بينهم وتعلم اللغة العربية، ولما كبر تزوج امرأة منهم ، ويقول عبد الله بن عباس: قال النبى عليه الصلاة والسلام فألفى ذلك أم إسماعيل وهى تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم وكان للسيدة هاجر بينهم مكانتها الكبيرة ومقامها الرفيع وكلما زاد العمران على المكان سعدت السيدة هاجر بذلك وشب إسماعيل وتعلم اللغة العربية من قبائل جرهم التى جاءت إلى المكان لتسكن وتستقر.
وقد ماتت السيدة هاجر عن تسعين عاماً ودفنها إسماعيل عليه السلام بجانب بيت الله الحرام، رحلت وتركت لنا مثالاً رائعاً المؤمنة والزوجة المطيعة والأم الحانية، وفاها الله وأجزل فضله عليها فعطر ذكرها وأعظم ذكراها ودفنها بجوار بيته وآنسها فى وحشتها وآمنها فى غياب زوجها ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب، وعرف قبرها بـ”حجر إسماعيل”، أى المكان الذى تربى فيه أحد المرسلين السماويين وأصبح جزءاً من المطاف، ويعد الطواف حول الكعبة دون المرور حوله باطلاً.
هذه هى هاجر أم العرب الكنعانيين وأم الذبيح إسماعيل، التى ضربت أروع الأمثلة للمرأة المؤمنة والصالحة، امتثلت لتنفيذ أوامر الله بإيمان وصبر فاستحقت الثواب الإلهى بأن رفع الله تعالى مقامها، من الطبقة الدنيا بوضع قبرها بجوار الكعبة المشرفة وتحول مكان مسعاها بولدها بين الصفا والمروة أحد أركان الحج الذى يأتيه المسلمون كل عام من كل حدب وصوب، كما شرفت بأن أرسل خاتم النبيين وأفضل البشر من نسلها المبارك.