نسائم الإيمان ومع الخليفه عبد الملك بن مروان ( الجزء الثانى )
إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى
وقد أحكم عبد الملك بن مروان سيطرته على إقليم الجزيرة، ثم تخلص من منافسه الخطير وهو عمرو بن سعيد الأشدق بقتله حيث نازعه الخلافة، وبعد أن اطمأن عبد الملك إلى استقرار حكمه ببلاد الشام توجه لقتال مصعب بن الزبير فنزل عبد الملك، مسكن وزحف مصعب نحو باجميرا وعلى مقدمة جيشه إبراهيم بن الأشتر، ثم أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، بل إن عبد الملك بن مروان صرَّح أن كتب أهل العراق أتته يدعونه إليهم قبل أن يكاتبهم هو، وفي الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق من قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إلى عبد الملك.
وكان حريصا على ألا يقاتل مصعبا للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما، فأرسل إليه رجلا من كلب وقال له أقرئ ابن أختك السلام وكانت أم مصعب كلبية، وقل له يَدع دعاءه إلى أخيه، وأدعُ دعائي إلى نفسي، ويُجعَل الأمر شورى، فقال له مصعب قل له السيف بيننا، ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى، فأرسل إليه أخاه محمدا ليقول له، إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا، ثم دارت معركة فبدأت خيانات أهل العراق تظهر، فقد أَمَدَّ مصعب إبراهيم بن الأشتر بعتاب بن ورقاء، وهو من الذين كاتبوا عبد الملك، فاستاء إبراهيم من ذلك.
وقال قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، إنا لله وإنا إليه راجعون، فانهزم عتاب بالناس، فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقُتل فكان قتله خسارة كبيرة لمصعب لأنه فوق شجاعته كان مخلصا له غاية الإخلاص، ثم تخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه حتى لم يبق معه سوى سبعة رجال، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة حتى أثخنته الجراح، وأخيرا قتله زياد بن ظبيان، وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمُادى الآخرة سنة اثنين وسبعين من الهجره، فلما بلغ عبد الملك مقتله قال واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا المُلك عقيم.
وبمقتل مصعب عادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية، وعين عبد الملك أخاه بشرا واليا عليها، وقبل أن يغادرها أَعدَّ جيشا للقضاء على عبد الله بن الزبير في مكة، وبعد مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُده وأصابه بالإحباط، ولكنه لم يُلق الراية، وظل يقاوم حتى النهاية، وقد جهز عبد الملك بن مروان جيشا قوامه عشرون ألفا من أهل الشام وغيرهم بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهه لقتال ابن الزبير في مكة، فحاصر الحجاج ابن الزبير، ونصب المنجنيق على الكعبة من جبل أبي قبيس.
فلما أهلَّ ذو الحجة لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحجَّ بالناس ابن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف عن ضرب الكعبة بالمنجنيق، لأنه قد منع الناس من الطواف، فامتثل الحجاج، ولكن بعد فراغ الناس من طواف الفريضة نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم، لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة، وبالفعل بدأ يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير وتحرَّج موقفه وانفضَ عنه معظم أصحابه، ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما، فلما رأى ذلك دخل على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير.
ولم يبق لهم صبر ساعة، وأن القوم يعطونه ما شاء من الدنيا، فقالت له يا بني، أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قُتل عليه أصحابُك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت؟ أهلكت نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن كنت على حق فما وهن الدنيا، وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتال أحسن، فدنا فقبل رأسها، وقال هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت البقاء فيها، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك.
وسلمي الأمر لله، فخرج من عندها، وذهب إلى القتال فقُتل من يومه، وهو السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثلاثه وسبعين من الهجره، وبذلك انتهت دولته التي استمرت حوالي تسع سنين، وهكذا فقد ثابر عبد الملك وصبر وجاهد لتوطيد دعائم الدولة الإسلامية تحت قيادته ونجح في ذلك نجاحا كبيرا، ومن هنا استحق عبد الملك عن جدارة لقب موحد الدولة الإسلامية أو المؤسس الثاني للدولة الأموية، بعد معاوية مؤسسها الأول، ولم يعكر صفو عبد الملك بعد أن حقق وحدة الدولة حوالي ثلاثه وسبعين من الهجره، إلا ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وكانت ثورة عارمة.
ولكن عبد الملك استطاع القضاء عليها بفضل مهارة قائده الحجاج بن يوسف الثقفي، ورباطة جأشه، فقد تمكن الحجاج بعد معارك شرسة من القضاء على هذه الثورة سنة ثلاثه وثمانين من الهجره، ولم يظهر عبد الملك شجاعة ومقدرة ومهارة في القضاء على خصومه السياسيين فحسب، بل أظهر براعة في إدارة الدولة وتنظيمها، وكان شبيها في ذلك بمعاوية في كثير من الوجوه فقد استعان بنخبة من أمهر رجال عصره في الإدارة والسياسة مثل الحجاج بن يوسف الذي أخلص للخليفة وبذل أقصى جهده في تثبيت أركان دولته، كما اعتمد على رجال بيته من إخوته مثل عبد العزيز ومحمد وبشر وغيرهم.
وكذلك اقتدى عبد الملك بمعاوية في مباشرة أعمال دولته بنفسه وتصفُّح أمورها، فكان دائم المراقبة لعماله، ولم يكن يتوانى عن محاسبتهم مهما كانت أقدارهم، فحتى الحجاج بن يوسف رغم مكانته لم يسلم من مساءلة عبد الملك له إذا قصر أو أخطأ، فيروى أن أنس بن مالك كتب إلى عبد الملك يشكو الحجاج، ويقول في كتابه لو أن رجلا خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى، أو تعرف مكانه، لهاجرت إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم المنزلة العظيمة، ولعرفوا له ذلك، ولو أن رجلا خدم موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما استطاعوا، وإني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنا صاحبه، ورأيته، وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداء، وإن الحجاج قد أضرَّ بي وفعل وفعل، فلما بلغ عبد الملك الكتاب بكى وغضب غضبا شديدا، وكتب على الفور إلى الحجاج بكتاب غليظ اللهجة، فلما جاءه الكتاب تغير، ثم قال لحامل الكتاب انطلق بنا إليه نَترضَّاه، ولم يكن عبد الملك بن مروان يسمح لأحد أن يداهنه أو ينافقه، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد رُوي أن رجلا سأل عبد الملك أن يخلو به، فأمر عبد الملك مَن عنده بالانصراف، فلما خلا به، وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك احذر من كلامك ثلاثا إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب.