رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يؤكد أن الإشراف التربوي من عناصر العملية التربوية
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فريدريك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الشباب
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
امما لاشك فيه أن الإشراف التربوي عنصرٌ مهم من عناصر العملية التربوية؛ لما له من دورٍ كبير في تحسين أداء المعلِّمين؛ بل في الارتقاء بالعملية التربوية بجميع عناصرها، لكن الملاحَظ أن أغلب مَن كتَبُوا في هذا المجالِ يَربِطون تاريخَ الإشراف التربوي وظهوره، بالتاريخ الغربي والتطور الذي شهدتْه الحضارةُ الغربية، فيما يسمَّى بعصر النهضة الحديثة.
ومع تسليمنا بأن العلماء والباحثين والمفكِّرين في العالم الغربي، قد بذلوا جهودًا كبيرة في استنباط القواعد والنظريات العلمية المتعلِّقة بكثيرٍ من العلوم الإنسانية، إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون سببًا لتجاهُلِ الدور الريادي الذي أدَّتْه الحضارةُ الإسلامية، وسبْقها في التأصيل لكثير من العلوم والمبادئ العلمية، خاصة وأن المبادئ والأسُس التي قدَّمتْها الحضارةُ الإسلامية لم تقتصر على الجانب النظري فحسْبُ؛ بل كانت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالجانب التطبيقي، وبالتالي فهي مبادئُ ثبتتْ تجرِبتُها وتطبيقاتها، حتى ارتقتْ من مرتبة النظريات إلى مرتبة الحقائق العلمية.
ونظرًا لما تمتلكه حضارتُنا الإسلامية من رصيدٍ هائل في مجال الدراسات التربوية، وإحساسي بضرورة التعريف بهذا التراث العظيم؛ لذا فقد رأيتُ إعدادَ هذه الورقة المتواضعة حول موضوع: “الإشراف التربوي وإعداد المعلمين في السُّنة النبوية”، الذي تبلورتْ لديَّ فكْرتُه أثناء دراستي لمادة (الإشراف التربوي وإعداد المعلِّمين)، ضمن المواد المقررة لنيل درجة الماجستير في معهد الخرطوم الدولي للُّغة العربية، وكنتُ في الوقت نفسِه أعدُّ بحثًا بعنوان: “حقوق الإنسان في السنة النبوية”، حيث لاحظتُ أن لعملية الإشراف التربوي جذورًا راسخة في السنة النبوية، يمكن أن تُعِينَ المعلمين على أداء رسالتهم التعليمة بصورة جيدة، وأن هذه الجذورَ يمكن أن تمثِّل مدخلاً تأصيليًّا لهذا العِلم، الذي يعتبره الكثيرون من بَناتِ أفكار الحضارة الأوربية، دون أن يتلمَّسوا أصولَه ومنابعه في الهدْي النبوي، الذي عبَّر عنه رسولُنا الكريم – عليه أفضل الصلاة والتسليم – بقوله: ((إنما بُعثتُ معلِّمًا)).
وقد قسمتُ هذه الورقةَ – بالإضافة إلى المقدمة – إلى تمهيدٍ وخمسة مباحث، ثم خاتمة، ثم قائمة المصادر والمراجع، ففهرس المحتويات، وبالله التوفيق.
التمهيد
مفهوم الإشراف التربوي وإعداد المعلمين
ماذا نعني بالإشراف التربوي؟
الإشراف التربوي مصطلَحٌ حديث، لكنَّ لمضمونه جذورًا ممتدة في أعماق التاريخ الإنسانيِّ لكثيرٍ من الحضارات التي اهتمَّتْ بتربية أبنائها، وعمِلتْ على توفير الأجواء المناسبة لهم؛ لينشؤوا تنشئةً سليمة، متشرِّبين بالقِيَمِ والمُثُل والمبادئ التي تستند إليها تلك الحضارةُ.
والإشراف التربوي الذي نعنيه هو: “عبارة عن الجهود الفنيَّة المنظمة لتوفير الخدمة التعليمية الشاملة في الحقل التربوي، في مجال تحسين العملية التعليمية التربوية بجميع عناصرها، من معلمٍ، وطالبٍ، ومنهجٍ، وأساليبِ تقويمٍ، ووسائلِ تدريسٍ، فهو عملية قيادية تهدف إلى تحقيق أهداف التربية”[1].
وإذا استصحبْنا هذا التعريفَ، فإننا نجد له جوانبَ تطبيقيةً عديدة في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابتِه الكرام، يمكن أن نعتبرها نماذجَ مبكرةً في إرساء أُسس ومبادئ الإشراف التربوي نظريًّا وعمليًّا منذ ظهور الدعوة الإسلامية، التي كانتْ دعوةَ علمٍ وعمل ومنهج حياة، ولم تقتصر على الشعائر التعبُّديَّة كما يفهمها أهلُ الحضارات المادية المعاصرة اليوم من شرقيين وغربيين.
لكن دراسة موضوع الإشراف التربوي في السُّنة النبوية، يقتضي منا التمييزَ بين وظيفتين رئيستين للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في مجال العمل التعليمي، فهو حين يتعامل بنفسه مع شخص جاهلٍ، أو مبتدئٍ دخل حديثًا إلى الإسلام، ويعلِّمُه القرآنَ أو أحكامَ الإسلام، إنما يقوم بوظيفة المعلِّم، أما حين يتعامل مع شخصٍ قطع شوطًا في التعليم، وبدأ في مرحلة العطاء، أو كان يُهيَّأ للتدريس مستقبلاً، فهو بذلك يمارس وظيفةَ الإشراف التربوي، بالإضافة إلى وظائفه كنبيٍّ وإمام.
أما عن مجالات الإشراف التربوي التي نتناولها في هذه الدراسةِ، فقد رأى الباحث أن يستنير فيها بما جاء في كتاب “الإشراف التربوي على المعلمين”، حيث تقول مؤلفتاه: “إن قوة الدفع الأساسية للإشراف يجب أن يتسبَّبَ عنها تحسينُ تعلُّم التلميذ، وذلك عن طريق إجراءات مثل:
1- تغيير سلوك المعلم.
2- تعديل المنهاج.
3- إعادة تشكيل (تركيب) البيئة التعليمية”[2].
ولو أردنا تطبيقَ هذه الجوانبِ على الممارسات الإشرافية التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتَّبِعُها في سبيل الارتقاء بالعملية التعليمية في عهْده، فإننا نخرج بنتيجةٍ تؤكِّد سبْقَ معلِّمِ البشريَّة في تأصيل وتطبيق عمليات الإشراف التربوي، وريادته في هذا المجال، بصورة ينبغي أن يهتديَ بها علماءُ التربية في سبيل تحسين العملية التعليمية والارتقاء بها.
ومن هنا نحاول دراسةَ العمل الإشرافي للنبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال المجالات الثلاثة المذكورة، وذلك بجعل كلِّ عنصر منها في مبحث مستقلٍّ، وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول
مراحل الإشراف وإعداد المعلمين في العهد النبوي
مرَّتْ مسيرةُ الإشراف التربوي وإعدادِ المعلمين في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بمرحلتين أساسيتين، وهما:
المرحلة الأولى: مرحلة إعداد المعلمين قبل الخدمة على يد النبي – صلى الله عليه وسلم -:
إن المرحلة المكيَّة كلَّها تكاد تكون تطبيقًا لمتطلبات هذه المرحلة، خاصة في الفترة الأولى من الدَّعوة الإسلامية التي تميَّزتْ باتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرًّا للدعوة، وفي الوقت نفسه تكون مركزًا للإعداد وتأهيل المعلمين؛ ليمارسوا دَوْرَهم التربويَّ والتعليمي في نشْر العِلم والمعرفة في شتَّى أرجاء المعمورة، بعد تخرُّجهم واكتمال تعليمهم في هذه المدرسة الإسلامية الأولى.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يؤدِّي في هذه المرحلةِ دورَ المعلِّم، بينما يؤدي أصحابُه – رضوان الله عليهم – أدوارَ التلاميذ، حيث كانوا يتعلَّمون منه القرآنَ الكريم، وأصول الدين ومبادئَه، ويتشرَّبون ما يؤهِّلهم لأداء رسالتهم المرتقَبة.
ونجد بعضَ النماذج المتميزة من تلاميذ هذه المدرسة، الذين لم يقتصروا على التلقِّي فحسْبُ في هذه المرحلة؛ بل بَدؤوا يمارسون مهامَّ تعليميةً خارج الدار كنوعٍ من التربية العملية، والاستعدادِ المبكِّر لممارسة عملية التعليم؛ وذلك استجابةً لحاجة الدعوة ومتطلبات المرحلة، التي تقتضي توصيلَ رسالة القرآن إلى كل بيتٍ دَخَلَ أفرادُه في الإسلام، ولم تسمح لهم ظروفُهم بالتردُّد إلى هذه الدارِ، فكان الصحابة ممن رسختْ أقدامُهم في الإسلام، وتلقَّوا نصيبًا أوفرَ من التعليم – يزورون مثلَ هذه البيوتِ سرًّا، ويعقدون مع أهلها حلقاتِ تعليم القرآن، على نحوِ ما كان يفعل خَبَّابُ بن الأرَتِّ، الذي ضبطه عمرُ بن الخطاب في بيت أختِه فاطمةَ وزوجِها وهو يُقرِئُهما القرآنَ (والقصة مشهورة في إسلام عمر)[3].
ومن النماذج المبكرة التي مارستِ التعليمَ في هذه المرحلة: مصعبُ بن عمير – رضي الله عنه – الذي “بعثه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة بعد أن بايَعَ الأنصار البيعةَ الأولى؛ ليعلِّمَهم القرآن، ويدْعوهم إلى توحيد الله ودينه، وكان يُدْعَى المقرئ”[4].
لكن برغم وجود هذه النماذج، فإن السِّمة العامة لهذه المرحلة أنها سمةُ إعدادٍ وتأهيل، وأن دور الصحابة فيها تركَّزَ على جانب التلقِّي والأخْذ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإذا كان لهم نشاطٌ آخرُ، فهو في مجال الدعوة إلى الإسلام والدخول فيه، أما دورهم في التعليم والإقراء، فهو دور محدود؛ ولذلك نقول: إن هذه المرحلةَ تمثِّل (مرحلة التأهيل ما قبل الخدمة).
المرحلة الثانية: مرحلة الإشراف على المعلمين وتأهيلهم أثناء الخدمة من قبل النبي – صلى الله عليه وسلم -:
بوصول النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة، دخلتِ الدعوةُ الإسلامية في طور جديد؛ فقد أسفرتِ الهجرةُ عن قيام الدولة الإسلامية الأولى، وظهرتْ ظروفٌ جديدة، ومهامُّ عديدةٌ للنبي – صلى الله عليه وسلم – وصحْبِه الكرام، اقتضتْها هذه النقلةُ الحضارية الكبيرة، ومتطلباتُ الدولة الجديدة.
فقد أصبحتِ الدعوة الإسلامية معنيَّةً بشؤون الجهاد، وإصلاحِ المجتمع المسلم، وتحقيقِ الاكتفاء الذاتي، والتعاملِ مع المواطنين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، والعلاقاتِ مع الدول والإمارات المجاورة والبعيدة، وتبلغيها رسالة الإسلام؛ كلُّ هذه الأعباء أُضيفتْ إلى الأعباء الدَّعوية والتربوية والتعليمية التي كان يتحمَّلها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – حينما كان يربِّي أصحابَه ويُهيِّئُهم في مكة.
ومن هنا، فقد تميزتْ هذه المرحلةُ بأن مهمة التعليم فيها لم تقتصر على النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده؛ بل اشترك معه أو ناب عنه في أدائها كبارُ أصحابه من خريجي دار الأرقم، أو السابقين إلى الإسلام من أهل المدينة؛ ولذلك تمثِّل هذه المرحلةُ مرحلةَ الممارسة الفعلية لوظيفة الإشراف التربوي مِن قِبَلِ النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصحابة الذين بدؤوا يمارسون التعليم للداخلين الجُدُد في الإسلام.
ولعل مصعب بن عمير، من خلال الدور الذي أدَّاه، والذي أشرنا إليه فيما سبق، يمثِّل أنموذجًا للرعيل الأول من المعلِّمين الأوائل الذين أعدَّهم النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وتشرَّفوا بممارسة التعليم والتدريس تحت إشرافه وتوجيهه – عليه الصلاة والسلام.
وقد تزايدتْ أعدادُ المعلمين في هذه المرحلة، وتعدَّدتْ مهامُّهم، وتنوَّعتْ مواقعُهم، فهناك معلِّمون مبتعَثون إلى الأقاليم النائية، كاليمن، والشام، والبوادي وغيرها، وهناك معلمون في داخل المسجد النبوي الشريف، وهناك معلمون في داخل البيوت، ونحو ذلك، وكلُّهم يخضعون للإشراف والتوجيه من قِبَل النبي – صلى الله عليه وسلم – ويتلقَّوْن منه الإرشادَ والتصويب، في متابعةٍ متكاملة للعملية التعليمية بجميع عناصرها.
وما يدل على ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذاتَ يومٍ من بعض حُجَره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين: إحداهما يقرؤون القرآن ويدْعون الله، والأخرى يَتعلَّمون ويُعَلِّمون، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ؛ هَؤُلاءِ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلاءِ يَتَعَلَّمُونَ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا)) فجلس معهم[5].
المبحث الثاني
الإشراف النبوي الهادف لتحسين سلوك المعلمين
اهتمَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجانب السلوكيِّ لدى المعلِّمين من أصحابه، سواء الذين كانوا مقيمين عنده؛ ليعلِّموا الوافدين إلى المدينة والمهتدِين الجُدُد إلى الإسلام، أو الذين كان ينتدبُهم لتعليم الناس في الأقاليم والمناطق النائية عن المدينة.
فمن الأمثلة على إشرافه التربوي، وتوجيهاتِه للمعلمين المقيمين عنده:
قصةُ تعامُلِه مع الأعرابيِّ الذي بَالَ في المسجد؛ كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مهْ! قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُزْرِموه[6]، دَعُوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دَعَاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تَصلُح لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَر؛ إنما هي لذِكْرِ الله – عز وجل – والصلاةِ، وقراءةِ القرآن)) – أو كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم – قال: فأمَرَ رجلاً من القوم، فجاء بدلوٍ من ماء فشَنَّه عليه”[7].
وجاء في رواية للبخاري: فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوه وأهريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماءٍ، أو سَجْلاً من ماء؛ فإنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين))[8]، كما جاء في رواية أخرى: ((احْفِروا مكانه، واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا))[9].
ففي هذه القصةِ نجد مظاهرَ متعددةً من الممارسات الإشرافية، تهدف إلى تعديل سلوك المعلِّمين، وتحسينِ العملية التعليمية بعنصريها: المعلم والمتعلِّم.
حيث نبَّه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابَه إلى وجْه الخطأ في تصرُّفهم مع هذا الأعرابي الجاهل، الذي هو بحاجة إلى التعليم، لا إلى التعنيف؛ ولذلك ذَكَرَ العلماءُ من الفوائد المترتبة على هذا الحديث: “الرِّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه: دفعُ أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه))، قال العلماء: كان قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه)) لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرَّر، وأصلُ التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادتِه أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله، لتنجَّستْ ثيابُه وبَدنُه ومواضعُ كثيرةٌ من المسجد”[10].
ثم أرسى النبي – صلى الله عليه وسلم – قواعدَ الأسلوب الأمْثل لتعامُلِ المعلمين مع هذه الحالات، من خلال بيانه النظري: ((علِّموا ويسروا ولا تعسروا))، ((فإنما بُعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين))، ولم يَكْتفِ بهذا البيان النظري؛ بل أتْبعَه بتطبيق عملي حين دعا الأعرابيَّ وعلَّمه آداب المساجد، وأحكامَ الطهارة، ونحو ذلك، فكان حديثه تعليمًا للأعرابي (التلميذ)، وتدريبًا للصحابة (المعلمين).
أما إشرافه – صلى الله عليه وسلم – على المعلِّمين المبتعَثين إلى الأماكن البعيدة، فيتمثل فيما يلي:
1- اختيار المعلمين الأكْفَاء:
ويتجلَّى ذلك في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: جاء ناسٌ إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أنِ ابعثْ معنا رجالاً يُعلِّمُونا القرآنَ والسُّنة، فبعَثَ إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القُرَّاء، فيهم خالي حَرَامٌ، يَقرؤون القرآن ويتدارسون باللَّيل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيَضَعونه في المسجد، ويَحْتَطبون، فيَبيعونه ويَشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء”[11].
وهذا الحديث يكشف لنا عن جانبٍ تربوي مهم، لم تفطن له المدارسُ التربوية إلا في وقت متأخر جدًّا، مع أنه عنصر متجذر في التربية الإسلامية، ونعني به الوظيفةَ الاجتماعية للمعلم، بأن يكون له مساهمةٌ إيجابية في تقديم الخدمات الاجتماعية، وربط الأسرة المدرسة بالبيئة الاجتماعية المحلية، وهذا ما نجده بوضوحٍ كامل في وصف هؤلاء المعلمين بأنهم: “بالليل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون، فيبيعونه ويشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء”، ولا يتحقق هذا التفاعلُ الاجتماعي الرائع إلا بممارسة إشرافية متكاملة، حَظِيَ بها هؤلاء المعلمون على يد مشرفِهم ومربِّيهم الأول نبيِّنا محمدٍ – عليه الصلاة والسلام.
2- تزويد المعلمين بالنصائح والتعليمات النافعة:
ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – بَعَثَهُ ومعاذًا إلى اليمن، فقال لهما: ((بشِّرا ويسِّرا، وعلِّما ولا تنفِّرا – وأراه قال: وتطاوَعَا))[12].
ففي هذا الحديث نجده – صلى الله عليه وسلم – يزوِّد هذين المعلِّمَينِ بنصائحَ مفيدةٍ، بعضُها يتعلِّق بأسلوب التعامُل مع التلاميذ المتعلمين (التعليم، والتبشير والتيسير، وعدم التنفير)، ونصائحُ تتعلق بتعامُلهما فيما بينهما بأن يتطاوعا (يُطيع كلٌّ منهما الآخرَ)، وذلك بتحقيق الاحترام المتبادل بينهما، وهذا له أثَرٌ كبير في نجاح العملية التعليمية، خاصة في تلك الظروفِ التي كان فيها ارتباطٌ وثيق بين انتشارِ الإسلام ونجاحِ العملية التعليمية.
3- تشجيع المعلمين ورفع روحهم المعنوية:
إذا كان علماء التربية يُوصُون المشرفين التربويين بضرورة تشجيع المعلِّم، ورفعِ روحه المعنوية، وتعزيزِ ثقته بنفسه، فإن نبيَّنا – عليه الصلاة والسلام – كان أسبْقَهم إلى مراعاة هذا الجانب وتطبيقه على أرض الواقع، كما يتَّضح لنا ذلك في الحديث التالي:
عن أنس – رضي الله عنه -: “أن أهل اليمن قدِمُوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالُوا: ابعثْ معنا رجُلاً يُعلِّمْنا السُّنَّةَ والإسلام، قال: فأخَذَ بيدِ أبي عُبيدةَ فقال: ((هذا أمينُ هذه الأُمَّة))[13].
فهذه العبارة التي وَصَفَ بها النبيُّ – عليه الصلاة والسلام – مبعوثَه أبا عبيدةَ، كانت لتحقيق هدفين تربويين مهمين: أولهما: رفعُ الروح المعنوية للمعلم (أبي عبيدة)، وتعزيزُ ثقته بنفسه، وإشعارُه بثقة القيادة فيه؛ حتى يسعى للمحافظة على هذه الثقة، ويكون عند حُسن الظن.
والهدف الثاني: إعلامُ التلاميذ (أهل اليمن) بعِظَمِ مكانة هذا المعلِّم ومنزلته عند نبيِّ الإسلام؛ حتى يحرصوا على الاستفادة منه، ويُعامِلوه بما يستحقُّه من تقدير واحترام.
4- عقد اللقاءات مع المعلمين والتعرُّف على إنجازاتهم:
ومن الأمثلة على ذلك: لقاءُ النبيِّ – عليه الصلاة والسلام – مع مصعب بن عمير في بَيعة العقبة الثانية بعد عامٍ من بعثته إلى المدينة، حيث كان برفقته اثنان وسبعون رجلاً وامرأتان من الذين أسلموا وتعلَّموا على يديه، فكان ذلك تقريرًا عمليًّا رفَعَه هذا المعلِّمُ المتميِّز إلى مشْرفه العظيم – صلوات الله وسلامه عليه.
وقد يَحدُث بعد هذه اللقاءاتِ إذا حقَّق الصحابيُّ (المعلم) نجاحًا في مهمته، أن يعيد النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ابتعاثه إلى مكانٍ آخرَ؛ ليقدِّم لأهله ما يحتاجون إليه من تعليمٍ وإرشاد وتثقيف، كما في حالة معاذ بن جبل – رضي الله عنه – الذي استخلفه النبي – صلى الله عليه وسلم – على مكةَ عامَ فتحِها مع عَتَّاب بن أَسِيد (الوالي عليها)؛ ليعلِّم أهلَها، فجاء معاذٌ بعد أداء مهمته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فكان معه في غزوة تبوك، ثم بعثه النبي – عليه الصلاة والسلام – إلى اليمن بعد ذلك[14].
5- اختبار المعلمين والتعرف على قدراتهم العلمية:
وخير مثال على ذلك ما جاء عن أُبيِّ بن كعب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آيةٍ من كتابِ الله معك أعظمُ؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال: فضرب في صدري وقال: ((واللهِ لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المنذر))[15].
فسؤالُ النبيِّ – عليه الصلاة والسلام – لهذا الصحابي، ليس سؤالاً من أستاذ لتلميذ فحسْبُ، وإنما هو سؤال مشْرِف لمعلِّم؛ نظرًا للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها هذا الصحابيُّ أبي بن كعب، باعتباره أحدَ القراء المعدودين الذين جمعوا القرآن على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وكونه أحدَ كتاب الوحي، وتولى مهمة الإفتاء والتعليم في حياته – عليه الصلاة والسلام.
ولهذا يعقِّب النووي – رحمه الله – في شرحه لصحيح مسلم على هذا الحديث بقوله: “فيه منقبةٌ عظيمة لأُبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمه، وفيه تبجيلُ العالمِ فضلاءَ أصحابه وتكنيتهم، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يُخفْ عليه إعجابٌ ونحوه؛ لكمال نفسه ورسوخه في التقوى”[16].
6- متابعة المعلمين وتربيتهم روحيًّا وإيمانيًّا:
من مظاهر العمليَّة الإشرافية التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يؤديها تجاه أصحابه (المعلمين): عنايتُه بترقية حسِّهم الإيماني، وتعميقِ جانب الإخلاص لله – تعالى – وابتغاء رضوانه فيما يقومون به من مهامِّ التعليم والتدريس؛ ولذلك فقد كان – عليه الصلاة والسلام – حريصًا أشدَّ الحرص على ترسيخ عنصر الإخلاص ومراقبة الله – تعالى – في نفوس أصحابه، وعدم ترك النَّزَعات المادية والأهواء تتسلَّل إلى نفوسهم وتسيطر عليهم.
ولذلك نجده – عليه الصلاة والسلام – يَنهى أصحابَه عن أخْذ أجرٍ مادي في مقابل ما يقومون به من تعليمٍ للقرآن الكريم؛ ليبقى عملُهم خالصًا لوجه الله – تعالى – ويجدوا ثوابه عنده كاملاً يوم القيامة، وفي ذلك يروي عبادةُ بن الصامت – رضي الله عنه – قائلاً: علَّمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّةِ الكتابَ والقرآن، فأهْدَى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا، فقلتُ: ليستْ بمالٍ وأرمي عنها في سبيل الله – عز وجل – لآتينَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فلأسألنَّه، فأتيتُه فقلتُ: يا رسول الله، رجلٌ أهدى إليَّ قوسًا ممن كنتُ أعلِّمُه الكتابَ والقرآن، وليستْ بمالٍ، وأرمي عنها في سبيل الله، قال: ((إن كنتَ تُحبُّ أن تُطوَّق طوقًا من نارٍ، فاقْبلْها))[17].
وقد كان هذا الحديث مثارَ جدلٍ واسع بين العلماء حول حُكم أخْذ الأجرة على التعليم، حيث “ذهب بعضهم إلى ظاهِرِه، فرأَوْا أن أخْذ الأجرة على تعليم القرآن غيرُ مباح، وإليه ذهب الزهريُّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال طائفة: لا بأس به ما لم يَشْتَرِطْ، وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك آخرون، وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور”[18].
ولا يتَّسع لنا المجالُ لمناقشة كلٍّ مِن هؤلاء في أدلتهم وحُججهم، ولكننا هنا نشير إلى أن هذا التوجيهَ النبويَّ الكريم بمنْع الصحابي المعلِّمِ من أخْذ هديةٍ في مقابل قيامه بواجب التعليم، إنما هو نابعٌ من الفلسفة العامة التي كان يسير عليها المجتمعُ الإسلامي في ذلك الوقت، والمتمثِّلة في تقديم الهدف الأخروي على الهدف الدنيوي في جميع الحركات والسكنات، وهذا يتَّسق مع طبيعة الإشراف التربوي في مفهومه الحديث، حيث “يستمدُّ الإشرافُ فلسفتَه من فلسفة وأهداف المجتمع الذي يمارسه؛ فهو تعبير عن حياة المجتمع والمُثُلِ السائدة فيه”[19].
فهذه بعضُ النماذج التي تكشف عن الوظيفة الإشرافية التي كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يمارسها على المعلمين من أصحابه؛ بهدف الارتقاء بمستوياتهم العلمية، وتحسينِ أساليبهم التعليمية، وتعديلِ معاملاتهم السلوكية.
المبحث الثالث
الإشراف على المنهج وتعديله
يرى علماء التربية المحدَثون أن فكرة الإشراف التربوي على مناهج التعليم فكرةٌ جديدة تمامًا، أفرزتْها التطوراتُ الحضارية إبان الثورةِ الصناعية الحديثة التي شهدها العالم مع بدايات القرن المنصرم، حيث “بدأتْ مرحلةٌ جديدة لمفهوم الإشراف عندما أصبح تطويرُ المناهج والأساليب التربوية هو السائدَ في العملية التربوية، فقد أصبح الإشراف حقلاً تخصصيًّا في المواد الدراسية، ومهمة المشرف هنا هي مزيجٌ من متابعة تنفيذ المناهج المستحدثة، والعمل كمصدر معلومات للمعلم في حقل تخصصه”[20].
وهذه المقولة برغم أنها صحيحة من حيثُ الواقعُ العملي الذي كان سائدًا في الحقل التربوي عند ظهور نظريات الإشراف التربوي الحديثة، إلا أنها لا تشير إلى الأنموذج المبكر الذي قدَّمه النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصفه مشْرفًا تربويًّا في مجال تطوير المنهج وتعديله، وتدريب المعلمين على اتِّباع الأساليب السليمة في ممارسة العملية التعليمية.
ومن هنا نشير إلى بعض النماذج التي تصبُّ في هذا الاتجاهِ التربويِّ في المسيرة التعليمية للنبي – عليه الصلاة والسلام – مع صحْبه الكرام، وتتمثل مظاهرُ الإشراف النبوي على المنهج التعليمي في عهده – صلى الله عليه وسلم – فيما يلي:
1- تحديد المنهج التعليمي وتطويره:
هناك تعريفات عديدة قدَّمها علماءُ التربية للمنهاج، بصيغٍ مختلفة، وأساليبَ متعددةٍ، فيرى بعضهم “أن المنهاج هو: الإجابة على السؤال التالي: “ماذا تُعلِّم المدارس؟”، أما (سيرجيوفاني وستارات) فيستعملان التعريفَ التالي للمنهاج: “ذلك الذي يفترض في التلميذ أن يُواجِهَه، وأن يَدرُسَه، وأن يُمارِسَه، وأن يَحْذِقَه”[21].
أما ما يتعلَّق بتطويره وتعديله، فقد “اقترح تايلر (Tyler) أربعةَ أسئلة رئيسة تتعلق بالمنهاج والتدريس:
1- ما الأغراض التربوية التي يجب أن تسعى المدارسُ لتحقيقها؟
2- ما الخبرات التربوية التي يمكن توفيرُها، والتي تؤدِّي إلى تحقُّق هذه الأغراض؟
3- كيف يمكن تنظيمُ هذه الخبرات التربوية بفعالية؟
4- كيف نستطيع أن نقرِّر ما إذا تحقَّقتِ الأهداف أم لم تتحقق؟”[22].
وبالنظر إلى واقع العملية التعليمية في عهده – عليه الصلاة والسلام – نجد أن الغرض التربويَّ الأول والأساس، الذي يسعى المعلمون إلى تحقيقه من وراء نشاطِهم التعليمي – هو الجانبُ الإيماني المتمثِّل في فهْم تعاليم الإسلام فهمًا صحيحًا، والعمل على تطبيقها تطبيقًا كاملاً في حياتهم العملية بمجالاتها المختلفة.
ولهذا؛ فإن دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية هي الوسيلة الأولى لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي فإنها هي الإجابة المنطقية للسؤال الذي يدور حوله المنهجُ التعليمي: “ماذا تعلِّم المدارس؟”.
ومن هنا نجد أن محتوى المنهج التعليمي في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقوم على هذين العنصرين: القرآن والسنة؛ كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث مُعاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمَرَهما أن يُعلِّما الناسَ القرآنَ”[23].
2- مشاركة المتعلمين في اختيار المنهج:
لم يكن تحديد محتوى المنهج التعليمي مهمةً خاصة بالمشرف التربويِّ ممثَّلاً في النبي – عليه الصلاة والسلام – فحسبُ؛ بل كان للتلاميذ المتعلمين دورٌ في تحديد هذا المحتوى، على ضوء ما فهموه من متطلبات الحياة ومستجداتها، كما يدلُّ على ذلك حديثُ أنسٍ – رضي الله عنه -: أن أهل اليمن قَدِموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: ابعثْ معنا رجلاً يعلِّمْنا السُّنةَ والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدةَ، فقال: ((هذا أمين هذه الأمَّة)).
فهنا نجد أن المتعلمين أو التلاميذ هم الذين حدَّدوا محتوى المنهج التعليمي الذي يريدون دراسته، وهو الإسلام والسنة، وطلبوا من النبي – عليه الصلاة والسلام – بوصفه وليَّ الأمر، أو الجهة العليا المسؤولة عن مهمة الإشراف التربوي – أن يختار لهم المعلِّمَ المناسب الذي يقوم بتدريس هذا المحتوى، فاختار لهم أبا عبيدة – رضي الله عنه.
3- مراعاة التدرج في تطبيق المنهج:
من روائع الإشراف التربوي لدى النبي – صلى الله عليه وسلم -: تنبيهُ المعلمين إلى ضرورة التدرُّج مع المتعلمين في تطبيق المنهج التعليمي، بأن يكون الاهتمام أولاً بالأساسيات ثم الفرعيات، أو الأهم ثم المهم؛ حتى لا يكون هناك نفورٌ من التلاميذ، أو اختلاط في المفاهيم، إذا تمَّ تقديمُ المعلومات دفعةً واحدة.
ومن الأمثلة على ذلك: حديثُ ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث معاذًا – رضي الله عنه – إلى اليمن فقال: ((ادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن همْ أطاعُوا لذلك، فأعْلِمْهم أن الله قد افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذُ من أغنيائهم، وتردُّ على فقرائهم))[24].
فهذا الحديثُ يمكن اعتبارُه أصلاً للتدرُّج في تطبيق المنهج، كما يمكن اعتباره أساسًا لفكرة تعديل المنهج وتطويره بما يلبي احتياجاتِ المجتمع، ويتناسب مع تطوُّره الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ونحو ذلك.
4- كتابة المنهج وتوثيقه:
بالرغم من المفهوم السائد لدى كثيرٍ من الناس من أن فكرة الكتابة والتدوين لم تكن مستعملةً بصورة واضحةٍ في العصر الإسلامي الأول، فإننا نجد أدلةً تشير إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد اهتمَّ بجانب إعداد المناهج التعليمية، وسن كتابتها وتدوينها؛ لتكون نبراسًا يسير عليه المعلِّمون في سبيل إنجاح عمليتهم التعليمية على الوجه الأكمل.
ويبدو أن كتابة المنهج التعليمي جاءتْ في مرحلة متأخرة من حياته – عليه الصلاة والسلام – اقتضتْها ظروفُ المرحلة وتطوراتُ الحياة، حيث لم تَعُدِ التعليماتُ الشفهية تكفي لتلبية متطلبات العملية التعليمية التي كان يقوم بها أصحابُه المعلمون المبتعثون إلى الأماكن النائية، ولعلهم من خلال بعثاتهم السابقة اكتشفوا وجودَ بعض الظواهر والمستجدات التي تستدعي إعدادَ منهجٍ مكتوب؛ ليسير عليه المعلمون في عملهم التربوي، دون أن يحتاجوا إلى الرجوع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – في كل ما يطرأ لديهم من الأمور والمستجدات، خاصة مع بُعْدِ المسافات، وصعوبة المواصلات في ذلك الوقت.
وخيرُ مثالٍ للمنهج التعليمي المكتوبِ في عهده – صلى الله عليه وسلم – هو هذا الكتاب الذي كَتَبَه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزمٍ – رضي الله عنه – حين بَعَثَه إلى اليمن يُفقِّه أهلَها، ويعلِّمهم السُّنةَ، ويأخُذ صدقاتِهم، فكتب له كتابًا وعهدًا، جاء فيه ما يلي:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، عهدٌ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمَرَه بتقوى الله في أمْره؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره الله، وأن يبشِّرَ الناس بالخير ويأمُرَهم به، ويعلِّم الناس القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، ولا يمس أحدٌ القرآنَ إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق، ويشد عليهم في الظلم، فإن الله – عز وجل – كره الظلم ونهى عنه؛ وقال: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ويبشِّر الناسَ بالجنة وبعملها، ويُنذِر الناسَ النارَ وعملها، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدِّين، ويعلِّم الناسَ معالمَ الحج وسُننَه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر والحج الأصغر…)) إلى آخر هذا الحديث الطويل[25].
فهذه نبذة عن عناية النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمنهاج التعليمي وتطويره، في إطار ممارسته لوظيفته الإشرافية على مسار العمل التربوي المتبع في عهده – عليه الصلاة والسلام.
المبحث الرابع
إعادة تشكيل أو تركيب البيئة التعليمية
يرى التربويون أن “من طُرق تحسين التدريس التي تتضمن تغييراتٍ في المنهاج، وفي سلوك المعلم: طريقةَ إعادة تشكيل البيئة التعليمية، ويستطيع فريقٌ تعليمي (teaching team) أن يوفِّر تعليمَ مجموعة كبيرة، أو مجموعة صغيرة، أو فرد واحد، مضيفًا بذلك أساليبَ متنوعةً من التعليم، وموجدًا جوًّا مثيرًا يزداد فيه انتباه التلميذ… وقد تكون هناك حاجة إلى إعادة تنظيم أعضاء هيئة التدريس في المدرسة؛ لأجل تنشيطهم لتجويد التعليم؛ فرفقاء التعليم، ومعاونو المعلمين، والأقسام، والأزواج، والأسر التعليمية – تشترك جميعُها في تطوير منحى تعاوني لتعليم التلاميذ، وقد يتطلب تسهيلُ عملِ مثلِ هذه المجموعاتِ مساعدةً إشرافية”[26].
وقد لا يخطر في بال هؤلاء المنظِّرين أن رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة والتسليم – قد سبقهم إلى هذه النظريات، وطبَّقها تطبيقًا عمليًّا، أدَّى إلى أروع النتائج في مجال تحسين العملية التعليمية.
فمن النماذج التي نجدها في هذا الإطار: قصةُ عُمير بن وهب الجمحي، الذي هداه الله للإسلام، وشهد شهادة الحق، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئوه وعلِّموه القرآن))، فلما قدم عمير مكةَ أقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه أناسٌ كثير[27].
فنحن هنا أمام حالةٍ استطاع فيها فريقٌ تعليمي (teaching team) أن يوفر تعليمَ فرد واحد، مضيفًا بذلك أساليبَ متنوعة من التعليم، وموجدًا جوًّا مثيرًا ازداد فيه انتباه التلميذ؛ فأدَّى إلى تحقيق أفضل النتائج في أقل وقت ممكن.
وننتقل إلى أنموذجٍ آخرَ تتجلى فيه فكرةُ تعديل البيئة التعليمية بصورةٍ أكملَ وأوضح، وذلك في قصة وفد عبدالقيس التي يرويها أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – فيقول: “كنا جلوسًا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((جاءكم وفدُ عبدالقيس))، قال: ولا نرى شيئًا، فمكثنا ساعة، فإذا هم قد جاؤوا، فسلَّموا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال لهم النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((أبَقِيَ معكم شيء من تمرِكم؟ – أو قال: مِن زادِكم؟ -))، قالوا: نعم، فأمر بنِطَعٍ، فبسط، ثم صبوا بقية تمرٍ كان معهم، فجَمَع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابَه وقال: ((تُسمُّون هذه التمرَ البرنيَّ، وهذه كذا، وهذه كذا؟ – لألوان التمر -))، قالوا: نعم، ثم أمر بكلِّ رجل منهم رجلاً من المسلمين، ينزله عنده، ويقرئه القرآن، ويعلِّمه الصلاة، فمكثوا جمعةً، ثم دعاهم، فوجدهم قد كادوا أن يتعلَّموا، وأن يفقهوا، فحوَّلهم إلى غيره، ثم تركهم جمعة أخرى، ثم دعاهم، فوجدهم قد قرؤوا وفقهوا، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد اشتقْنا إلى بلادنا، وقد علم الله خيرًا، وفقهنا، فقال: ((ارجعوا إلى بلادكم))[28].
فمن هذا الحديث نستنتج عددًا من المبادئ التربوية الهامة التي تضمنتْها الممارسةُ الإشرافية للنبي – عليه الصلاة والسلام – والتي نلخصها فيما يلي:
1- تأليف قلوب المتعلمين، وكسر الحواجز بينهم وبين معلميهم:
يَظهر لنا هذا المبدأُ من خلال سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – أعضاءَ الوفد عما بقي معهم من الزاد، ولم يكن ذلك عن احتياجٍ لأخْذ ما تبقَّى لديهم من التمور؛ وإنما لتحقيق جوٍّ من التآلف والتواصل بين أعضاء الوفد، وبين أصحابه المقيمين معه في المدينة؛ بدليل أنه جَمَعَ أصحابَه لحضور هذه المناسبة السعيدة، وأكَّد هذا الاتجاهَ بذكر أسماء التمور بحسب المصطلحات المتعارف عليها عند أعضاء هذا الوفد القادمين؛ حتى يطمئنوا إلى توفر الأرضية التواصلية المشتركة بينهم، خاصة وأن اللغة أداةٌ للتواصل والتفاهم.
2- تطبيق مفهوم الأسر التعليمية:
يتمثَّل هذا المبدأُ في توزيع أعضاء الوفد القادمين على الصحابة، وإسنادِ مهمة تعليمية