نسائم الإيمان ومع الحجاج بن يوسف الثقفى ( الجزء الخامس )
إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى
ونكمل الجزء الخامس من سيرة الحجاج بن يوسف الثقفى، حيث كان الحجاج بن يوسف الثقفى، يرى بتكفير الخارج على السلطان، وطرده من الملة، وفي ذلك قال مخاطبا: قطري بن الفجاءة في رسالة أرسلها له: “فإنك قد مرقت من الدين مروق السهم من الرمية” وقيل بعد موته أن رجلا رفض الصلاة خلف إمامه، وقال ما أصلي خلف خارجي، فقال له أحد أئمة البصرة: إنما تصلي لله ليس له، وإنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي، قال: و من ذاك؟
قال: الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافرا و أخرجك من الملة، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة، وبالغ الحجاج في شأن الطاعة، و قمع همم الناس، ونفوسهم، وغاياتهم، فوافق الأمويين في أعمالهم، وأذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله، فلا يجوز الخروج على السلطان، وأما من خرج فقد حل دمه، وسُمي كافرا، وقد شاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعا كبيرا، و كان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته، وثبت فكرة الإصطفاء، والحق الإلهي، وبالغ في تعظيم السلطان.
وكان للحجاج الكثير من المواقف، و الحكايات الشهيرة، والأقوال الفصيحة، والرسائل، والخطب، والتوقيعات، وله مجموعة أشعار متفرقة، فقصص الحجاج و أخباره كثيرة جدا، وموجودة في كتب التاريخ، ما يدل على عظم نفوذه، ولا زالت أقواله باقية إلى اليوم، ومذهبه في الحكم باق إلى اليوم، وقيلت فيه الكثير من الأبيات بعد موته، والتي تذمه، كما قيل في حياته.
وقيل عن الحجاج أنه كان، بليغا فصيحا، محبا للشعر كثير الاستشهاد به، تقيا، مُعظما للقرآن و آياته، كريما، شجاعا، و له مقحمات عظام و أخبار مهولة، وقيل أنه كان أخفش العينين، أضفعت بصره كثرة النظر في الدفاتر، كان يتزيا بزي الشطار، فيرجل شعره و يخضب أطرافه، وكان يصعد على المنبر فيتكلم بكلام الملائكة، و ينزل فيفعل فعل الشياطين.
وكانت العلاقة بين الحجاج و أهل العراق هي من أكثر العلاقات تعقيدا وطرافة، ومن أكثرها ترويعا في التاريخ الإسلامي، فالحجاج وُلي على العراق كارها لأهلها، وهُم له كارهون، واستمرت العلاقة بينهم بالإجبار والإكراه، وكان الحجاج دائم السب لأهل العراق في خطبه، فكثيرة خطبه التي يذكر فيها أهل العراق بشكل سيئ، و التي يرى فيها العراقيون إساءة إلى اليوم.
فدائماً كان يذكرهم ويقول: “يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق ” إلى آخر خطبه، والتي يمعن فيها في ذكر صفاتهم: “فإنكم قد اضجعتم في مراقد الضلالة ” وغير ذلك من الخطب الكثيرة فيهم، كراهة منه لهم، و كراهة منهم له، ومن ذلك أنه لما أراد الحج استخلف ابنه محمد عليهم، وخطب فيهم أنه أوصى ولده بهم بغير وصية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في الأنصار، أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم.
فقد أوصاه ألا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، وقال لهم: أعلم أنكم تقولون مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفكم لي، لا أحسن الله لك الصحابة، وأرد عليكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة، وأنهم شمتوا به يوم فُجع بولده محمد، و أخيه محمد في نفس اليوم، فخطب فيهم متوعداً إياهم، ومن ذلك أنه مرض فشاع بين الناس موته، فخرج أهل العراق محتفلين بموته، غير أنه قام من مرضه ليخطب فيهم خطبة قال فيها: “وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت”
أما أهل الشام فكانوا أكثر الناس محبة للحجاج، وأكثرهم نصرة له، وبكاء عليه بعد مماته، وقيل أنهم كانوا يقفون على قبره فيقولون رحم الله أبا محمد، وكان الحجاج محبا له، دائم الإشادة بخصالهم، والرفع من مكانتهم، وكان كثير الاستنصار بهم، ومعظم جيشه كان منهم، و كان رفيقا بهم، ومات الحجاج ليلة السابع والعشرين من رمضان عام خمسه وتسعين من الهجره، وذلك في الروايات المجمع عليها.
وقيل أنه كان موت الحجاج بسرطان المعدة، وقبلها مرض مرضا شديدا، حتى كان يشعر بالبرد ولو قربوه من النار حتى تكاد تحرق بعض ثيابه، وقيل أن الدود أكل بطنه، فأمر الوليد بن عبد الملك أن يُدعى للحجاج بالشفاء على المنابر في كل الدولة، وقد ترك الحجاج وصيته، و فيها قال أنه لا يعرف سوى طاعة الله والوليد بن عبد الملك، عليها يحيا، وعليها يموت.
وتمثل عند احتضاره بهذين البيتين: يا رب قد حلف الأعداء و اجتهدوا، أيمانهم أنني من ساكني النار، أيحلفون على عمياء ويحهم، ما ظنهم بعظيم العفو غفار، وقد دُفن في قبر غير معروف المحلة في مدينة واسط، فتفجع عليه الوليد بن عبد الملك، و جاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، وكان يقول: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
وكان من ميراث الحجاج بن يوسف الثقفى، أنه بنى ميدنة واسط، وسير الفتوح لفتح المشرق، وأمر بتنقيط المصحف، وخطط الدولة، وحفظ أركانها قامعا كل الفتن، وغير أن الحجاج خلف أيضا ميراثا من الظلم وسفك الدماء لم يسبق له مثيل، وكما خلف في قلوب الناس، حتى الأمويين، كرها له وحقدا عليه لأفعاله، ومنها حرب ابن الزبير وقتله إياه في مكة، وما فعله في وقعة دير الجماجم.
وحقد عليه الخوارج لعظيم فعله بهم، والشيعة لعدم احترامه آل البيت، وقالوا فيه الكثير حتى لبسوا سيرته بالخوارق، والأمور المغلوطة، وأمعنوا في تقبيحه، والنيل منه، حتى لقد صوروه شيطانا، وقيل أنه قد أمر الخليفة سليمان بن عبد الملك عامله على الطائف بقتل آل أبي عقيل، وهم عشيرة الحجاج الأقربون، ظلما، لأنهم من آله، وقيل أنه أمر عمر بن عبد العزيز بنفي من بقي منهم و تشريدهم جزاء لأفعال الحجاج، وانتقاما منه بعد موته.
ولم يُنس الحجاج و أفعاله بسهولة، فقيل أن رجلا حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فلما أتى امرأته امتنعت عنه، فسأل الحسن البصري أن يفتيه في أمره فقال له: إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى، وكذلك أمر سليمان بن عبد الملك بذم الحجاج وسبه على المنابر، فذمه كل الولاة إلا خالد بن عبد الله القسري، فأرسل إليه سليمان يأمره بذلك، فتكلم على المنبر و قال: إن إبليس كان من الملائكة ففسق، وكذلك الحجاج.
وكان الحجاج بن يوسف كان له دور في إقناع عبدالملك بن مروان بعدم مبايعة الصحابي الجليل عبدالله بن الزبير بالخلافة بل الدخول في صراع معه انتهي باستشهاد الصحابي الجليل عام اثنين وسبعين هجرية بعد قذف الكعبة بالمنجنيق وصلب الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير ثلاثة أيام، وبعد أن صلب الصحابي الجليل أرسل إلى أمه السيدة “أسماء بنت أبي بكر” رضي الله عنهما وهي التي قدرها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأطلق عليها صلي الله عليه وسلم ذات النطاقين .
وذلك لدورها المشهود في هجرة النبي الي المدينة وتعرضها للإيذاء من سادة قريش وعلي رأسهم ابي جهل فضلا عن كونها شقيقة أم المؤمنين السيدة عائشة وزوجة الصحابي الجليل المبشر بالجنة الزبير ابن العوام وام اول مولود في المدينة سيدنا عبدالله بن الزوبير رضي الله عنهما، وبعد ان انتهي الحجاج من صلب الصحابي الجليل ارسل إلي أمه السيدة أسماء أن تأتيه، فرفضت ، فأرسل إليها مهددا لتأتين أو لأبعثن من يسحبك بقرونك، فأرسلت إليه: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني.
فلم يجد الحجاج أمامه ونظرا لصلابة الصحابية الجليلة إلا أن رضخ لها، وانطلق حتى دخل عليها، موجها حديثه لها : أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: “ربما أُديل الباطل على الحق وأهله” وهنا تتجلى صلابة السيدة أسماء بنت أبو بكر، ولم تفلح في إثناء الحجاج عن غيه حيث واصل تساؤلاته كيف رأيتني صنعت بعدو الله فكان رد السيده أسماء بنت الصديق : أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
وتجاهلت السيده أسماء سطوة الحجاج ووجهت حديثها إليه قائلا : وقد بلغني أنك كنت تعيره بابن ذات النطاقين، فقد كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم من النمل ونطاق لا بد للنساء منه وهنا صمت الحجاج ولم يحرك ساكنا بل حاول تجاوز الأمر بالهجوم علي ابن الزبير رضي الله عنهما.
واستمر الحجاج في مجادلة الصحابية الجليله واخذ يسرد التهم ضد ابنها سيدنا عبدالله بن الزبير قائلا : إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: “وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ” وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم، فندت اتهامات الحجاج قائلة : كذبت، كان وتقصد ابنها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله صل الله عليه وسلم، وحنَّكه بيده، وكبَر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به.
واخذت السيدة اسماء تعدد مآثر ابنها الصحابي الجليل قائلة :كان بارا بأبويه صواما قواما بكتاب الله، معظما لحرم الله، مبغضا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله صل الله عليه وسلم حدثني أن في ثقيف كذَّابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه “تعني: ” المختار بن عبيد الثقفي” وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، وتقصد ” الحجاج بن يوسف الثقفى” .
وبقي ميراث الحجاج حيا إلى الآن، فلا يزال موضع حرب وتطاحن بين المختلفين، ولا تزال الأخبار المختلقة تخالط سيرته، ولا زال يُلعن، و يُسب، ويراه الباحثون في التاريخ السياسي نموذجا للطاغية الظالم سفاك الدماء، و يرى المؤرخون في هذا أنه كان يتشبه بمن يدعى زياد بن أبيه في حزمه، فأبار وأهلك، وعلى الرغم من قيامه ببعض الأعمال التي تؤخذ عليه إلّا أنه كان حريصا على الجهاد، وفتح البلاد، وتميز بإعطائه المال إلى أهل القرآن، إذ كان يُنفق الكثير من أمواله على حفظة القرآن، وعندما مات لم يُخلّف وراءه إلا ثلاثة مائة درهم.