نسائم الإيمان ونبذه عن نبى الله داود عليه السلام
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
في قصة النبي الكريم داود عليه السلام ، بيان شرف العلم النافع وأثره الحسن في صلاح الحياة، سواء كان علم دين أم علم دنيا ، فالعلم نور يشرق على جوانب الحياة الخاصة والعامة ، فيرى به صاحبُه السبل السوية فيسلكها، والأحوال المرضية فيأخذ بها، ونبي الله داود عليه السلام ، كان ممن جُمع له علم الدين والدنيا، فكان عالمًا بالشرع، وعالمًا بالسياسة، وعالمًا بالقضاء، وعالمًا بالصناعة، وغير ذلك.
فهو نبى الله داود بن إيشا بن عويد بن عابر، ينتهي نسبه بيعقوب بن إبراهيم عليهم السلام ، وهو واحد من أنبياء بني إسرائيل ، وقد جمعَ بين المُلك والنبوة، وأُنزلت عليه المزامير أو الزبور وهي عبارة عن تسابيح وتهاليل وتمجيد وحمد لله تعالى، لكنّه في نظر اليهود ليس بنبيٍّ وإنما واحدٌ من أهم وأشهر ملوك بني إسرائيل وخليفة الرب على أرض بيت المقدس .
و إن العلم نعمة من الله عز وجل ، على صاحبه، وهبة سَنَية منه وحده، فليس باستحقاق العبد ولا بقدرته ولا بذكائه، وهذا يجعل ذا العلم متواضعًا، لا يرى لنفسه أي موجب للكبر، بل يوجب عليه رد العلم إلى الله عز وجل .
وأن الإعلان بالعلم والتحدث به، إن كان من باب الشكر والتحدث بالنعمة لا يعد مذمومًا، إنما المذموم إظهاره شهرة أو رياء أو عُجبًا ، ولهذا أظهر داود وسليمان عليهما السلام ، نعمة العلم على اللسان ، شكراً لله سبحانه وتعالى .
وقد امتن الله على نبيه داود بن إيشا عليه السلام بالعديد من النعم كالقوة العلمية والبدنية والقدرة على التسخير والمقدرة على القضاء وفض النزاعات بين الخصوم، فبعد وفاة النبي يوشع بن نون عليه السلام ، ساءت أحوال بني إسرائيل، إذ انفصلت النبوة عن المُلك، فقادها ملوكٌ عتو في الأرض وقتَّلوا الأنبياء، فابتلاهم الله بالهزائم والمصائب المتلاحقة حتى ضاع منهم التابوت ، تابوت آل موسى وهارون .
فزاد ذلك في تشرذمهم في الأرض وساءت أحوالهم، ثم جاء اختيار الله لطالوت ليكون ملكًا على بني إسرائيل على الرغم من اعتراضهم عليهم، وسار طالوت بجيشه قليل العدد والعتاد لملاقاة جالوت ذي العدد والعُّدة، وعند التقاء الجيشيْن طلب جالوت مبارزًا من جيش طالوت فخرج له فتىً كان يرعى الغنم اسمه داود حاملًا معه المقلاع والعصا وخمسة أحجارٍ في مواجهة جالوت المدجج بالسلاح والدروع .
فرماه داود عليه السلام ، بحجرٍ فقتله ثم دارت رحى المعركة التي انتصر فيها طالوت وجنوده ثم أصبح داود بن إيشا ملكًا لبني إسرائيل وكلفه الله بالنبوة، فجمع بين الملك والنبوة والعِلم والمعجزات الخارقة والقضاء وحُسن الصوت عند التسبيح وغيرها من الكرامات .
وبعد أن تولى داود الحكم والملك ، وجعله الله نبيا ، لم يصرفه ذلك عن طاعة ربه ، ولذلك كان يقوم الليل ساجدا لله ، ويصوم النهار تقربا إليه ، وقد عاش عليه السلام مائة عامٍ فحزن بنو إسرائيل على موته حزنًا شديدًا .
وفي سيرة هذا النبي الكريم عِبر ودروس قضائية، منها أهمية القضاء والفصل في الخصومات في حياة الناس، وفي استقرار الدول ، فإن الحياة الجماعية التي يعيشها الناس يشوبها الاختلاف والتنازع، والظلم والاعتداء على الحقوق، ولابد لهذا الافتراق من قضاء يفصل التنازع، ويعيد الحقوق إلى أهلها .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال: “بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنتِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا ، يرحمك الله ، هو ابنها، فقضى به للصغرى .
ولقد كَرَّم الله عز وجل الإنسان على سائرِ خلقهِ، وميزه عن باقي الكائنات بنعمة العقل، وجعلَ العقل مناط التكليف، وقامَت الدعوة إلى الهدايةِ منذ نشأتها بخطابِ العقلِ ومحاكاتهِ، ولأنَّ الإنسان بحاجةٍ للهدايةِ والدليل، فقد أرسل الله عز وجل الرسلَ والأنبياء، لدعوةِ النّاس وإقناعهم بالشريعةِ التي ارتضاها الله عز وجل لهم .
ولتأكيد صدقهم للنّاس، وأنهم مبعوثين من عند الله تعالى سبحانه وتعالى ، فقد أيدهم بما لم تألفه أعين النّاس، فالمعجزةُ أمرٌ خارقٌ للعادة لم تعتادهُ الناس، ولا يستطيعونَ الإتيان بمثله، وهي أمرٌ من الله عز وجل يؤيد به أنبيائه، والمعجزةُ التي يأتي بها النبي أو الرسول من جنسِ ما اشتهر به قومه، كمعجزةِ موسى عليه السلام .
وهي العصا التي تحولت لثعبان، فيما كانوا قومه يتنافسون بمهاراتهم في السحر والشعوذة، وأيضًا معجزةُ النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، الخالدة التي بُعثَ بها إلى قريش وهي القرآن الكريم في قومٍ اشتهروا بالفصاحةِ والبلاغةِ، وغَيرِهم من الأنبياء والرسل عليهم السلام ومنهم من تعددت معجزاتهُ، ومن ذلك معجزات سيدنا داوود عليه السلام.
ونبي الله داوود عليه السلام ، قد أيده الله بمعجزاتٍ لم يؤتها لأحدٍ غيره ومن معجزات سيدنا داوود عليه السلام ، هو الكتابُ السماويّ الذي أنزله الله عز وجل ، على نبيه داوود عليه السلام ، بعدما أعطاه الله النبوة، ويشتمل على مائة وخمسين سورة، كلها حكم ومواعظ، ولا يشتملُ على تشريعات، ولا أوامر ونواهي .
وكان نبى الله داود عليه السلام ، يمتلكُ صوتاً عذباً، شجيًا، فكان إذا قرأَ الزبور اجتمعت لهُ الخلائقُ حتى تستمعَ لجمالِ صوتهِ، وأيضا من معجزات سيدنا داوود عليه السلام هو أنه كان لا يقول إلا صوابًا، وكان يُصيب في فهمهِ، وفي قضائهِ بين النّاس ، وكذلك ألانَ له الحديد، وعلَّمه صناعة الدروع .
فكان يُشِكِلُ الحديدَ بين يديه، ويتحكم به، وكأنه القطن، وكان عليه السلام يصنعُ من الحديد دروعًا، قد علمهُ الله صُنعَها، وقد كان النّاس من قبل ذلك يصنعون الدروع قطعةً واحدةً، فلما ألان الله الحديد بينَ يديه، صنعها عليه السلام بشكلِ حلقةٍ شديدةِ الصلابة، تعينهم على حمايةِ أنفسهم والدفاعِ عنها.
كان داوود عليه السلام يمتلك صوتا جميلا، وهذا مما أعطاه إياه الله تعالى، فكان إذا قرأ شيئاً من الزبور، أو سبّّحَ لله تعالى، سبحت معه الطيرُ والجبال، فكان هذا الفضلُ لنبى الله داوود عليه السلام ولم يكن لغيره من البشر.
وكان نبي الله داوود من أنبياء بني إسرائيل، وقد تمّيزَ بصفاتٍ وأفعالٍ عن غيرهِ من الأنبياء، وهى عبادتهُ الدائمةُ لله عز وجل ، فقد وصفهُ الله تعالى في كتابهِ العزيز بأنه، كثيرُ الطاعة، وقويٌّ في العبادة، فكان عليه السلام يحرصُ على قيامِ الليل، وكان يصومُ نصف الدهر، وكانَ كثيرُ التعبدِ لله تعالى .
وقد ذكرَ ذلك النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم ، “أحبُّ الصِّيامِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ صيامُ داودَ علَيهِ السَّلامُ ، كانَ يَصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا ، وأحبُّ الصَّلاةِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ صلاةُ داودَ علَيهِ السَّلامُ ، كانَ يَنامُ نصفَ اللَّيلِ ، ويقومُ ثلُثَهُ ، ويَنامُ سُدُسَهُ” .
وقد تميَّز أيضا نبى الله داود عليه السلام بالقوة والشجاعة، وبَرزَ ذلك في موقفهِ وقتاله في جيش طالوت، وقتلِه لجالوت، وأعطاه الله المُلك، وجعل به من الشجاعةِ والبأس ما يُمّكنه منه، وعَلَّمه صناعة المعدات العسكريّةِ، وهي الدروع، وألان له الحديد وهذه من معجزات سيدنا داوود عليه السلام.
ومما تميّز به نبى الله داوود عليه السلام هو حكمتهُ في فصلهِ بين الخصوم، وتأنيهِ بالحكم، وقد عُرف بعدالتهِ فكانت الناس، تقصدهُ من كل مكانٍ في نزعاتِهم، ليحكم بينهم، فقد أتاه الله الحكمة وفصل الخطاب .
وقيل أنه جاءت امراه الى داوود عليه السلام ، قالت: يا نبي الله . ربك. ظالم أم عادل ؟ فقال داود: ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور، ثم قال لها ما قصتك ، قالت: أنا أرملة عندي ثلاث بنات أقوم عليهن من غزل يدي ، فلما كان أمس شدّدت غزلي في خرقة حمراء ، و أردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه و أبلّغ به أطفالي .
فإذا أنا بطائر قد انقض علي و أخذ الخرقة و الغزل و ذهب، وبقيت حزينة لاأملك شيئاً أبلّغ به أطفالي ، فبينما المرأة مع داود عليه السلام في الكلام ، إذا بالباب يطرق على داود فأذن له بالدخول ، وإذا بعشرة من التجار كل واحد بيده : مائة دينار ، فقالوا يا نبي الله أعطها لمستحقها.
فقال لهم داود عليه السلام: ما كان سبب حملكم هذا المال ، قالوا يا نبي الله كنا في مركب فهاجت علينا الريح و أشرفنا على الغرق فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء و فيها
غزل فسدّدنا به عيب المركب فهانت علينا الريح و انسد العيب و نذرنا لله أن يتصدّق كل واحد منا بمائة دينار .
وهذا المال بين يديك فتصدق به على من أردت، فالتفت نبى الله داود عليه السلام إلى المرأة و قال لها: ربٌ يتاجرُ لكِ في البر والبحر وتجعلينه ظالمًا، وأعطاها الألف دينار وقال: أنفقيها على أطفالك.
وأيضا من القضايا التي عرضت على نبى الله داود عليه السلام ، أنه جلس كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم ، وجاءه رجل صاحب حقل ، ومعه رجل آخر صاحب غنم ، وقال له صاحب الحقل: سيدي النبي ، إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل، وأكلت كل عناقيد العنب التي كانت فيه.
وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض ، فقال داود لصاحب الغنم: هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟ قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي ، قال داود: لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي أكلته ، وهنا قال سليمان ، وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورثه من والده .
فقال : أنا عندي حكم آخر يا أبي ، قال داود: قله يا سليمان ، فقال سليمان عليه السلام : أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم ، ويصلحه له ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب .
وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها ويأكل منه، فإذا كبرت عناقيد العنب ، وعاد الحقل سليما كما كان ، أخذ صاحب الحقل حقله ، وأعطى لصاحب الغنم غنمه ، قال داود: هذا حكم عظيم يا سليمان ، الحمد لله الذي وهبك الحكمة.