الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء الثالث “
بقلم: محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع وداع رمضان، وقد توقفنا عند تاريخ الأمم المتعاقبة من لدن آدم عليه السلام؟ فإنه لم يبق منها إلا بعض ذكرها، وليس لأفرادها إلا ما استودعوا صحائف أعمالهم، منهم أمم عاشت آلاف السنين، وأفراد تجاوزوا المئتين، ونوح عليه السلام قضى من السنين في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والله تعالى أعلم كم كان عمره كاملا، فأين تلك الأمم؟ وأين من عمروا فيها طويلا؟ لقد مضوا إلى ربهم وكأنهم ما عاشوا فى الدنيا إلا قليلا، إن عمر الإنسان لا قيمة إلا بما كان فيه من عمل، فالشيخ الذى يعمر في طاعة الله تعالى حتى احدودب ظهره وسقط حاجباه على عينيه من الكبر يكون طول عيشه حجة له، وسببا في زيادة حسناته ورفع درجاته، فيحظى بالمنازل العالية عند الله تعالى، ولذا كان من إجلال الله تعالى “إكرام ذي الشيبة المسلم” وأما من عمر طويلا فقضى عمره في معصية الله تعالى، فيا حسرة له على ما فرط وضيع، ذهبت الملذات والشهوات، وبقي الندم والحسرات، وكيف يقابل الله تعالى من كان هذا حاله؟
وقد جاء في الحديث الشريف “أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وأن شر الناس من طال عمره وساء عمله” وإن الدنيا مثل شهر رمضان تمضي بلذائذها وشهواتها، وتعبها ونصبها، وينسى العباد ذلك ولكنهم يجدون ما قدموا مدخرا لهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ونحن في أخريات شهرنا سلوا من جاهدوا نفوسهم واصطبروها على طاعة الله تعالى في الأيام الماضية، فأضنوا أجسادهم، وأمضوا نهارهم في أعمالهم وفي بر والديهم، وصلة أرحامهم ونفع إخوانهم رغم صيامهم، وأسهروا ليلهم في التهجد والمناجاة، والدعاء والاستغفار، سلوهم الآن عن تعبهم وسهرهم، وعن جوعهم وعطشهم، تجدوا أنهم قد نسوا ذلك، ولكن كتب في صحائفهم أنهم صاموا فحفظوا الصيام، وقاموا فأحسنوا القيام، وعملوا أعمالا صالحة كثيرة امتلأت بها صحفهم في رمضان، ولسوف يجدون عقبى ذلك غدا في قبورهم وعند نشرهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وسلوا الذين قضوا رمضان في النوم والبطالة، ورفهوا عن أنفسهم بأنواع المحرمات.
وتفكهوا بما يعرض فى الفضائيات، وضحكوا كثيرا من مشاهد السخرية بدين الله تعالى، وإن صلى أحدهم صلى ثقيلا، وإن قرأ القرآن ملّ منه سريعا، وما مضت عليهم الليالى السالفة إلا وقد أخذوا من الرفاهية أكثرها، ومن الضحك والمتعة أنواعها، سلوهم الآن عن أنواع الرفاهية والمتع التى تمتعوا بها لن تجدوا عندهم منها شيئا يذكر، وبقيت الأوزار تثقل كواهلهم، وتسود صحائفهم، ولا نجاة لهم إلا بتوبة عاجلة قبل أن يحال بينهم وبين التوبة، وإن الدنيا هي مثل تلك الأيام التي مضت بحرها وعطشها وجوعها وسهرها وتعبها، ينسى المعمرون فيها ما أصابوه من أنواع الخير والسراء، وألوان الرفاهية والنعماء، كما ينسون ما لحقهم فيها من أصناف البلاء والضراء، ويبقى المحسن فيها محسنا يجني في الآخرة ثمرة إحسانه، كما يجد المسيء عاقبة سوءه يوم القيامة، ومصداق ذلك ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه فقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة.
ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب، ويؤتى بأشدِّ الناس بؤسا فى الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط” رواه مسلم، فقد نسي المؤمن المعذب في الدنيا كل ما أصابه فيها بغمسة واحدة فى الجنة، ونسي الكافر الفاجر كل النعيم الذي عاشه سنين طويلة في الدنيا بغمسة واحدة في النار، إنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن اتعظ، فمن فهمها فأخذ بها نجا برحمة الله تعالى، ومن أعرض عنها فلا يلومن إلا نفسه، ويوم القيامة يجد نتيجة ذلك، والقرآن مليء بهذا المعنى الذي دلَّ عليه الحديث، ففي سياق الآيات التي تخبر عن أحوال أهل الجنة نجد أنهم فرحون برحمة الله تعالى لهم، ومغتبطون بما نالوه من الثواب العظيم على أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وقد نسوا ما أصابهم في الدنيا من أكدارها وآلامها ومصائبها، ولذلك يحمدون الله تعالى على هدايته لهم إلى الإيمان.
والعمل الصالح الذي كان سببا فى دخولهم الجنة، وفي مقابل ذلك يخبر القرآن عن ندم أهل النار يوم القيامة حين يرون أنواع العذاب والنكال، وأنهم يتمنون الرجوع للدنيا للعمل الصالح، ولكن هيهات قد حيل بينهم وبين ذلك، وما هى إلا فرصة واحدة لا تتكرر، فما أشد بؤسهم، وما أعظم خسارتهم حين يبعثون من قبورهم للحساب، ويتمنوا العوده إلى الدنيا لكى يعملوا صالحا، ولكن لا يجابون إلى ذلك، فقال قتادة رحمه الله تعالى “والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب، ولو أن الله تعالى أجابهم إلى ما أرادوا من إعادتهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا لعادوا إلى أعمالهم السيئة، إذ لو كانوا صادقين في دعواهم لأخذوا العبرة مما حلَّ بالمكذبين قبلهم، ولم يسيروا سيرتهم وهم يعلمون عاقبتهم، فيقفون أمام ربهم وهم في غاية الذل والانكسار، والخزى والعار مما صنعوا واكتسبوا في الدنيا، فلا رجوع حينئذ.
إنما حساب وعذاب، فخذوا من حالهم أبلغ العبرة، وأحسن الموعظة، فقد قرأتم كتاب الله تعالى في الأيام الخوالي، واستمعتم إلى آياته في تلك الليالي، وعلمتم كثيرا من أوصافهم وأحوالهم، فحذار حذار أن تسلكوا مسلكهم، فإن دنياهم زالت عنهم، وبقي عذابهم بأعمالهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم، ولا نعيمهم في الدنيا من عذاب الله تعالى شيئا، فمن أحسن فيما مضى من رمضان فليحمد الله تعالى، وليختم شهره بكثرة الاستغفار، وليثبت عقب رمضان على العمل الصالح، وليعلم أن انتهاء العمر سيكون كانتهاء رمضان، يمر سريعا ولا يبقى له إلا ما عمل فيه، ومن أساء فى رمضان وفاته الخير والإحسان، فليبادر بتوبة صادقة يختم بها شهره، وليستغفر لما مضى من ذنبه، وليأخذ من سرعة دخول الشهر وخروجه عبرة بسرعة زوال الدنيا، وقرب رحيله هو عنها، وله عوض فيما بقي من عمره عما فاته من تحصيل الخير، وليحذر من تضييع عمره كما ضيع رمضان، فتكون عاقبته الندم والخسران.
وإياكم أن تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، بئس القوم، قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، فإذا انسلخ رمضان كان عيدهم إضاعة للواجبات، ونوم عن الصلوات، ومقارفة للمعاصي والمنكرات، يا هؤلاء إن كان الله تقبل منكم فليس هذا بفعل الشاكرين وإن كان الله لم يتقبل منكم فليس هذا بفعل الخائفين، ويا هؤلاء ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد، فكم هي المعاصي والمنكرات التي يقع فيها المسلمون في العيد، فمنها إضاعة الصلوات، وشرب المسكرات والمخدرات، والعكوف على القنوات الفضائيات، ومنها الإسراف في بذل الأموال الطائلة في المفرقعات والألعاب النارية دون جدوى، وحرى أن تصرف هذه المبالغ على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وما أكثرهم، وما أحوجهم، ومنها خروج بعض النساء متبرجات بزينة، متنقبات أو سافرات، ومن المعلوم أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة، حتى لا تحصل الفتنة منها وبها.