نسائم الإيمان ومع الإمام مسلم
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
هو الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري ،وقُشير قبيلة من العرب معروفة، ونيسابور مدينة مشهورة بخراسان من أحسن مدنها، وأجمعها للعلم والخير ، وقد ولد بنيسابور سنة مائتان وسته هجريا ونشأ في بيت اشتهر بالعلم وكان والده شيخا معلما يقصده الناس، وقد كان لذلك أثر فيما وصل إليه، كما كان حافزا له ليستزيد من العلم .
فقد نشأ الإمام مسلم في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده حجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فتربى الإمام وترعرع في هذا الجو الإيماني الرائع ، وقد بدأ الإمام مسلم رحمه الله ، رحلته في طلب العلم مبكرا، فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأ في سماع الحديث .
وكان من عادة الناس زمن الإمام مسلم أن يبعثوا أولادهم إلى الكُتَّاب ، لتعلم القرآن الكريم، وما يتبعه من علوم اللغة العربية، وكان الإمام مسلم ممن نشأ في هذه الأماكن، وكان لوالده عليه فضل كبير في تعليمه العلم الشرعي، فقد كان والده الحجاج بن مسلم شيخا من الشيوخ الذين تصدروا لتعليم الناس العلوم الشرعية، مما دفعه للالتزام في طلب العلم والبحث عنه.
وكان للإمام مسلم رحمه الله شيوخ كثيرون، بلغ عددهم مائتين وعشرين رجلا، وقد سمع بمكة من عبد الله بن مسلمة القعنبي، فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة والعراق والحرمين ومصر ، وخلف الامام مسلم الإمام البخاري في المكانة العلمية، وأصبح إمام خراسان في الحديث، واشتهر بأنه من حفّاظ الدنيا، وذاع صيته بين الناس، فمدحوه وأثنوا عليه، كما وقد ذاع صيته بين العلماء .
حيث إن علماء عصره ومن تبعهم أثنوا على غزارة حفظه، وكثرة علمه، ودقة ضبطه، وشدة ورعه، وقيل عنه إنه أعلم أهل الحديث، وقدّمه علماء عصره على غيره من العلماء كما قدّموا صحيحه على غيره من المؤلفات، ولم يخالف أحد من العلماء في عِظَم قدره وإمامته وتمكّنه في علم الحديث، وقد بان هذا جلياً في كتابه الصحيح الذي لاقى القبول حتى عصرنا الحالي .
وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرّر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرّق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.
ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله، فألَّف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها، وجمع الطرق والأسانيد، وبوَّبه على أبواب الفقه وتراجمه، ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله، وقد استدرك الناس عليه وعلى البخاري في ذلك ، وقال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلمًا يقول: “صنَّفت هذا الكتاب أى المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة”.
وقد استغرقت مدة تأليفه لهذا الكتاب خمسة عشر عاما، قال أحمد بن سلمة: “كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة” وقد ألَّفه في بلده، كما ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري حيث قال: “إن مسلمًا صنف كتابه في بلده، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق”.
ويعد صحيح مسلم من أصح كتب الحديث بعد صحيح الإمام البخاري، وبه عُرف الإمام مسلم وبه اشتُهر، بدأ بتأليف هذا الكتاب وعمره تسعة وعشرين عاما ببلدة نيسابور، وذلك بعد أن قابل العلماء هناك وأخذ عنهم، واستغرق منه خمسة عشر عاما حتى أنهاه، وذلك سنة مئتين وخمس للهجرة، وسمّاه المسند الصحيح المختصر من السنن ، بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأحاديث كتابه هي أحاديث مستقاة من بين ثلاثمئة ألف حديث سمعها من شيوخه أثناء تنقّله بين البلدان، وخَلَصَ إلى ثلاثة آلاف وثلاثةٍ وثلاثين حديثاً منها من غير تكرار، ويصل عدد الأحاديث مع تكرارها في الأبواب المختلفة إلى سبعة آلاف وثلاثمئة وخمسة وتسعين حديثاً، إضافةً إلى عشرة أحاديث ذكرها في مقدمة كتابه .
وقد اتصف الإمام مسلم بجميل الصفات والأخلاق، فقد كان ذا نشاطٍ كبير، وهمة عالية، وصبرٍ دؤوب في طلب العلم وتحصيله، حتى إنه كان يبحث ليلة كاملة عن حديثٍ حتى يجده، وكان يحب مساعدة الناس، وتفريج كروبهم وتيسير أمورهم حتى لُقِب بمُحسِن نيسابور، وكان كريم النفس، يتعفف عما في أيدي الناس فلا يقبل مِنَّة من أحد .
وكان حسن الخلق، كثير العبادة، غزير العلم، متجنباً للشبهات، وفيَّا شجاعا لا يخشى في الله لومة لائم، يقف مع الحق حيث كان، وتجلّى ذلك في وقوفه مع الإمام البخاري ضد خصومه ذوي القوة والسلطان ، وكان الإمام مسلم كامل القامة، أبيض الرأس واللحية، جميل الوجه، حسن الثياب، صاحب وقار، وكان يلبس عمامة على رأسه و يجعل طرفها بين كتفيه.
وقال أبو قريش الحافظ: سمعت محمد بن بشار يقول: “حُفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارِمِي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى” ونقل أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: “كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس، ومن أوعية العلم”.
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: “ما تحت أديم السماء أصحُّ من كتاب مسلم في علم الحديث” وقال عنه صاحب أبجد العلوم “والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ، وأعلم المحدثين، إمام خراسان في الحديث بعد البخاري”.
وقال أحمد بن سلمة: “رأيتُ أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان الامام مسلم ، في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما” وكانت من كلمات الإمام مسلم الخالدة ، هى قوله للإمام البخاري: “دعني أُقبِّلْ رجليك يا أستاذ الأُسْتَاذِينَ، وسيِّد المحدثين، وطبيب الحديث في علله”.
وقد جمع العلماء على جلالة قدره وإمامته، وتفوقه في صنعة الحديث وتضلعه منها وتفننه في تنظيم الأحاديث وترتيبها، كما يظهر من كتابه الصحيح الذي لم يوجد مثله في حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث من غير زيادة ولا نقصان، والاحتراز من التحول في الأسانيد عند اتفاقها من غير زيادة، وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في متن أو إسناد ولو في حرف،
وكذلك اعتنائه بالتنبيه على الروايات المصرحة بسماع المدلِّسين، وغير ذلك مما هو معروف في كتابه ، فهو أحد أعلام الحديث، وأهل الحفظ والإتقان، والرحّالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان، والمعترف له بالتقدم فيه، من غير خلاف عند أهل الحذق والعرفان، ولا يستغني عالم عن الرجوع إلى كتابه والاعتماد عليه في كل زمان.
وقد عاش الإمام مسلم خمسه وخمسين سنة، وكانت قصة وفاة الإمام مسلم غريبة ودالة على مدى اهتمامه بالعلم، فيذكر في وفاته أنه توفي الإمام مسلم في الخامس والعشرين من رجب عشية يوم الأحد، سنة مئتين وإحدى وستين للهجرة، عن عمرٍ يناهز خمسا وخمسين سنة.
وذُكر في سبب وفاة الإمام مسلم رحمه الله ، أنه كان في مجلس مذاكرة له، فذكر أحد الجالسين له حديثا لم يعثر عليه، فأصابه غم لعدم عثوره على الحديث، فرجع إلى بيته، وأنار السراج، وأغلق على نفسه يبحث عن الحديث ويأكل التمر حتى أكل سلّةً دون أن ينتبه على نفسه، وبسبب ذلك ثقل ومرض، وتُوفي ودفن في مدينة نيسابور ، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.