نسائم الإيمان ومع الإمام الدار قطنى
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
إن العلماء هم سادة الناس وقادتهم الأجلاء، وهم منارات الأرض، وورثة الأنبياء، وهم خيار الناس، المرادُ بهم الخير، والمستغفَرُ لهم ،وللعلماء فضل عظيم ، إذ الناس محتاجون إليهم في كل حين، وهم غير محتاجين إلى الناس ، ولا شك أن بيان فضل العلماء يستلزم بيان فضل العلم ، لأن العلم أجلّ الفضائل، وأشرف المزايا.
والعلم هو أعزّ ما يتحلى به الإنسان، فهو أساس الحضارة، ومصدر أمجاد الأمم، وعنوان سموها وتفوقها في الحياة، ورائدها إلى السعادة الأبدية، وشرف الدارين، والعلماء هم حملته وخزنته وبين أيدينا عالم جليل ألا وهو الإمام الحافظ الدارقطنى .
وهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدارقطني ، والدارقطني نسبة إلى دار القطن، وهي محلّة ببغداد ، وهو الإمام الحافظ فريد عصره، فقد كان خبيرا بعلم الأثر ومعرفة العلل وأسماء الرجال، مع التقدم في القراءات وطرقها وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف والأنساب والأدب، ومن مؤلفاته هو كتاب السنن، وكتاب العلل، وكتاب الفوائد الأفراد .
وقد وُلد الدارقطني سنة ست وثلاثمائة من الهجره ، وكان الدارقطني رحمه الله يحب العلماء والإقبال عليهم وملازمتهم، ومن هؤلاء العلماء أبو محمد الحسن بن أحمد بن صالح الهمداني السبيعي الحلبي، وكان حافظا متقنا، وقد سمع وروى عنه الدارقطني .
وكان وجيها عند سيف الدولة، وكان يزوره في داره ، وكان الحافظ أبو محمد هذا قد طاف الدنيا وهو عسر الرواية، وكان الدارقطني يجلس بين يديه كجلوس الصبي بين يدي معلمه هيبة له ، وقال: قدم علينا حلب الوزير جعفر بن الفضل، فتلقاه الناس وكنت فيهم، فعرف أني من أصحاب الحديث، فقال: أتعرف حديثا فيه إسناد أربعة من الصحابة كل واحد عن صاحبه؟ فقلت: نعم، حديث السّايب بن يزيد .
وهو عن حويطب بن عبد العزّى، عن عبد الله بن السّعدي، عن عمر بن الخطاب في العمالة ، فعرف صحة قولي فأكرمني ، وقد سمع الدارقطني من أبي القاسم البغوي، وخلقٍ كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط ، وقد أخذ العلم عن الدارقطني محمد بن الحسن الشيباني، وصعصعة بن سلام، وأبو معاوية الضرير، وغيرهم.
وقد نشأ الدارقطني في بيت علم وفضل، فقد كان أبوه من المحدثين الثقات ، وقد شاهده في صباه وهو يتردد على حلقات العلم والسماع، ويدون مسموعاته ومروياته ويقضي سحابة نهاره تعلما ودراسة، فحُبب إليه طلب العلم والسعي في تحصيله منذ نعومة أظافره وقد ساعده على ذلك مامنحه الله من استعداد فطري ووذهن حاد وتعطش شديد للمعرفة وحافظة واعية فقد كتب عن نفسه أنه كتب في أول سنة ثلاثه مائة وخمسة عشر، وكان عمره إذ ذاك تسع سنوات.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: لم يرَ الدارقطني مثل نفسه ، وقال ابن الجوزي: وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلمُ بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعداله وصحة العقيدة ، وقال ابن كثير: هو الحافظ الكبير أستاذ هذه الصناعة وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، فقد سمع الكثير وجمع وصنّف وألّف وأجاد وأفاد .
وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحدهِ، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطّلاع التام في الدراية.
وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: لم يتكلم على الأحاديث مثل علي بن المديني في زمانه، وموسى بن هارون في زمانه، والدارقطني في زمانه ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي فيما نقله عنه الحاكم: شهدت بالله إن شيخنا الدارقطني لم يخلف على أديم الأرض مثله في معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصحابة وأتباعهم .
وكانت بغداد في عصر الدارقطني تزخر بالشيوخ من أهل العلم والرواية، وكان العلماء المشهود لهم بالمعرفة والحفظ يؤمُونها كافة الأقطار الإسلامية، فتعقد لهم مجالس التحديث والإملاء ، ولهم تخصصات متعددة تمثل ثقافة عصرهم، وكان الدارقطني حريصا على الإفادة منهم، وسماع مروياتهم، والأخذ عنهم، والتفقه بهم، وقد أتاحت له حافظته الواعية، وشغفه البالغ ودأبه في الطلب أن يستنزف علومهم، ويستوعب مروياتهم .
إلا أنه وهو شديد الرغبة في الاستزادة من العلم لم يقنع بما أخذه عن شيوخها، فشدَ الرحال إلى عدد من البلاد الإسلامية ليلتقي فيها بالحفاظ وأهل العلم، ليسمع منهم ويكتب عنهم ، فإرتحل إلى الشام ومصر، وقد قال الأزهري : لما دخل الدارقطني مصر كان بها شيخ علوي من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له : مسلم بن عبيدالله، وكان عنده كتاب النسب عن الخضر بن داود، عن الزبير بن بكَار.
وكان مسلم أحد الموصوفين بالفصاحة المطبوعين على العربية فسأل الناس الدارقطني أن يقرأ عليه كتاب النسب، ورغبوا في سماعه بقرائته، فأجابهم عن ذلك، فقال له بعد القراءة المعيطي الأديب : يا أبا الحسن ، أنت أجرأ من خاصي الأسد، تقرأ مثل هذا الكتاب مع مافيه من الشعر والأدب، فلا يؤخذ عليك فيه لحنه ، وأنت رجل من أصحاب الحديث ، وتعجب منه .
وكان الدارقطني ذكيا ، إذا ذكر شيئا من العلم أي نوع كان ، وجد عنده منه نصيب وافر ، وإن كان كتاب العلل ، الموجود ، قد أملاه الدارقطني من حفظه ، كما دلت عليه هذه الحكاية ، فهذا أمر عظيم ، يقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدنيا ، وإن كان قد أملى بعضه من حفظه فهذا ممكن ، وقد جمع قبله كتاب العلل، علي بن المديني حافظ زمانه ، وقد تُوفي الدارقطني سنةَ خمس وثمانين وثلاثمائة، بعد حياة حافلة بالجد والحرص على تلقي العلوم ونشرها، وله من العمر سبع وسبعون سنة.