نسائم الإيمان ومع القائد قتيبيه بن مسلم ( الجزء الأول )
إعداد / محمـــــد الدكـــرورى
موعدنا مع القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، رحمه الله ، الذى فتح المدن والقرى وكان ينشر دين الله في الأرض، وفتح الله على يديه مدينة سمرقند، وقد افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثا كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال، ولما استُخلف عمر بن عبد العزيز، وفد عليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن قتيبة بن مسلم دخل مدينتهم، وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب لهم عمر إلى سليمان ابن أبي السَّريِ: إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلما أصابهم، وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم.
فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة، قال: فأجلس لهم سليمان جُمَيع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوةً، فقال أهل سمرقند: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا، وقد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمَّنونا وأمَّناهم، فلقد رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من تسامح وعدالة تُنفذها الدولة على جيشها وقائدها، فعلموا أن هذه أمة حُكمها رحمة وسماحةٌ ونعمةٌ، وكان هذا سببا لإسلام أغلب أهل سمرقند.
فالقائد المغوار، هو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن الأمير أبو حفص، وقد ولد سنة ثمانيه وأربعين من الهجره، في بيت إمرة وقيادة بأرض العراق، وكان أبوه هو مسلم بن عمرو، من أصحاب مصعب بن الزبير، والى العراق من قبل أخيه أميرالمؤمنين عبد الله بن الزبير، وقتل معه في حربه ضد عبد الملك بن مروان سنة اثنين وسبعين هجرية، ولما ترعرع قتيبة تعلم العلم والفقه والقرآن، ثم تعلم الفروسية وفنون الحرب، فظهر فيه النبوغ وهو شاب في مقتبل شبابه، وكانت منطقة العراق مشهورة بكثرة الفتن والثورات.
لذلك عمل كل ولاة العراق على شغل أهلها بالغزوات لاستغلال طاقاتهم الثورية في خدمة الإسلام ونشر الدعوة، لذلك كانت أرض العراق هى قاعدة الانطلاق للحملات الحربية على الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية، وقد اشترك قتيبة في هذه الحملات منذ شبابه المبكر، وأبدى شجاعة فائقة وموهبة قيادية فذة، لفتت إليه الأنظار خاصة من القائد العظيم المهلب بن أبى صفرة وكان خبيرا في معرفة الأبطال ومعادن الرجال فتفرس فيه أنه سيكون من أعظم أبطال الإسلام.
فأوصى به لوالى العراق الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي الذى كان يحب الأبطال والشجعان، فانتدبه لبعض المهام ليختبره بها ويعلم مدى صحة ترشيح المهلب له، وهل سيصلح للمهمة التى سيوكلها له بعد ذلك أم لا، فولاه عبد الملك بن مروان الري، وبعد ذلك ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي، سنة سته وثمانين من الهجره، ولاية خراسان وهو إقليم شاسع مترامى الأطراف، لم يكن المسلمون قد واصلوا الفتح بعده، وكان المهلب بن أبى صفرة والياً على خراسان من عام ثمانيه وسبعين حتى سته وثمانين من الهجره.
وقد رأى الحجاج أن يدفع بدماء شابة جديدة في قيادة المجاهدين هناك، فلم يجد أفضل من قتيبة بن مسلم لهذه المهمة، وسار قتيبة بن مسلم على نفس الخطة التى سار عليها آل المهلب، وهى خطة الضربات السريعة القوية المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقت للتجمع أو التخطيط لرد الهجوم على المسلمين، ولكنه امتاز عن آل المهلب بأنه كان يضع لكل حملة خطة ثابتة لها هدف ووجهة محددة، ثم يوجه كل قوته للوصول إلى هدفه، غير عابىء بالمصاعب أو الأهوال التى ستواجهه.
معتمدا على بسالته النادرة وروح القيادة التى امتاز بها وإيمانه العميق بالإسلام، فقام قتيبة بن مسلم بتقسيم أعماله لأربع مراحل، حقق في كل واحدة منها فتح ناحية واسعة فتحا نهائيا ثبت فيه أقدام المسلمين للأبد، وكانت المرحلة الأولى، قام فيها قتيبة بحملته على طخارستان السفلى فاستعادها وثبت أقدام المسلمين وذلك سنة سته وثمانين هجرية، وطخارستان السفلى هى الآن جزء من أفغانستان و باكستان، وكانت المرحلة الثانية، قاد فيها حملته الكبرى على بخارى فيما بين سنتى سبعه وثمانين حتى سنة تسعين هجرية .
وخلالها أتم فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهم مدن بلاد ما وراء النهر وأكثفها سكانا وأمنعها حصونا، وكانت المرحلة الثالثة، وقد استمرت من سنة واحد وتسعين حتى سنة ثلاثه وتسعين هجرية، وفيها تمكن قتيبة من نشر الإسلام وتثبيته في وادى نهر جيحون كله، وأتم فتح إقليم سجستان في إيران الآن، وإقليم خوارزم، وهو يوجد الآن بين دول إيران وپاكستان وأفغانستان، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند في قلب آسيا وضمها إلى دولة الإسلام نهائيا.
وكانت المرحلة الرابعة، وقد امتدت من سنة أربعه وتسعين حتى سته وتسعين هجرية، وفيها أتم قتيبة فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها ووصل مدينة كاشغر وجعلها قاعدة إسلامية وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش الإسلام في آسيا شرقا ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط، وعندما قام المسلمون الأوائل بحركة الفتح الإسلامى في الشرق كان هناك نوعان من الأجناس البشرية، القبائل الساسانية أو الفارسية والقبائل التركية.
وكان نهر المرغاب هو الحد الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء، وقد تم إدخال القبائل الفارسية في الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، أما القبائل التركية فقد كانت أكبر عددا وأوسع انتشارا منهم الأتراك الغزية والأتراك القراخطاى والأتراك القوقازيين والأتراك الأيجور والأتراك البلغار والأتراك المغول، ويقال أن الأمير قتيبة بن مسلم هو صاحب الفضل الأول بعد الله عز وجل في إدخال الأتراك شرقى نهر المرغاب وفى بلاد ما وراء النهر في الإسلام، فقد سحرت شخصيته العسكرية الأتراك .
فدخلوا في دين الله أفواجا حبا في بطولات وشجاعة هذا البطل الجسور الذى رأى فيه الأتراك الرمز الحقيقى للفضيلة والشجاعة والرجولة، ومعانى الإسلام النقية المتجسدة في شخصه، وكان دخول هؤلاء في دين الإسلام من أكبر الفتوحات والانتصارات التى حققها المسلمون وكان لهم أعظم الأدوار في نشر الدعوة في قارة آسيا كلها، فكان من قبائل الأتراك الغزية مثلا السلاجقة العظام والعثمانيون الأبطال والأوزبك الشجعان والمماليك قادة العالم وهؤلاء أدوا خدمات جليلة لا تنسى في خدمة الإسلام.