نسائم الإيمام ووقفه مع مكانة الرسول بين الصحابه
بقلم / محمـــــد الدكــــــرورى
لقد أوجدَ الله عز وجل الثَّقلَين لعبادتِه، وأمرَهم بامتِثالِ أوامره، وكتبَ السعادةَ لأهل طاعته ، وعبادتُه سبحانه وتعالى ، وهي الحِصنُ الذي من دخلَه كان من الآمِنين، ومن أدَّاها كان من الناجِين، وهي خيرٌ محضٌ لا ضررَ فيها ، وأن الله تعالى ربط بين محبته سبحانه ومحبة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وقال الله عز وجل:( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).
وكل خيرٍ في الأرض فإنه بسبب طاعةِ الله ورسولِه، فقال ابن القيم ، رحمه الله ” ومن تدبَّر العالمَ والشُّرورَ الواقِعةَ فيه علِمَ أن كل شرٍّ في العالَم سببُه مُخالفةُ الرسول صلى الله عليه وسلم والخروجُ عن طاعتِه ” وكل خيرٍ في العالم فإنه بسبب طاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الشرُّ والألمُ والغمُّ الذي يُصيبُ العبدَ في نفسِه فإنما هو بسبب مُخالفة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام .
من سعادة العبد أن يرزقه الله محبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فإن محبته صلى الله عليه وسلم ، أصل من أصول الدين، ولا إيمان لمن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ” رواه البخاري .
وإذا كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجبة على كل مسلم ومفروضة عليه، فإنها لدى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى ، فلقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حُباً فاق كل حب فآثروه على المال والولد وآية ذلك إتباعهم لتعاليمه صلى الله عليه وسلم وابتعادهم عن نواهيه .
وقد روي أن عمر قال للرسول صلى الله عليه وسلم: “والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه “، فقال عمر: “فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الآن يا عمر ” .
ومحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، الحقيقية ليست مجرد كلمات يرددها اللسان، أو دروس وخطب يتلوها الوعاظ والخطباء، ولا يكفي فيها الادعاء فحسب، بل لا بد أن تكون محبته عليه الصلاة والسلام ، حياة تُعاش، ومنهجاً يتبع، وصدق الله إذ يقول: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) سورة آل عمران.
ونالَ الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم ، الفضلَ لصُحبتهم وإخلاصِهم وسَبقهم في الاستِجابة لله ولرسولِه، فزادَت رِفعتُهم عند الله؛ أُمِرُوا باستِقبال الكعبة فحوَّلُوا وِجهتَهم من بيت المقدِس إليها حينما سمِعوا بتغييرها وهم في الصلاة، ولم يُؤخِرُوا الامتِثالَ إلى الصلاة التي تَليهَا ، وندَبَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم- إلى الصدقة، فبذَلُوا نفيسَ أموالهم ، فأنفقَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه ، نصفَ مالِه، وأنفقَ أبو بكر الصدِّيقُ رضي الله عنه ، مالَه كلَّه، وقال عليه الصلاة والسلام ” من جهَّز جيشَ العُسرة فله الجنة”، فجهَّزه عُثمان. رواه البخاري.
ونزل قولُ الله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فقام أبو طلحةَ رضي الله عنه ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا رسول الله: إن أحبَّ أموالي إليَّ بيرُحاء، وإنها صدقةٌ لله”. رواه البخاري ، وكفَّ الصحابةُ عن أقوالٍ وأفعالٍ حين سمِعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ينهَى عنها ولم يُراجِعوه فيها ، استِجابةً له .
في الجاهلية كانوا يحلِفون بآبائِهم واعتادَته ألسِنَتُهم، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ” إن الله ينهاكُم أن تحلِفُوا بآبائِكم” قال عُمر رضي الله عنه “فواللهِ ما حلَفتُ بها منذ سمِعتُ النبي صلى الله عليه وسلم، لم أحلِف بها ذاكِرًا ولا آثِرًا”. أي: ناقِلاً هذه اللفظةَ عن غيري. رواه مسلم.
والخمرُ كان مُباحًا إلى أوائِل الإسلام، وبسماعِهم نهيَه من رجُلٍ يمشِي في الطُّرُقات أراقُوها ، قال أبو النُّعمان رضي الله عنه ” كنتُ ساقِيَ القوم في منزلِ أبي طلحةَ، فنزل تحريمُ الخمرِ فأمرَ مُنادِيًا فنادَى”، فقال أبو طلحةَ: اخرُج فانظُر ما هذا الصوت. قال: فخرجتُ فقلتُ: “هذا مُنادٍ يُنادِي: ألا إن الخمرَ قد حُرِّمَت”، فقال لي: اذهَب فأهرِقها. قال: “فجَرَت في سِكَك المدينة”. متفق عليه.
ولقد خاض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سبيل نشر الدعوة المباركة حرباً شرسة دائمة مع الكفار، وأخذت الدعوة المحمدية تغزو معاقل الشرك وتجتث عروش المشركين، فقابلها الكفار بمحاولة إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والتعرض له في كل مكان حتى أنه لم يسلم من إيذائهم حتى وهو قائماً يصلي في محرابه، وكان المسلمون يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينافحون عنه، ويبذلون أنفسهم فداء له .
فهذا أبو بكر الصديق خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في ناحية من نواحي المسجد الحرام إذا به يبصر عقبة بن أبي معيط أحد رؤوس الكفر متجها صوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فأخذ أبو بكر يترقبه فإذا هو يخلع ثوبه ويضعه حول عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخنقه، فما أن رأى ذلك حتى انطلق كالسهم تجاه هذا الكافر، ثم أخذ بمنكبه ودفعه دفعة شديدة، ونجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيده .
وقد تغير مفهوم محبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وانحرف عند البعض ، فبعد أن كانت هذه المحبة عند الصحابة رضوان الله عليهم ، تعني إيثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على كل شيء ، وطاعته واتباعه في كل أمر ، صار مفهومها عندهم تأليف الصلوات المبتدعة ، وعمل الموالد ، وإنشاد القصائد والمدائح .
وبعد أن كان تعظيم وحب الرسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم ، بتوقيره والأدب معه ، صار التعظيم عندهم هو الغلو فيه بإخراجه عن حد البشرية ، ورفعه إلى مرتبة الألوهية، وكل ذلك من الوهم والانحراف الذي طرأ على معنى المحبة ومفهومها .
وقد ترجم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، حب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ترجمة عملية، فبذلوا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله، وطاعة وحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبر عن ذلك سعد بن معاذ رضي الله عنه حين قال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن هشام وغيره في السيرة النبوية:
” يا رسول الله، هذه أموالنا بين يديك، خذ منها ما شئت ودع منها ما شئت، وما أخذته منها كان أحب إلينا مما تركته، لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، إنا والله لَصبرٌ في الحرب صدق عند اللقاء، فامض بنا يا رسول الله حيث أمرك الله “، فكان لسان حالهم ومقالهم عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
وفي غزوة أحد ، ظهرت صور كثيرة من حب الصحابة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بصورة عملية، وذلك حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وخلال هذا الموقف العصيب سارع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا حوله سياجاً بأجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في الدفاع عنه، فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: ” نحري دون نحرك يا رسول الله “.
وأبو دجانة يحمي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسهام تقع عليه ولا يتحرك، ومالك بن سنان يمتص الدم من وجنته ، صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، وعرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال صلى الله عليه وسلم ” أوجب طلحة ” أي الجنة.
ومن حبهم رضوان الله عليهم له خوفهم من فراقه، ومن يألفه عليه الصلاة والسلام ويتعامل معه فلا شك أنه سيجزع لفراقه فهو مصدر أمن وأمان لأصحابه؛ كيف لا وهو الذي قد أنقذهم من جاهليتهم العمياء إلى نور الإسلام المبين، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعاملهم كل حسب طبعه وسنه فهو الأب الحاني لكل طفل، وهو الأخ العائن لكل مسلم، وهو النصير المساعد لكل محتاج، وهو السند والذخر لكل يتيم.
ولم يكن خوفهم من فراقه يقتصر على الدنيا بل تعداه إلى خشيتهم من فراقه في الآخرة، أخرج الطبراني عن عائشة رضى الله عنها قالت: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى اّتي فأنظر إليك .
وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك”، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ) سورة النساء .