هدية المليز
محمد رفيع
“لقد أتخذت قرارا أريدكم جميعأ ان تعينونى عليه……” ودق الدمعة في طرف من العين يلتمع، والاحداق تأبى ان تتركه يتكون، تشده برجع من الروح في الصدر ، فأنفاس ما قبل البكاء كالمد والجزر والدموع كالأمواج يتطاير رزازها على الخد.
” لقد قررت ان اتنحى تماما ونهائيا عن اى منصب رسمى و أى دور سياسى وان أعود الى صفوف الجماهير” غاص الخطاب في رئتي كما السكين ، وأحسست ان أحد سحب الهواء من حولي، كنت مكسورا كإناء انسكبت منه الروح ، راهنت نفسي ان الدمعة لن تسقط على الخد الصعيدى ولن تكبر أكثر من انبلاجة تطلع وتخفت في بئر العينين السحيق، شمس سيناء الحارقة كانت أهون علي من تلك الدميعة التي تحرق الروح، مشيت ومشيت كي ألتقى وجهك و أشكو لك من هلاك الحروب من غدر الاعداء مشيت وسط الدخان والحرائق وأنّات الجنود ، وكأننى أمشى في وادى من وديان جهنم، الشفاه العطشى مغروسة فى الرمال والسواعد المقطوعة متناثرة ، أردت ان أحكي لك عن ظابط قطعت قدميه ورأيته يجدف بزراعيه فوق الرمال، اقتربت منه وحملته على كتفي ودمه ينقط من ثنايا الشاش على ظهري، وكلما مشيت به مسافة لا أدريها أضعه على الارض ، وألف الشاش على الجرح جيدا ، وجدت ساعتها قطعة من لحم رجله تدلت وتلوثت بالرمال والبارود تدلت خارجة من رباط الشاش، فألمها إلى ما تبقى من لحم الفخذ واربطها جيدا ، ثم أرفعه على كتفى ونمشي ، كان يغنى يا سيدي “يا أهلا بالمعارك” وأنا أفكر أنه سيقضي العمر يجدف بساعديه على أرضية العمر، لكني أعترف لك وانكساري وانكسارك واحد، أنني لما هدّني التعب وشح الماء ، لم أستطع السيراكثر من ذلك ونمت على الارض وظل الذي بلا ساقين يحرسني وأنا نائم ، وعندما أستيقظت وجدته يقدم لى مصحفا ويضعه على عيني ويستحلفني أن أتركه في تلك الصحراء ، قال: لي “أن عودته أو عدمها لن تفيد فلن يستطيع أن يقدم شئ للوطن بعدما فقد رجليه أما أنا فلابد أن أعود إلى الديار لأتزود وأرجع إلى هذه الارض، وان رفاته حتما ستنتظرني وتقبل كعب قدمي وانا أدوس هذه الارض مرة ثانية”.
أتعرف يا سيدي الشفاه المتشققة العطشى منذ أيام عندما تبتل بملح الدمع الغزير، أنه طعم لا ينسى يا سيدي وسيظل في شفتي حتى أقابل وجه الكريم، طلب مني بعد ذلك أن أقطع له تلك القطعة التي تدلت من لحم فخذه فانها تجرجر في الارض كلما أهترأ الرباط وتلوث وستؤلمه قال لى ونظرته ثابتة فى تحد واصرار : “عايز أخش على حضرة النبي ثابت ما يهزني ألم ولا وجع “، قطعت قطعة من قماش كمي بالخنجر ووضعتها بين أسنانه فككت الشاش حتى تدلت قطعة اللحم هذه، فنظرت إليه فشجّعنى وقال “شد حيلك يا عبد الجواد اللى لقاني قبلك كوى جروحى بالنار ولفها بالشاش ويمكن اللى يلاقيني بعدك يوصلنى لحد القناة أو يعديني” ، قال: ذلك ووضع القماش بين أسنانه وأستسلم لى وللخنجر في يدي، أغمض عينيه وأنتظر و تركنى لذلك الجحيم من الاسئلة، كيف ستعمل خنجرك في لحم أخيك يا عبد الجواد؟ ، لو كنت أنت لا تلين سيلين الحديد المسنون، من سيقطع الاخر اللحم الطاهر أم خنجرك الغادر؟ ، قلي يا عبد الجواد هل يقو بأس الحديد على ذلك؟
وضعت السن على لحم أخي وقطعت قطعت ، تخيلت ساعتها أن الله في عليائه أشار للملائكة أن يكفوا رفيف الاجنحة وينظروا ماذا أفعل أنا العبد الضعيف، ربطت الجرح بالشاش ولم أنظر اليه وضعت قطعة اللحم في جيبي ، خفت عليه ان يأكلها اذا جاع، ومشيت عنه بضعة خطوات ثم سقطت على الارض فاقدا الوعي ولما أفقت وجدته يجدف بذراعيه رافعا جزعه إلى أعلى ومكملا الطريق، رأيت جبال سيناء في فسحة ما بين جزعه المرفوع و الارض من تحته، رأيت وجه الايمان يتجلى في تلك الفسحة ، فقمت على قدمي وعدوت ، عدوت نحوك لأشكو لك قسوة الهجير قسوة نصل يمشي في لحم هو لحمي، وصلت إلى شط القناة فرميت نفسى بها وكأننى ألتقيت أمي ، كان الماء باردا في الليل ، عمت الي ضفتك ، وعندما وصلت لم أجد لحم أخي في جيبي فبكيت وبكيت وسألت الله أن يرفعني اليه ، لكن ذلك اليوم لم يكن أقسى علي لو سالت تلك الدمعة على الخد الصعيدي، فالحمد لله انها لم تسل، والا أحرقت قلوبنا جميعا ولا سبيل لمسحها بكل أصابع البشر.
خرج الناس رافضين الرحيل ، رافضين ان ينال الاعداء منك.
بعد شهور مرت ومرارة فى حلقي لاتختفى وشفتى تذكر طعم الدمع ممزوجا بالرمل فى شقوقها أستدعيت إلى مكتب القائد ، فقال الرئيس يود أن يرسل هدية للأعداء في أول ذكرى للنكسة و أنا اخترتك مع ستة من زملائك لتوصلوا هديته ، لن أقول لك يا سيدي انى كدت أطير من الفرح لأننى طرت فعلا، ظهر لقلبي جناحين حلق بهم في فضاء جسدي ، انا سأحمل هدية الرئيس للأعداء سألت القائد بكل حروف الاستفهام، متى؟ كيف؟ من؟ هل؟ لكنه أجاب بجواب واحد إن علي أن أتدرب وأتدرب.
في الصباح عرفت باقي الزملاء أحمد ياسين ، ومحمود الشرقاوي، وعبيد النوبي ورفقاء الصاعقة الذين حملوا القلوب على أكفتهم، أسود الصحراء الذين يأكلون اللون الاصفر أكلا ، جبال النار التي تفترس لحم الدبابات ، وتنظر للطائرات في السماء على أنها ذباب يزن يجب سحقه.
في التدريب النفسي أجتمعنا مع ضابط من الشؤون المعنوية يحدثنا عن هدية الرئيس للأعداء بعد أن عاد وقرر اعادة بناء الجيش لكن الصاعقة لن تنتظر ، أسود الصعقة يحققون انتصاراتهم والعدو في عز زهوته بانصاره الخبيث، فجأة قام أحد الافراد الذىن لا نعرفهم وقال :كيف يبنى الجيش ثانية بعد مسرحية التنحي التي خدع بها الشعب ، ألتفتنا اليه جميعا كما لو كان هبط من السماء وبدى لنا غريبا ، وكاد البعض يفتك به ، غير أن القائد رد بهدوء : تقصد ان التنحي كان معدا له وان الناس التي خرجت من تلقاء نفسها كانت ترسم دورا مرسوم لها ،
قال: الجندي الغريب : تمام يا فندم.
قام القائد من مجلسه وتقدم نحو الغريب وقال له : لو أن كلامك صحيح فهذا انتصار عظيم ، وستكون هذه هي أكبر وأذكى عملية شحن معنوي حدثت في التاريخ، ثم سأله: تعرف شيئا عن مسيرة الملح ،
فأجاب : مسيرة غاندي التي أقنع بها الناس السير حتى البحر ،
قال: :تعرف شيئا عن أخناتون
فأجاب من وحد الديانات في دين واحد
قال: : كيف تظن ان الناس يفعلون ذلك؟ كيف تقنع الألاف ليتبعوك من أجل حفنة ملح ؟، كيف تلغي كل الالهة وتجعلهم إله واحد ويصدقك الناس؟ ، كيف تلهم الناس ان يغيروا من معتقداتهم؟ ، هل تستطيع ان تقنع زملائك هؤلاء ان يمشوا معك مئات الاميال لتجلب لهم حفنة ملح؟ مال عليه وقال : حفنة ملح وليس تاجا ذهبيا ، أو كنزا مخفيا ، هل تعلم كم استغرق غاندى في ذلك؟ثلالثة سنوات واخناتون، سبعة عشر سنة ، فما بالك بالذي استطاع عمل ذلك في ليلة واحدة ، كيف لك ان تستبدل 25 مليون قلبا جريحا بقلوب مليئة بالتحدى والامل ، في بضع ساعات ، ماذا تفعل لو أعطيتك مكروفونا و ملايين القلوب الجرحى؟ وقلت لك في ساعة واحدة عليك ان تبنى العزائم وتداوى الجروح ، أن توحد الرايات. يا بني حتى ان كان ذلك معدا – وهو ليس كذلك – فهو نصر عظيم.
ثم التفت لنا القائد وقال كيف حالكم ؟ هتفنا كلنا اصرار ورغبة في القتال ، قال: زميلكم هذا من الشؤون المعنوية والحوار الذي دار معد سلفا؟ هل تصدقون؟ نظرنا إلى بعضنا البعض ثم قلت انا : لا يهم ان كان ذلك صحيحا أم لا المهم ما وصلنا اليه. قال: هذا هو الدرس الذى أردتكم ان تفهموه لا تلتفت إلى من يحاول تفتيت العزم فيك كن نفسك كن ما تؤمن به ، وان كنت تريد ان تعرف ما الذى حدث في تلك الليلة فأسأل أمك وأبيك و ناس قريتكم ما الذى أباتهم في الشوارع؟ من سحب الدموع من مآقيهم؟ كيف تحول حزنهم في ساعة واحدة لعزيمة لا تفتر؟
ثم قال: : جدي الله يرحمه كان يقول لنا يمكن ان تأخذ البقرة إلى الترعة ولكن لايمكن ان تجعلها تشرب. يمكن ان نخرج الناس من بيوتها ولكن كيف نجعلها تبكي.
سرت كلمات القائد في العروق كالسحر ، تحول الدم في الشرايين إلى بارود ، وانتفخت وجوهنا وأحمرت من صهد الاصرار.
مرت أيام التدريب الاولي ونحن نأكل الصعاب نطوى المسافات مشيا وكأن الارض صارت كموسى الحلاقة يطوى بالصابع ،
وفى اليوم الموعود تحركنا في السادسة مساء، ركبنا قاربا صغيرا انزلنا على الضفة الغربية للقناة ، وبدأنا المشى إلى الهدف ، خطوات تلوها خطوات في مسيرة الثأر ، هواء سيناء ملئ بالاصوات و الانات المكتومة والصرخات . الليل شاشة سوداء ترى عليها شريط حياتك ، المدرسة الثانوية ، توزيعك على سلاح الحرس الجمهوري ، اخفاءك على والدتك انك طلبت نقلك لسلاح الصاعقة، بنت الجيران التي تنشر القلب على حبال الشمس، صحن الفول بالزيت وفحل البصل الاخضر ، الضحكات على العشاء عندما يقلد أباك أحدا من الجيران فتبين أسنانه الصفراء ، الشاى فوق الصينية ورأس أمك طالعة من البخار وانت جالس على الارض ترى وجهها في نور اللمبة الجاز يطلع من الظلام إلى النور ، شاشة الليل أوسع من شاشة الاحلام ، والمشي صديقنا في الليل وعند طلوع الشمس نحفر حفرا برميلية نرقد فيها ونتغطىى بالشبك المموه ، حتى تغرب الشمس.
في اليوم الاول اخرجت مصحفي و تحديت نفسي ان أقرأ القرآن كله قبل غروب الشمس ، و ظللت أقرأ بصوت خفيض حتى وصلت إلى قصار السور قبل المغرب ، وعندما غربت شمس اليوم الاول صعدنا أعلى الحفرة، ونظرنا لبعضنا البعض كالذئاب التي تلتمع عينونها في الظلام ، خرجنا من الحفر وتعانقنا وكأننا لم نلتق منذ فترة وبدأنا المسير ، قالت البوصلة والعداد اننا مشينا في اليوم الاول سبعة وعشرون كيلومترا ، قائد المجموعة كان يقرأ النجوم وعدادان منا كانا يعدا الخطوات ، يضعان الحصى فى الجيب وكلما مشينا مائة خطوة نقلو الحصى للجيب الاخر ، وعند منصف الليل جلسنا نأكل لقيمات قليلة لا تجعل الانسان منا في حاجة للغائط، وشربة مياه من غطاء الزمزمية ، ونبدأ المسير فتنفرد شاشة الليل أمامك سوداء كشعر من تحب كالاسفلت الذى يعود بك للبيت كالعسل من البلاص ، كهباب الفرن المتصاعد ، فيصالحك الليل على اللون الكئيب الذي كرهته في ملابس الحداد حين مات أخيك الاكبر ، و في الغراب الناعق فوق الساقية ، لكن هذا الاسود يختلف هذا الاسود مشرق يخبئ وراءه حلاوة النصر هذا الاسود الشفاف يكاد غدا يبين من تحت ردائه ، يا شمس لا تشرقي كي تسير القدم أقرب وأقرب الى الهدف، يا شمس طلَعت على الحقول هناك وملأت خضّار الأرض نورا هلا استّبد بك النوم قليلا ، لكن ملائكة الصبح ايقظوها، فعدنا نحفر في الارض حفرا بطول الواحد فينا ونسقط فيها ونغطي الحفرة بشباك كلون الصحراء ، لنجلس في صمت النهار ننتظر الليل ، في هذا النهار حاولت أن أتذكر ذنوبي ذنبا ذنبا واستغفر الله عن كل ذنب على حدا ، غصت في طفولتي عاما دراسيا تلو العام، تمحصت أكثر وأكثر فيما اقترفت يداي ، نظرت إلى حياتى بنظارة معظمة كالتي في يد القائد ، يوم سرقت كوز الذرة ، ويوم نظرت على الجارة وهى تستحم ويوم كذبت على أمي وقلت لها اننى أرى الرئيس في الحرس الجمهوري كي تطمئن ولا تصدق ما نقلوه لها عن دخولي إلى الصاعقة ، تذكرت ان إماما قال: استغفرت ثلاثين سنة عن قولي مرة الحمد لله ولما سألوه : كيف ذلك ، قال: سمعت ان حريقا نشب ببغداد فهرولت عائدا اليها فقابلنى رجل وقال قد نجا حانوتك فقلت “الحمد لله ” فحمدت الله ان لم يصيبني الضر دون الناس وان حانوتي لم يحترق دون عن حوانيت الناس.
يا شمس لا تغربي قبل ان اتذكر كل ما اقترفت يداي، لكنها غربت وبدأنا المسير مرة أخرى إلى مطار المليز هناك سنقدم هدية الرئيس وعلينا ان نصل قبل فجر الخامس من يونيو ، وعلى الاعداء ان يستيقظوا في ذلك اليوم على انفجار طائراتهم الجديدة و يستقبلون يومهم بموت حراس المطار ، والمطار يبعد تسعين كيلو مترا في الصحراء ، لكننا سنأتيكم مشيا، سننبت من الارض نارا.
أربعة ايام مرت قرأت القرآن كله في أولها، واستغفرت في نهارها الثانى، وحفظت خمسة اجزاء من القرآن في ثالثها، وتركت رابعها للنوم الذي لم أهنأ به في نهار الايام الاولى الا ساعات قليلة، ولما جائت اليلة الرابعة كنا على بعد أربعة عشر ميلا من المليز ، هرولنا في المشي لكن قائدنا نهانا عن ذلك فليس علينا ان نصل قبل الرابعة وليس علينا أن نهدر الطاقة داخلنا ، وعلينا ان ندخل أرض المطار بعيدا عن أى الغام ، يجب ان ندور حول المطار نصف دائرة لكي ندخل من نقطة قليلة الحراسة تدخل منها سيارات المؤن.
بدا المطار قريبا والانوار تتلألأ من بعيد ، والانوار البعيدة في الظلام تنتفض في ايقاع سريع وكأنها ترقص ، وعلينا ان نجعل تلك الرقصة هي الاخيرة ، علمت من القائد ان عرب البادية سبقونا الليلة السابقة وقصوا فتحات فى السلك الشائك ليوفروا علينا الوقت الطويل الذى يستغرقه ذلك ، وعندما وصلنا إلى تلك النقطة لم نجد الفتحات التي سنعبر منها، هرول قائد المجموعة في محازات السلك الكثيف بلا جدوى ، لا أثر لتلك الفتحات و ليس لدينا مقص الاسلاك الشائكة فلو كنا حملنا المقصات فوق الامتعة البالغ ثقلها أربعين كيلوجراما، لكانت أعاقتنا بحجمها الكبير ، فماذا نفعل والهدف على بعد أمتار؟
أمرنا القائد ان نحفر تحت الاسلاك ونعبر من تحتها ففعلنا ، استغرق ذلك وقتا طويلا ولم يعد لدينا وقت لنلتف حول المطار فمشينا على مدرج الاقلاع ، فهذا مكان آمن من الالغام لكن حراسته شديدة ، بدى ما نفعله هو انتحار حقيقي، سنمشي على المدرج كالاشباح في الليل وسندخل بيت الطائرات .
في تلك الساعة التى قبل الفجر يهدأ كل شئ؛ الساهر ينام، والمريض يستكين، والحراس ترتخي اياديهم وتزوغ أعينهم ، أخرجنا الخناجر وطعنا الحراس وكممنا أفواههم فماتوا بلا صراخ ، نفس الخنجر الذى قطعت به لحم أخي في الصحراء ، يدخل الآن في أحشاء من قطعوا رجليه هناك، مالك يا نصل الخنجر تفتك سريعا وكنت يومها لينا في يدي تذوب و تصدأ في الثانية التي وضعتك على اللحم الشريف ، عب الان من دماء جعلتك تفعل ، قطّع أحشاء من جعلوا رجلا شرب شايك ، وفلح أرضك ، وأكل فولك يمشي على زراعيه كقارب تأئه في المحيط والذراعان مجدافان ، أما ذلت تذكر خوذته التي أحاطت بتلك الرأس الأبي؟ تلك الخوذة التى حوت اسمه وصورة طفلته الباسمة ، ورأس ابيك الطاهرة لآخذ لك ثأره يا ابنتى.
وصلنا لهنجر الطائرات رأينا ست أشباح تقف في الظلام ، هل زرت عش الرخ من قبل؟ هل رأيته نائما مغمض العينين؟ هل تحسست بيدك منقاره البغيض الذى أكل عمر أخوانك ؟ أنتِ التي حلقت فوق رؤوسنا بجسدك الناعم كالحية ، وبمنقارك الغاشم كالغراب ، ها انت ترقدين في قاع السكينة وبعد دقائق سيحترق ريشك الذى فردتيه كالطاووس ، لا تستحقين حزن ألمَّ بصعيدى من بنى مرة ، لا تستحقين الا خليطا من ال”تي ان تى” ومفجرا وسلكا يطول خمسة أمتار لتموتين ، اسمعى جيدا عندما يسقط ضى الشعلة التي تشعل الفتيل الطويل ويسقط ضوءه على جسمك المصقول وزجاجك اللامع ستبدوا تلك الشعلة الاتية على مهل وكأنها دمعة في زجاجك تقترب وتكبر ولن تسحبها مآيقك ستقترب وتقترب ، هذه دمعة تأكلك كما أكلت الدموع أكباد الامهات المتشحات وقبل ان تصل اليك سأهرول نحو بلادى نحو القائد الاعلى لأقول له أوصلت هديتك بيدى وأقول لرجل سار على يديه فى الصحراء “حلق عاليا“.
ركضنا مبتعدين متحررين من الاثقال وعند السلك الشائك وجدنا العرب يقصون الاسلاك بعد ان تأخروا علينا يوما كاملا ، لم نعاتبهم بل مرقنا من الاسلاك وعدونا وكان هدفنا ان نبتعد عشرة كيلومترات قبل ان تصل الشعلة للمفجر ، ونحفر الحفر البرميلية ونسقط انفسنا فيها ، وعندما سمعنا الانفجارات خلفنا ، سجدنا على الارض ثم بدأنا نحفر ونحفر حتى عمقنا الحفر ونزلنا فيها، مكسنا يومين على حالنا لانبرح اماكنا لا ليل ولا نهار وفى اليومين لم أتذكر اي شئ كان عقلي فارغ تماما كصفحة بيضاء لا يفكر و لا يحلم ، نمت طويلا واستيقظت مفزوعا وفى كل مرة أحاول ان اتذكر هل نفذنا العملية ام اننا مازلنا في الطريق اليها ، في اليوم الثالث خرجنا من بطن الارض كأموات أحياهم المسيح ، مغبرين مسودة وجوهنا لكن في قلوبنا شمس تضئ الروح، وبدأ المشى ثانيا كان الامل يمشى امامنا وخطانا متحررة بلا أثقال الشّدة ولا أثقال القلب وعندما وصلنا إلى شاطئ القناة رأينا اللون الازرق لأول مرة منذ خمسة أيام ، فلم تر العيون غير أصفر الرمال وأسود الليل، تقدم الجميع إلى القارب وبعضهم القى نفسه في الماء اما ان فألتفت للخلف نظرت للجبال البعيدة هل تذكرين ايتها الجبال عندما رأيتك من زاوية ضيقة وفسحة رفع بها ذلك الرجل جسده وهو يمشى كالعنكبوت على الارض وبينما انا انظر للمدى وجدت على مسافة منى خوذة ملقاة على الرمال ، داخلها صورة صغيرة ،داخلني يقينا انها له، فجريت نحوها والزملاء يصيحون: أرجع أرجع وعندما وصلت إلى الخوذة رأيت طائرة عمودية تقترب وتفتح نيرانها على، تقلبت على الرمال و اختبأت خلف تلة صغيرة ، الطيار حلق حولى والرصاص يغوص في الرمال وانا اراوغ وأزحف واقفز والزملاء فتحوا النيران عليه لكنه أصر على أقتناصى ، أصاب أحمد ياسين الملاح في رأسه فلم يعد امام الطيار الا ان يستخدم صاروخا ، صاروخا كاملا لى وحدي وعندما وضعنى في مرمى النيران ادركت ان لا محالة فوقفت منتصبا ، أستقبل قدري ، بللت شفتى بالشهادتين ونظرت للطيار في عينيه ، ثانية لم تمر وسقطت على الارض والغبار حولي فعلها الجبان وقذف الصاروخ على رجل مفرد وفر هاربا ، للحظة لم أدر أحيا أنا أم سافرت الى هناك، لكن الالم بدأ يأتى كشلال دافق وعندما كفت الارض عن الدوران واستعاد عقلى وجوده رأيت العالم بعين واحدة وأدركت اني لم أمت بل ذهبت قدماى وزراعى اليمنى وعيني ، ظهر زملائي وحملونى على اعناقهم ورأيت أحمد ياسين يلملم ساقي وزراعي وكأنهم سيعيدون لصقهم مرة اخرى، خلع القائد سترته ووضعونى فيها و رفعونى منها كأنها نقالة لان الدماء كانت تسيل من كل مكان وانا جسد بلا أطراف غير زراعى اليسرى يتعذر حملى فمن اين يمسكوا بجسدي الغبي الذى لم يعبرمن بوابة الجنة، وضع ابن ياسين ساقاى معى في سترة القائد حتى ان انفى كانت تحتك بركبتي او من كانتى كذلك، في القارب فقدت الوعي أو مت ولم استيقظ الا في المستشفى ، وسط زملائي وعند الظهيرة وجدت المستشفى تعج بالحركة حملونى على كرسى متحرك الا بهو واسع وضعت فيه مائدة عظيمة وعلى المائدة ما لذ وطاب في البداية توقف عقلي ثانية وتهيئ لى انى في الجنة فالحور العين حولى فى ثياب بيضاء لا سوء فيها وزملائى ربما صعدوا معى والاكل والشرب فوق تخيلي ، جلسنا انا وهم في أدب وعقلي مشوش لا أفهم حتى رأيتهم يقفون “تماما” من حديد، فرفعت رأسي حتى رأيت الصعيدي الطويل و مهابته التى تظله ، أقترب مني وسلم على يدى اليسرى وقال : حمد الله على السلامة يا عبد الجواد سلمت الهدية ؟ قلت: سلمتها يا فندم ، قال لى :الله يسلمك يا بطل ، حكى قائد المجموعة له كل شئ حدث وكان يسمع و القادة الكبار حول الرئيس يسمعون كل التفاصيل حتى سمعته يقول انهم دفنوا زراعى وساقي في مقابر الشهداء فاندهشت فلم أكن أعلم، قلت لنفسي : على الاقل جزء مني فى الجنة
نظر إلى الصعيدي بنظرته الثابتة وقال: عايز حاجة يا عبد الجواد
قلت له: طلبين يا فندم قال: أطلب يا بطل
قلت: أزور رفاتى في مقابر الشهداء ، وأعود للجبهة ، أتذكر تلك الدمعة الابية التي قلت لك عنها سالت في اباء هذه المرة لكنه قال : طول ما لدينا هذه الروح لن ننهزم أبدا.