مفوضية التعليم بين الاحتياج وفانتازيا إنشاء الكيانات لدكتور الهلالي الشربيني وزير التعليم السابق
أ.د الهلالي الشربيني الهلالي يكتب
تتنامى ــ بشكل مستمر ــ وتيرة الاهتمام الدولى بالتعليم على خلفية أنه محور رئيسى فى التنمية، ففى عام 2000 اتفقت 164 دولة فى نهاية فعاليات المنتدى الدولى للتعليم بداكار على اعتماد «إطار داكار التنفيذى: «التعليم للجميع»؛ بغية تحقيق ستة أهداف عامة من أجل تحقيق تعليم عالى الجودة للجميع بتلك الدول، وكانت مصر من بين الدول التى وقعت على ذلك الإطار، واليوم ــ وقد حققت مصر بعضا من تلك الأهداف، خاصة فى مجال الإتاحة، والعدالة بين الجنسين، ونشر التعليم الإلزامى ــ نجد أنها أيضا قد واجهت بعض الإخفاقات التى تجعلنا نؤمن أنه لا يزال أمامنا الكثير لننجزه لتحسين مخرجات التعليم وتحقيق مستوى عالٍ من التنافسية.
والواقع أن سياسات إصلاح التعليم فى مصر على امتداد العقود الأربعة الماضية لم تحقق النجاح المنشود، فالكثافات الطلابية لم تنخفض بالفصول، ونسبة المدارس التى تعمل بنظام تعدد الفترات ارتفعت واختفت منها الأنشطة التربوية، و«المناطق المحرومة» تعددت فى النجوع وبعض القرى والمناطق العشوائية داخل المدن، كما أن الاستيعاب الكامل للتلاميذ فى سن التعليم لم يتحقق، ونزيف التسرب لم يتوقف، والمناهج والامتحانات وأساليب التقويم ظلت تعتمد على الحفظ والتلقين، الأمر الذى أدى إلى زيادة اعتماد الطلاب على الدروس الخصوصية والانقطاع عن المدارس وظهور كثير من المشكلات السلوكية والأخلاقية، هذا بالإضافة إلى صدور بعض القرارات التى أحدثت تغيرات جذرية فى الهيكل التعليمى ثم التراجع عنها، منها جعل المرحلة الابتدائية خمس سنوات بدلا من ست سنوات ثم التراجع وإعادتها ست سنوات مرة أخرى، ومنها أيضا جعل الثانوية العامة سنتين بدلا من سنة واحدة ثم التراجع وجعلها سنة واحدة وأخيرا جعلها ثلاث سنوات، وغير ذلك من القرارات التى تتعلق بأحوال المعلمين واختيار القيادات وطباعة الكتب ودمج التكنولوجيا فى التعليم والتوسع فى التعليم الدولى وغير ذلك، الأمر الذى دفع كثير من المعلمين وأولياء إلى رفض سياسات التجريب فى المعلمين والطلاب، كما دفع ببعض الأكاديميين وكتاب الرأى إلى المطالبة بإنشاء «مفوضية للتعليم» تُمثل فيها الوزارات والمؤسسات المعنية بالتعليم ومؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب والقطاع الخاص وأولياء الأمور وتكون مهمتها رسم السياسات التعليمية وإعداد الدراسات حول ربط التعليم بسوق العمل، وقصر دور الوزير المختص على الجانب التنفيذى لتلك السياسات.
وفى ظل انتشار هذه الدعوات بإنشاء «مفوضية للتعليم»، ومع وجود المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية والمركز القومى للامتحانات والتقويم التربوى والمجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى والمجلس الأعلى للجامعات، قام المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية باعتباره المؤسسة البحثية القومية المعنية برسم السياسات التعليمية فى مصر والتخطيط لها بحكم قانون إنشائه بإجراء دراسة حول هذا الموضوع لاستبيان الموجود فى دول العالم والفرق بينه وبين ما هو موجود عندنا وأين تكمن المشكلة، وهل بالفعل نحن فى حاجة إلى إنشاء كيان جديد تحت مسمى «مفوضية للتعليم» أم أن هذا الموضوع يقع فى دائرة فانتازيا إنشاء الكيانات وأن وجود هذه المفوضية مثل عدمه ولن يضيف جديدا وأن كل ما نحتاج إليه فقط يتمثل فى تفعيل الكيانات الموجودة المشار إليها لكى تؤدى الأدوار التى أنشئت من أجلها!!!
وفيما يتعلق بمفهوم «مفوضية التعليم» اتضح من الخبرات الدولية أن هناك من يستخدمه تحت مسمى «مفوضية للتعليم»، وهناك من يستخدمه تحت مسمى «المجلس الأعلى / المركزى للتعليم»، أو «هيئة / لجنة التعليم»، أو «المجلس الاستشارى للتعليم»، ويختلف الهدف من إنشاء هذه المفوضية من دولة إلى أخرى طبقا لظروف كل منها؛ فالدول التى تعمل بالنظام اللامركزى للتعليم ويكون التعليم فيها مسئولية كل ولاية مثل الولايات المتحدة الأمريكية تنشئ هذه المفوضية بهدف التنسيق بين الولايات ووضع معايير عامة يلتزم بها الجميع، أما الدول ذات العرقيات المتعددة التى تطبق فيها كل عرقية نظاما تعليميا خاصا بها مثل كندا وأستراليا فتنشئ هذه المفوضية بهدف التنسيق فيما بين هذه الأنظمة العرقية، وهناك أيضا دول تنشئ هذه المفوضية كنوع من المشاركة الشعبية فى إدارة التعليم للتوفيق بين المركزية واللامركزية مثل اليابان التى يوجد بها مجلس مركزى للتعليم على مستوى الدولة ومجالس للتعليم على مستوى كل إقليم، هذا بالإضافة إلى أن هناك دولا تنشئ هذه المفوضية كجهة استشارية لوزير التعليم لمساعدته على اتخاذ القرارات ومواجهة المشكلات مثل الهند وماليزيا.
وفيما يتعلق برسم السياسات التعليمية اتضح أن بعض تلك الدول تنشئ هذه المفوضيات بصفة مؤقتة لدراسة واقع التعليم ورفع تقرير بإصلاحه خلال فترة زمنية محددة كالهند، أو بشكل دائم كباقى الدول المشار إليها، وفى جميع الدول تقوم المفوضية بعمل استشارى فقط غير ملزم للوزير أو للحكومة، كما أنها تقدم تقريرا يتم مناقشته من قبل الحكومة لكى تتخذ القرار المناسب بشأنه، كما أن عملها يقتصر على الجانب البحثى وتوفير الخبرة الاستشارية للوزير، ولا يتطرق إلى توزيع الموازنات المالية أو المحاسبية أو اختيار الوزير أو إقالته، ويتشكل الجانب الأكبر من أعضاء هذه المفوضيات من المتخصصين التربويين المشهود لهم بالكفاءة، بالإضافة إلى رؤساء الهيئات المعنية بالتعليم كأعضاء بصفتهم الوظيفية.
وبالنظر إلى واقع رسم السياسة التعليمة فى مصر نجد أن المعنى رسميا برسم هذه السياسة وتزويد المسئولين بالخطط والمعلومات التربوية، وتقديم الرأى الاستشارى لمتخذ القرار هو المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية، أما الجهة المنوط بها اتخاذ القرارات التربوية فتتمثل فى المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى، والمجلس الأعلى للجامعات، وقد أنشئ المركز القومى للبحوث التربوية بالقرار الجمهورى رقم ۸۸۱ لسنة ۱۹۷۲ باعتباره هيئة عامة تمارس نشاطا علميا وتتبع وزير التعليم الذى يترأس مجلس إدارته، ثم صدر القرار الجمهورى رقم 16 لسنة ۱۹۸۰ باعتباره من المؤسسات العلمية، ثم صدرت اللائحة التنفيذية له بالقرار الجمهورى رقم 53 السنة ۱۹۸۹، وتنص فى مادتها الثانية على أن المركز يهدف إلى تزويد المسئولين والمشتغلين بالسياسة التعليمية وخطط التعليم بالمعلومات العلمية والتربوية السليمة، التى تساعد الطلاب عبر مراحل الدراسة العامة والفنية على النمو والنضج عقليا واجتماعيا، وتهيئتهم لاستيعاب ما يستجد فى ميادين العلم، وتنمية قدراتهم على التفكير والإبداع، والإسهام فى تطوير العلم ووضعه فى خدمة المجتمع، ولتحقيق ذلك يقوم المركز بإجراء البحوث والدراسات اللازمة حول تطوير العملية التعليمية والتربوية فى جميع جوانبها، ووضع نتائج هذه البحوث والدراسات موضع التجريب للتأكد من صلاحيتها قبل تعميمها، وكذلك العمل على تطوير المناهج التعليمية ومضمون الكتب الدراسية وإعداد الوسائل التعليمية وطرق التدريس المتوائمة معها، وإعداد خطط لتدريب المعلمين عليها، هذا بالإضافة إلى القيام بدور استشارى للوزير المختص والحكومة فى كل ما يتعلق بشئون التعليم.
وأما بخصوص المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى، فقد أنشئ فى عام ۱۹۸۱ طبقا للماد الثانية من القانون ۱۳۹ لسنة ۱۹۸۱، والتى تنص على « ينشأ مجلس أعلى للتعليم قبل الجامعى برئاسة وزير التعليم يتولى التخطيط لهذا التعليم ورسم خططه وبرامجه، ويضم ممثلين لقطاعات التعليم والجامعات والأزهر والثقافة والتخطيط والمالية والإنتاج والخدمات والقوى العاملة وغيرهم من المهتمين بشئون التعليم، ويصدر بتشكيله وتحديد اختصاصاته قرار من رئيس الجمهورية بناء على عرض من وزير التعليم، ويشكل وزير التعليم بعد موافقة المجلس مجالس نوعية منبثقة عنه تختص بمرحلة أو نوعية من نوعيات التعليم قبل الجامعى، كما تشكل مجالس محلية للتعليم ولجان نوعية منبثقة عنها ويصدر بتشكيل هذه المجالس واللجان المتفرعة عنها قرار من المحافظ المختص بعد موافقة وزير التعليم»، ويعتبر هذا المجلس شريكا فاعلا فى صنع القرار التعليمى؛ حيث يشترط القانون موافقته على ما يتخذه الوزير من قرارات.
وفيما يتعلق بالمجلس الأعلى للجامعات فتتبعه جميع الجامعات الحكومية ما عدا جامعة الأزهر والجامعة العمالية طبقا لنص المادة 12 من قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة ۱۹۷۲؛ حيث تنص هذه المادة على أن: للجامعات مجلس أعلى يسمى «المجلس الأعلى للجامعات» مقره القاهرة، يتولى تخطيط السياسة العامة للتعليم الجامعى والبحث العلمى والتنسيق بين الجامعات فى الأنشطة المختلفة، ويتبعه لجنة للمعادلات، ولجنة للعلاقات الثقافية، ولجنة للتخطيط لقطاعات التعليم الجامعى، ولجنة لترقيات أعضاء هيئة التدريس، ويختص المجلس بمعادلة الدرجات العلمية التى تمنحها المؤسسات التعليمية غير الخاضعة لهذا القانون والشهادات الممنوحة من المؤسسات التعليمية الأجنبية، ورسم الإطار العام للوائح الفنية والمالية والإدارية لحسابات البحوث والوحدات ذات الطابع الخاص فى الجامعات، والتنسيق بين الكليات والمعاهد والاقسام المتناظرة فى الجامعات، وأيضا بين نظم الدراسة والامتحان والدرجات العلمية فى الجامعات، وتحديد وإنشاء تخصصات الأستاذية فى الجامعات، وتنظيم قبول الطلاب فى الجامعات وتحديد أعدادهم، وإبداء الرأى فى مقدار الإعانة الحكومية التى تمنح سنويا لكل جامعة، ورسم السياسة العامة للكتب الجامعية ووضع النظم الخاصة بها. ويشترط موافقة المجلس الأعلى للجامعات على قرارات وزير التعليم العالى طبقا لقانون تنظيم الجامعات المشار إليه.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: هل نحن فعلا فى حاجة إلى مفوضية للتعليم فى مصر؟!!!!
من خلال استقراء واقع السياسة التعليمة فى مصر يتبين أن مصر يوجد بها من المجالس والمراكز المناظرة لتلك الموجودة فى الدول الأخرى تحت مسمى «مفوضية للتعليم» أو غير ها من المسميات التى تعنى بتقديم الخبرة الاستشارية لوزير التعليم المختص، تتمثل فى المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية والمركز القومى للامتحانات والتقويم التربوى والمجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى بالنسبة لوزير التربية والتعليم، والمجلس الأعلى للجامعات بالنسبة لوزير التعليم العالى؛ إلا أن هذه المراكز يتم تعيين مدرائها بقرار جمهورى بناء على ترشيح من الوزير المختص الأمر الذى قد يتعارض مع استقلاليته وحرية إبداء المشورة فى الأمور التربوية والتعليمية، كما أن معظم المهام التى أنشئت من أجلها هذه المراكز لا يتم تقريبا تفعيلها بالقدر المطلوب باستثناء المجلس الأعلى للجامعات، نظرا لعدم استطلاع رأيها فى قضايا التعليم أو الاهتمام بما تنتجه من دراسات أو تبديه من استشارات، كما يتبين أيضا أن الجهتين المتخذتين للقرارات التربوية وهما المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعى والمجلس الأعلى للجامعات يتم تعيين المدير فيهما أيضا بقرار جمهورى بناء على ترشيح من الوزير المختص الأمر الذى قد يتعارض مع استقلالية اتخاذ القرارات التى تصدر عنهما.
وفى ضوء ما تقدم فإننى أرى أننا لدينا من الكيانات القائمة فى هذا الشأن ما يكفى وزيادة والتى تكلف الدولة سنويا مبالغ طائلة تصرف سواء من الموازنة العامة للدولة أو من المنح والهبات، ويكفى أن نعلم أن المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية به ما يزيد على 300 باحث بدرجة أستاذ وأستاذ مساعد ومدرس، ويمكن تفعيله للقيام بمهامه كاملة، كما أن المجلس الأعلى للجامعات يقوم بدوره كاملا، ومن ثم فنحن لسنا فى حاجة إلى إنشاء كيان جديد تحت مسمى «مفوضية للتعليم» أو غير ذلك من المسميات لأن جميع اختصاصات المفوضية المطروحة هى نفسها اختصاصات المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية بالنسبة للتعليم قبل الجامعى، والمركز الأعلى للجامعات بالنسبة للتعليم الجامعى، ويمكننا دعم هذين المركز ين من خلال منحهما مزيد من الاستقلالية كى يقوما بأدوارها بمزيد من الحيادية، من خلال آليات كثيرة من بينها مناقشة التقارير السنوية التى تصدر عنهما من قبل مجلس الوزراء.