نسائم الإيمان ومع الإمام إبن أبى الدنيا
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
إن العلماء هم من انطبقت عليهم الخيرية التي حددها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في قوله ” من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ” ويؤخذ من ظاهر الحديث أن من لم يرد الله به خيرا لا يفقه في الدين بمفهوم المخالفة، وفيه فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه.
والعلماء لا يستوون هم وبقية الناس ، فهل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله؟ إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل، وهل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، فلا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شرا .
والعلماء هم ورثة الأنبياء فيما جاءوا به، فهم قد ورثوا منهم العلم لما وقد ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ”
والإمام إبن أبى الدنيا هو الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي الملقب بإبن أبي الدنيا ، وقد طغى لقبه على اسمه حتى اشتهر به ، وقد ولد الحافظ أبو بكر في مدينة بغداد، في أوائل القرن الثالث الهجري سنة ثمان ومائتين من الهجره .
فهو أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشي، ويُكنى بابن أبي الدنيا وهو مولى بني أمية، وكان لمولده تأثيرا كبيرا في التطوير الفكري حيث نهضت حركات من الإبداع في الآداب والتراجم المختلفة التي تشرَب منها ابن أبي الدنيا وأثرت على فكرة تأثيرا إيجابيا وأساسيا .
وهو الحافظ، المحدث، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، وكان مؤدب أولاد الخلفاء ، وكان من الوعاظ العارفين بأساليب الكلام وما يلائم طبائع الناس، وإن شاء أضحك جليسه، وإن شاء أبكاه ، وقد وثقه أبوحاتم وغيره ، وقد صنّف الكثير حتى بلغت مصنفاته مائه وأربعه وستين مصنفا منها: العظمة ، والصمت ، واليقين ، وذم الدنيا ، والشكر ، والفرج بعد الشدة وغيرها.
وقد ذُكر أن ابن أبي الدنيا رحمه الله شرب من مناهل العلم على يد العديد من مشايخ مدينة بغداد، وأقدمهم سعد بن سليمان سعدوية، وقد تعَلم أفضل العلوم والمعارف وأصعبها حتى أصبح موسوعة في العلم والأخبار، ثم بدأ بوعظ الناس وإرشادهم فقد تعلم بين يديه الكثيرون، وكان رحمه الله يتصف بالصدق، والشدة والرخاء في آن واحد، وكان ذلك سببا في اختياره لتعليم أولاد الخلفاء فقد أخذ منه العلم المعتضد ثم ابنه المكتفي.
وقد اعتبر ابن أبي الدنيا أن الاقتصاد نظام ربّاني مقيد بالشرع، وقال بوجوب المحافظة على رأس المال والعمل على زيادته ، وإلا سيكون معرضا للضياع والزوال، كما راعى المصلحة العامة، وحض على الانتفاع من ثروات الأرض وخيراتها، واعتبر أن المال ما هو إلا وسيلة للتقرّب من الله سبحانه ونيل مرضاته.
وقد قيل عنه ، إذا أراد أن يبكي شخصا أبكاه، وإذا أراد أن يضحكه أضحكه ،
قال أبو بكر بن شاذان: أن أبو ذر القاسم بن داود، حدثني عن ابن ابي الدنيا؛ قال: دخل المكتفي على الموفق ولوح بيده فقال مالك لوحك بيدك فقال مات غلامي واستراح من الكتاب قال ليس هذا من كلامك كان الرشيد أمر ان يعرض عليه ألواح أولاده فعرضت فقال لابنه ما لغلامك ليس لوحك معه قال مات واستراح من الكتاب .
قال وكأن الموت أسهل عليك من الكتاب قال نعم قال: فدع الكتاب قال: ثم جئته فقال: كيف محبتك لمؤدبك ؟ قلت: كيف لا أحبه وهو أول من فتق لساني بذكر الله وهو مع ذاك إذا شئت اضحكك وإذا شئت ابكاك قال يا راشد أحضرنى هذا قال فأحضرنى ثم ابتدأت في أخبار الخلفاء ومواعظهم فبكى بكاء شديدا قال وابتدأت فذكرت نوادر الأعراب فضحك ضحكا كثيرا ثم قال لي شهرتنى شهرتنى .
ويعد ابن أبي الدنيا أحد علماء الرواية، وأكثرهم تصنيفا في القرنين الثالث والرابع الهجري، كما ألف في مختلف المجالات: كالقراءات، والحديث، واللغة، والأدب، والتاريخ والسير، وقد أعطى بالغ اهتمامه للتأليف في الزهد والرقاق ، ليُصبح بهذا أحد أئمة عصره في هذا المجال
وقد أدرك ابن أبي الدنيا العصر العباسي ، وعاصر العديد من الخلفاء العباسيين، وهم على التوالي: المأمون، والمعتصم بالله، والواثق بالله، والمتوكّل على الله، والمنتصر بالله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمهتدي بالله، والمعتمد على الله، والمعتضد بالله.
وقد لاقت مؤلفات ابن أبي الدنيا قبولا كبيرا من العلماء المتقدمين ، حيث وصفها ابن كثير بالمؤلفات النافعة، والشائعة والرائعة، كما وصفها السيوطي بالتصانيف المشهورة المفيدة، ووصفها ابن تغري بردي بالتصانيف الحسان .
كما لاقت أيضا اهتمام بعض الباحثين المعاصرين ، حيث عملوا على إخراجها من المكتبات والخزائن إلى مؤلفات مطبوعة، وقد وصلت كتبه المطبوعة إلى ثلاثة وأربعين كتابا ، وقد مات ابن أبي الدنيا في جمادي الأولى سنة إحدي وثمانين ومائتين فى بغداد .