نسائم الإيمان ومع الإمام البخارى
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ، أبو عبد الله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه ، وقد وُلِد البخاري رحمه الله في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وولد يوم الجمعة بعد صلاتها، لثلاث عشرة ليلةً خلت من شهر شوَّال، بِبُخارى وقد ذكر البخاري أنه وجد تاريخ مولده بخط أبيه ، ومات أبوه وهو صغير .
وكان أبوه قد ترك مالا أعان أمه على تنشئته وتربيته التربية الكريمة، وقال أبوه إسماعيل عند وفاته ، لا أعلم في مالي درهما من حرام ولا شبهة ، فنشأ في حجر أمه، فألهمه الله حفظ الحديث ، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا.
وقد أسلم المُغيرة جد إسماعيل، على يد اليمان الجعفى، فنسبوه إليه،فكان يُقال له:إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة الجعفى ، ولم تكن زوجة إسماعيل بأقل منه صلاحا،بل ثبتت لها كرامة تواتر ذكرها فى كتب المُؤرّخين، وهى أن طفلها الصغير محمدا ، فقد بصره، فدعت الله تعالى أن يرده عليه، وذات ليلة أتاها نبى الله الخليل إبراهيم عليه السلام ، فى المنام،و بشّرها بأن الله تعالى قد استجاب لكثرة دعائها،واستيقظت لتجد الغلام مُبصرا بقدرة الله و حوله و قوته .
وقد روى عنه خلائق وأمم، وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم تتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم، وقد دخل بغداد ثماني مرات، وفي كلٍّ منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد، ويلومه على الإقامة بخراسان.
وقد ظهرت عليه علامات النبوغ المُبكر، ورزقه الله تعالى ذاكرة حديدية نادرة، وألهمه حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، فلزم مجالس المُحدّثين، وأخذ عنهم كل ما فى جعبتهم، وكان يحفظ من الأحاديث الشريفة فى أيام ما يستغرق غيره فى حفظه شهورا وسنوات، ولا يكتب عند شيوخه، بل يسمع منهم مرة واحدة، فيحفظ ما سمعه فورا عن ظهر قلب، ويكتب رفاقه، ثم يُراجعون و يُصحّحون ما كتبوا على ما حفظ البخارى.
وتميز الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات هي التي صنعت الإمام البخاري ، وكان منها هو الإقبال على العلم ، فقام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة، فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يُطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة ، وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة.
وقد دخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركَّبوا أسانيد، وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرءوها على البخاري، فردَّ كل حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يجدوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنع في بغداد.
وكان من كرم البخاري وسماحته ، إنه كان لا يفارقه كيسه، وكان يتصدق بالكثير، فيأخذ بيده صاحبَ الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد ، وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم”.
وكانت من كلمات البخاري : لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة ، وما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه ، ومع فضله و علمه وصحة أحاديثه، كان الإمام مسلم نفسه من تلاميذ الإمام البخارى ، وثبت أن مسلما لقي البخارى يوما، فقبّل رأسه ويديه .
وقال له تواضعا واعترافا بعلمه و فضله: “دعنى أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المُحدّثين، وطبيب الحديث فى عِلَلِه ” وقال له مرة أخرى ،بعد أن صحّح له البخارى إسناد حديث “لا يُبغضك إلّا حاسد، وأشهد أنه ليس فى الدنيا مثلك” وكذلك كان الباقون من مشاهير أصحاب دواوين السُنّة، كالترمذى وابن ماجه والنسائى والحاكم والبيهقى ومن دونهم، من تلاميذ البخارى .
وصحيح البخاري ، هو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبةً ، فقد بذل فيه صاحبه جهدا خارقا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عاما، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث ، ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: “كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع “الجامع الصحيح”.
وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثًا، اختارها من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدققا في قبول الرواية، واشترط شروطا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
وكان البخاري لا يضع حديثا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين ، وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح ، ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.
وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، وقد أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.
وذات يوم أصاب سهمه وتد قنطرة على نهر فكسره، فأرسل إلى صاحب القنطرة،طالبا منه السماح له بإصلاحه على نفقته، وكان صاحبها من أهل العلم، فرد علي البخارى قائلًا:”بل القنطرة و جميع مالى فداء لك” ففرح البخارى بسماحة الرجل و عفوه، وتصدق بمئات الدراهم، وأملى على تلاميذه فى ذلك اليوم خمسمائة حديث .
وكان رضى الله عنه مستجاب الدعوة، وقد عاين بنفسه استجابة الله تعالى له فى الحال ، فامتنع بعد ذلك عن طلب شىء من ربه من حاجات الدنيا ، خشية أن ينقص من حسناته ، و كانت من صفاته العطرة كذلك أنه كان يتجنّب الغيبة والنميمة تماما،حتى فى الوصف الضرورى لأحوال رواة الأحاديث ، لبيان ما إذا كان الراوى صالحا للنقل عنه أم لا .
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنةَ ست وخمسين ومائتين، وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء، وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر، وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به، وحينما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أيامًا، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره، وشهدت جنازته أعداد هائلة من الناس .
وقد فاحت من قبره رائحة زكية لم يشمّ أحد منهم مثلها، فكانوا يتنافسون على اقتناء بعض ترابه، واضطر تلاميذه إلى إقامة حواجز حوله، لمنع تجريف تربته ، ويُروى أيضا أن أعمدة من نور خرجت من قبره عند دفنه ، ونور علمه وبركته يُنير الطريق للسالكين، إلى يوم الدين ، وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.