نسائم الإيمان ووقفه فى حياة الخليفه هشام بن عبد الملك ( الجزء الثانى )
إعداد / محمــــد الدكـــرورى
فكتب الخليفه هشام بن عبد الملك إلى كلثوم بن عياض ينهاه ويتهدده، فاعتذر وأغضى له عنها ثم سار واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة ومر على طريق سبيبة وانتهى إلى تلمسان ولقي حبيب بن أبي عبيدة واقتتلا ثم اتفقا ورجعا معا وزحف البربر إليهم على وادي طنجة وهو وادي سوا، فانهزم بلج في الطلائع وانتهوا إلى كلثوم فانكشف واشتد القتال، وقتل كلثوم وحبيب بن أبي عبيدة وكثير من الجند، وتحيز أهل الشام إلى سبتة مع بلج بن بشر، فحاصرهم البربر وأرسلوا إلى عبد الملك بن قطن الفهري أمير الأندلس في أن يجيزوا إليه فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يقيموا سنة واحدة.
وأخذ رهنهم على ذلك وانقضت السنة وطالبهم بالشرط فقتلوه وملك بلج الأندلس، وكانت أهم انجازات الخليفه هشام بن عبد الملك، أنه أعاد الجراح بن عبد الله الحكمي لولاية بلاد ما وراء النهر وأقره عليها بعد ما كثرت الاضطرابات عام مائه واحدى عشر من الهجره، فتصدى الجراح للخارجين عن دولة الخلافة من الترك والخزريين وغيرهم، وحارب في معركة حامية الوطيس في بلاد داغستان حيث حاربهم عند مضيق الدربند وهو باب الأبواب، واستدرجهم إلى صحراء ورثان، وصمد فيها الجراح مع أصحابه وأدت في النهاية إلى استشهاده، وعندما وصل الخبر إلى الخليفة بمقتله واستشهاده.
وقد أمر بتسيير جيش بقيادة سعيد بن عمرو الحرشي وأرسل إلى الأمراء الأجناد بمساندة هذا الجيش وأناط بأخيه مسلمة بن عبد الملك قيادة هذا الجيش، وكان في هذا الجيش آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد، وكان من كبار المجاهدين، فما إن وصل هذا الجيش إلى هناك حتى دك قلاع الخزريين واللان والأتراك وغيرهم، وضم البلاد إلى دار الخلافة الإسلامية، وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك حتى بلغ مدينة باب الأبواب وهي ميناء كبير على بحر الخزر ومدينة كبيرة محصنة، من ناحية أذربيجان، ومنذ ذلك التاريخ لم تصل الدولة الإسلامية إلى أكبر من هذه المساحة في الاتساع الجغرافي.
وكانت من الصين شرقا إلى الأطلسي غربا، وكانت عاصمتها دمشق، وقد شجع العلماء، واهتم بالبناء واشتهر عهده بنظام العمارة الأموي، وقد أرسى الأمن في أرجاء الدولة، وفتح العديد من البلدان وأرسل الرسل ونشر الإسلام في بلاد ما وراء النهر والهند والسند وغيرها من البلدان، وعمل على تطوير الزراعة ونظام الري، وقد اهتم بالترجمة وساند العلماء والفقهاء وجلب المفكرين والعلماء إلى دمشق، وأنشأ المكتبات والمطابع ودور العلم، وكانت دمشق في عهده منارة للعلم والحضارة، وكان هشام بن عبد الملك خليفة قوي الشخصية، حازما راجح العقل، وقد تمكَن من قيادة الدولة خارجيا وداخليا بصرامة ولين معا.
ويقول عنه فلهاوزن: ولا شك أن المؤرخ يخطئ في تصور هشام، إذا ظن أنه كان خليفة لا همَّ له إلا أمور الإدارة والشئون الداخلية، على أن هشاما لم يكن جنديا ولكنه لم يكن يرهب الحروب، بل هو وجهها بهمة وبكل الوسائل، وجهَز جيوشا كبيرة، ولم يدخر في ذلك الأموال ولا حياة الرجال وكانت يداه دائما، مشغولتين بالمشروعات الحربية في أكثر المواضع تباعدا، فقد كانت جيوشه تقف بالمرصاد للروم، واستمر في إقامة الحصون على الحدود، ولعل أبرز ما يؤخذ على هشام من مآخذ أنه تغافل عن دعاة العباسيين الذين نشطوا في عهده بشكل كبير، فقد نشطت دعوات العباسيين المُشوهة لسمعة الدولة الأموية.
وكان ذلك في عهد هشام في خراسان، ويُرجّح المؤرخون سبب انتشارهم إلى كراهية هشام للعنف وعدم اتباعه أساليب القمع والقتل والتدمير لضبط الدولة، فاستفحل أمر الدعاة وبدأت دعوات العباسيين تكبر في نهاية عهده وبعد وفاته أيضا، ويقول ابن كثير: لما مات هشام بن عبد الملك مات مُلك بني أمية وتولى، وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدًا، وإن كانت تأخرت أيامهم بعهده، نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة.
وكانت سياسة الخليفة هشام بن عبد الملك وكان أثرها في سقوط الخلافة الأموية وهو أن الخلافة الأموية واجهت مشكلات خطيرة زمن هشام بن عبد الملك على الرغم من الهدوء الظاهري، فكان أولها تفاقم حدة العصبية القبلية في الدولة بسبب سياسة تعيين الولاة، ثم تعاظم الدعوة العباسية التي حققت نجاحا كبيرا وخاصة في خراسان، وكما كان لثورة زيد بن علي ومقتله دور في زيادة قوة الدعوة العباسية، وكذلك كان لتسلل أفكار فرقة القدرية إلى الشام زمن هشام دور في ثورة يزيد بن الوليد على الخليفة الوليد بن يزيد، والتي كان من أهم أسبابها تعمد هشام تشويه صورة الوليد بن يزيد.
وقد أثرت هذه الأحداث مجتمعة تأثيرا خطيرا على الخلافة الأموية، وخاصة في ظل إقامة هشام بالرصافة وانشغاله بأموره الخاصة، وابتعاده عن مشاكل الدولة ومتابعة تطوراتها، ما عدا متابعته أمور الخلافة المالية، الأمر الذي أدى بالنهاية لإضعاف الخلافة الأموية ومن ثم انهيارها، ويقال عن هشام، كان أبوه حين ولد كان يحارب مصعب بن الزبير فلما انتصر سماه منصورا تفاؤلا بنصره فلما رجع وجد أمه قد سمته هشاما على اسم جده فلم يغير، وقيل عنه أنه كان أبيض أحول سمينا طويلا أكلف يخضب بالسواد، وكان جميلا وكان يجمع المال ويوصف بالبخل وكان حازما عاقلا، صاحب سياسة حسنة وكان يكره الدماء.
وكان رجل بني أمية حزما ورأيا، وكان هشام خشنا فظا غليظا يجمع الأموال ويعمر الأرض ويستجيد الخيل وأقام الحلبة فاجتمع له فيها من خيله وغيره أربعة آلاف فرس، ولم يعرف ذلك لأحد غيره في جاهلية ولا إسلام واستجد الكسى والفرس وعدد الحرب ولأمتها واصطنع الرجال وقوى الثغور واتخذ القنى والبرك بطريق مكة، وفي أيامه عمل الخز والقطف الخز فسلك الناس جميعا في أيامه مذهبه ومنعوا ما في أيديهم فقل الفضل وانقطع الرفد ولم ير زمان أصعب من زمانه، وكان فيه حلم وأناة شتم مرة رجلا من الأشراف، فقال له: أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاستحيا وقال: اقتص مني بدلها.
فقال: إذا أكون سفيها مثلك، قال: فخذ عوضا، قال: لا أفعل، قال: فاتركها لله، قال: هي لله ثم لك، فقال هشام عند ذلك: والله لا أعود إلى مثلها، وكان أخو هشام يزيد بن عبد الملك قد عهد بالأمر من بعده إلى أخيه هشام بن عبد الملك فلما مات يزيد كان هشام مقيما بحمص فجاءه البريد بالعصا والخاتم وسلم عليه بالخلافة فأقبل حتى أتى دمشق وتمت له البيعة، وكان عمره حينئذ أربعا وثلاثين سنة فقام بأمر الخلافة أتم قيام، ثم مات هشام بن عبد الملك بالرصافة في ربيع الآخر، واعتبرت وفاته نهاية عهد الخلفاء الأمويين الأقوياء، وقد عده المؤرخون آخر من توفي من الخلفاء الأمويين الأقوياء.