“تـــوم وجـــيرى”…مــادة غنية للدراســــات الجامعيــة بقلـــم الأديب المصــرى
د. طــارق رضـــوان جمعــه
“بداخل كل شخص حيلة دفاعية، وهي إستراتيجيات نفسية يستخدمها العقل الباطن لحماية الفرد من التوتر الناجم عن الأفكار أو المشاعر المرفوضة.” (سيجموند فرويد … ورقة بحثية بعنوان “الأنا والهو” في عام 1923.
اختلاف النكت بين الشعوب يوفر مادة علمية للمقارنة فيما بينها من حيث طبيعة حياتها وانظمتها السياسية وقيمها الأخلاقية..ولك أن تقول :(قل لي نكات مجتمع ما أقول لك من هو وكيف يعيش).
لا يوجد تعريف محدد للنكتة،بل لعلك تستغرب من كثرة معانيها.فالأصل في فعل )نكت) أن تضرب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها، بحسب قاموس المحيط . أو(نقطة سوداء في الشيء الأبيض أو العكس،أو كلام لطيف يؤثر في النفس إنشراحاً،أومسألة دقيقة يتوصل إليها بدقة نظر وإمعان فكر ،أو حِكَايَةً مُسْتَمْلَحَةً تُضْحِكُ وَتَنْبَسِطُ لَهَا النَّفْسُ , أوالفكرةُ اللطيفة المؤثِّرَة في النفس، أو المسأَلةُ العلميَّةُ الدَّقيقةُ يُتَوصَّلُ إِليها بدقَّة وإِمعانِ فِكْر) بحسب معاجم عربية.
وكانت النكتة شائعة في الحضارات الفرعونية والإغريقية،والأوروبية لاحقاً بعد ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة وحكايات عربية شعبية أخرى. حيث رمز قدماء المصريين للصراع بين الملك والشعب بصراع بين القط والفأر، فكان يرمز بالقط إلى الملك والفأر إلى الشعب. ويعدّ زمن شكسبير العصر الذهبي للنكتة (المهذّبة) التي ضمّن عدداً منها في مسرحياته.
وفي الحضارة العربية،يعدّ كتاب (أخبار الحمقى والمغفلين )لأبي الفرج الجوزي،وكتاب (البخلاء) للجاحظ ونوادر جحا ،هي الأكثر شهرة في النوادر والطرف.
شخصية جحا تعدّ أشهر شخصية فكاهية في التاريخ العربي،ويقال إن اسمه الحقيقي هو أبو الغصن دجين الفزاري،وأنه عاصر الدولة الأموية ومات في خلافة المهدي بعمر تسعين عاماً. وحكمة هذا الرجل انه يتظاهر بالجنون ليقول الحقيقة!،أو إنه أراد أن يقول لنا إن الجنون هو السبيل الوحيد لقول الحقيقة في عالم يبدو للآخرين معقولاً فيما هو مليء بالمفارقات غير المعقولة. ولم يكن عبثا أيضا أن يظل جحا، في المأثور الشعبي، مرتبطا بجنكيز خان، وتيمور لنك، وأبي مسلم الخراساني، وقراقوش، وأشباههم من الملوك والحكام. فجحا كمثال تصفه المصادر التاريخية بأنه شخص ذكي، لمّاح، حاضر الجواب، سريع البديهة، حاد البصيرة، ثاقب النظر، وإن تظاهر بغير ذلك، يتخذ أسلوبا خاصا في التغابي والتحامق كطريقة مثلى للهرب من بطش كل مَن ينال منه بسخريته.
“إذا أردت قول الحقيقة للناس، فأضحكهم، وإلا فإنهم سيُطيحون بك”( أوسكار وايلد).
وحين أتت الحملة الفرنسية ومن بعدها الإنجليزية، فانتقل إلى مصر شكل جديد من أشكال السخرية يُسمى “الكاريكاتير” ابتدعه الإيطالي “موسيني” ثم انتقل إلى أرجاء أوروبا ومنها إلى مصر، ومنذ البداية وجّه المصريون ذلك الفن الحديث حينها للإطار السياسي والإجتماعي. وكان استقبال المصريين للسخرية بكل أشكالها يُفسّر ظهور مئات الصحف والمجلات الساخرة، “بداية من مجلات عبد الله النديم مثل، التبكيت والتنكيت، والأستاذ، والنديم، وصولا للفكاهة، وألف نكتة ونكتة، والكشكول، والباشكاتب. ثم انتقلت أشكال السخرية الحديثة من كتابة ورسم إلى الوطن العربي من بوابة مصر، فتلقّفها فنانو العرب مثل الفلسطيني ناجي العلي مبتكر شخصية حنظلة، والفنان الليبي محمد الزواوي، واللبناني محمود كحيل.
تطوف النكتة على كل وسائل التواصل الإجتماعي، هذه الرسائل تصل إلى كل شرائح المجتمع . (النكتة) هي أسرع الوسائل وأنجحها لغسيل المخ والتأثير على الفكر .. ولهذا نجدها تغزونا في أكثر المواضيع حساسية وتأثيراً على المجتمعات .. لترسخ في العقول وكأنها حقيقة مطلقة ، وبالتالي تمارس دورها في تفكيك المجتمعات والنيل من الروابط الإجتماعية بين الأفراد ..
فلقد تم استخدام النكتة منذ زمن بعيد للتأثير على الدول والشعوب .. استخدمها الإحتلال البريطاني في مصر لكسر شوكة الصعيد الأحرار الذين أذاقوا الإنجليز صروفا من العذاب بثوراتهم ضد الإحتلال البريطاني آنذاك .. فأطلقوا عليهم النكت الكثيرة ومشاهد السخرية العديدة وألصقوا فيهم صفة الغباء والكسل والفوضى وكذلك في سوريا مع أهل حمص ، وهم في الحقيقة أكثر الشعوب نخوة و كرماً وغيرة و شجاعة .. بل وقدموا للعالم العربي الكثير من العباقرة والكتاب والشخصيات المعروفة .
ان لكل شعب وجدانه الثقافي ومستوى حضارته وطريقة التعبير عما يضحكه ويبكيه.
وتختلف طبيعة النكتة باختلاف المستوى الثقافي في المجتمع الواحد ايضا ،فالمثقفون تعجبهم النكت العقلية التي تستدعي الإعجاب وتثير التبسم ،والجمهور العام تعجبه النكت الصريحة التي تثير الضحك ،بينما البائسون واليائسون..تعجبهم مرارة النكتة.
اختص علماء النفس والإجتماع والباحثون بدراسة النكتة علمياً..بل إن جامعات فتحت فروعاً علمية خاصة بدراسة النكتة،مثل جامعة ولفرهامبتون التي خصصت قسماً مهمته دراسة تاريخ النكتة وعلاقتها بالطبيعة البشرية،فيما اهتمت جامعات عربية ،الجزائر بشكل خاص،باجراء دراسات عن النكتة برسائل ماجستير وأطاريح دكتوراه.
وتشير الدراسات الى أن النكت البذيئة (القذرة) تقل في شعوب البلدان المتطورة وتكثر في الشعوب المتخلفة لاسيما بين الشرائح الإجتماعية الشعبية.والتحليل السيكولوجي للنكتة البذيئة إنها عنف لفظي لعدوان مكبوت ضد آخر بهدف النيل من مكانته الإعتبارية أو التحقير.ولهذا فانها تعدّ مادة علمية لعلماء النفس والاجتماع يستطيعون الكشف من خلالها عن الأفكار والميول العدوانية لدى الطوائف الإجتماعية فى المجتمع الواحد.
الوظيفة الأولى للنكتة هي:
1- (النقد الساخر) لظاهرة إجتماعية أو سياسية أو أخلاقية او شخصية إعتبارية سواء كان رجل دين أو سياسة أو وجه إجتماعي.
2- تشخيص مواطن القبح والخلل في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والأسرية..تصاغ باسلوب فكه أو لاذع ،يجتذب المتلقي بطريقة محببة تجعله يفكر في الرسالة التي تحملها النكتة ليتأمل نفسه والواقع الذي يعيشه
وأكثر من يمارس النكتة هم بسطاء الناس والعاجزون لكونها ثقافة شعبية سهلة التداول يرّوحون بها عن هموم الحياة ويضحكون على أنفسهم،ما يوفر مادة غنية لعالم النفس والاجتماع لمعرفة ما يعانيه المجتمع أو مكون اجتماعي فيه، وتحليلها وفقا لآلية الكبت ما اذا كانت تستهدف :التنفيس ،التشهير ، الفضح ،العقاب..،أو: التسلية ،الفكاهة ،التنفيس ،خفض التوتر ،الاسترخاء البدني والنفسي ،توثيق العلاقات بين الأصدقاء..واضحاك الناس.
هناك فارق كبير بين النكت والسخرية من الآخرين، وأهم فارق بينهم أن هذا يكسبك الناس وهذا يخسرك الناس. النكتة تكون على (حالة اقتصادية، أو شخص مجهول، أو جماعة معينة) بمعنى أوضح النكتة غير خاصة بل عامة تتكلم في العموم والمطلق. أما السخرية فهي تكون مقصودة على شخص معين ولذلك تجنبها حتى تستطيع الحفاظ على كل من هم حولك.
فحسب الدراسات، نسبة الضحك تزداد 30% عندما تكون في مجموعة. ما يضحك الناس هو السخرية من الواقع، فالجميع يعلم أن الواقع مُر وصعب، ويحتاجون دائماً من يقلل من حدة وصعوبة هذا الواقع. فالسخرية منه تكون بمثابة إهانة له وإهانة الواقع والظروف الصعبة أمر صحي جداً للإنسان من حيث الضحك. ومن حيث أن الناس تحب هذا لأنهم يشعرون أن الحياة بسيطة والواقع هذا ليس سوى شيء عادي سيتغير مع الوقت.
ويُصنِّف فرويد الدفاعات النفسية التي يستخدمها العقل إلى أربعة أقسام: المرضي، وغير الناضج، والعصبي، والناضج، فمن صفات الدفاعات النفسية الناضجة؛ الصبر، الشجاعة، الاحترام، التقبُّل، والفكاهة. فيصف الفكاهة بأنها تعبير عن الأفكار أو المشاعر التي عادة ما تكون ذات طبيعة مؤلمة بصورة مزاحية تعطي البهجة للآخرين.
وحالياً الكوميكس موجودة في كل مكان، وبدأت تفوز بجوائز أدبية محترمة، وهي بالفعل تؤثر في الثقافة بدرجة كبيرة.
أغرب ما يمكن رصده في رد فعل جمال عبدالناصر على النكت أنه يتخذ قرارات بناءًا على السخرية، حيث يروي كتاب النكتة السياسية للصحفي محمد الباز، أن عبدالناصر سمع بنكتة وقت أزمة الأرز مفادها أن شخصًا أراد أن يسافر إلى الإسكندرية لشراء أرز فعند طنطا سأله الكومساري عن سبب سفره فقال له «رايح أجيب رز من إسكندرية» فقال له الكومساري «تنزل وترجع تركب من طنطا عشان الطابور بيبدأ من هناك»، وبمجرد أن سمع ناصر تلك النكتة أصدر توجيهات بحل أزمة الأرز وانفعل على مسئولي وزارة التموين.
لكن أغرب ما يمكن رصده في تاريخ مصر أن ختْم النسر الذي اشتهرت به مصر منذ عهد الدولة الأيوبية غيره السادات إلى الصقر بسبب نكتة ألقاها أمامه حمادة سلطان عام 1972 م.
وختاماً، تخيروا ماتشاؤون من الطرائف التي تراعي العرف والدين .. واجتنبوا كل مامن شأنه أن يشكك في قوة العلاقة الأسرية أو يساهم في تهوين واستصغار المنكرات ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم كان يقول ” استوصوا بالنساء خيرا ” وكان أشد الناس وفاء وإخلاصا لزوجاته.